بقلم: د. محمد البوجي
كيف رسمنا خريطة قريتنا يبنا من الذاكرة .. باللون الأصفر ثم عثرنا على خرائط من الأرشيف البريطاني . لاحظوا هل هناك فرق كبير .. في عام ألفين .. طلب مني أهالي قرية يبنا في اجتماع موسع لكبار القرية في مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين..
كيف رسمنا خريطة قريتنا يبنا من الذاكرة .. باللون الأصفر ثم عثرنا على خرائط من الأرشيف البريطاني . لاحظوا هل هناك فرق كبير .. في عام ألفين .. طلب مني أهالي قرية يبنا في اجتماع موسع لكبار القرية في مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين..
طلبوا مني أن أكتب كتابا عن قريتنا يبنا .. وعدتهم جادا في الموضوع ..وبدأت من خلال استبيان تم توزيعه على أهالي قرية يبنا في معظم أماكن سكناهم في قطاع غزة . وقد ساعدني في ذلك أخي الدكتور رياض علي العيلة ابن قريتنا والذي صار شريكي في صناعة الكتاب . أقول بحق ..كان من أصعب الكتب التى جمعتها . كنت أبكي والدمع يقطر على الورق حزنا على أهلي وبساطتهم في مواجهة المكر والقوى والاقتصاد الأوربي الأمريكي الزهيوني.
لم يكن لهم حيلة في وجه مؤامرات وقوات اوربية غاشمة ..أهلي الذين خرجوا من الحرب العالمية الأولى أشباه مجتمعات ومن الحرب العالمية الثانية وقد خسروا معظم اقتصادهم.
كانوا في حالة يرثى لها اقتصادية ونفسية . بعد أن تكالبت عليهم قوى رهييبة بخططها الإرهابية ضد شعب أعزل يخضع لحكم بريطاني صارم مجحف وقاتل .. كان حلمي أن أرسم خريطة قريتنا يبنا قبل النكبة بالتفاصيل التي سمعتها من جدي وجدتي ومن الذين عاشوا فيها بوعي قبل حرب النكبة ..إذن هي فرصة لربطها بالكتاب المنوي إعداده . في مخيم جباليا أعرف اثنين من قريتنا .أساتذة جغرافية . وهم خريجوا الجامعات المصرية تخصص جغرافيا ..إذن لا بد من الاستعانة بهم.
طلبت حضورهم في جلسة خاصة . شرحت لهم رغبتي في رسم خريطة لقريتنا قبل النكبة .. لم يكونوا جاهزين لمثل هذه الفكرة ..بدأت أوضح لهم وأشرح وأفصل .. طبعا وافقوا ..عادوا بعد أسبوعين ومعهم خريطة فيها بعض الملامح الجغرافية الطبيعية ..قلت ..لا .. أريد المزيد ..عادوا بعد أسبوعين ..قلت لا .. أريد أكثر. بدأت أشرح لهم ما في مخيلتي.. أريد الإطار الخارجي للقرية بالقرى المحيطة بها . ثم ندخل داخل القرية ونرسم أهم معالمها مثل المدارس والمطاحن والمقبرة والجوامع ... الخ وافقوا . عادوا بعد فترة يحملون خريطة كبيرة فيها تفاصيل مدهشة .. قلت ..هذه البداية ..علينا الجلوس مع كبار السن . كل يحدد جاره وأرضه وبيارته .. فعلا جلسوا مع السيد جورج سالم وكان يعمل سائقا في القرية ويعرف تفاصيل الشوارع والمعالم .. وفعلا بدأت الخريطة تأخذ معلما جديدا . وملامح مهمة جدا ..الآن مطلوب الانتقال إلى مرحلة تعزيز المعلومات .. بدأت الالتقاء مع كبار السن .
أجمع المعلومات من اجل الكتاب وتعديل الخريطة ..المشكلة الكبيرة ..أنني عندما اجتمع مع كبار السن مثلا سبعة أشخاص أو عشرة . وأفرد أمامهم الخريطة من أجل التعديل . فجأة أراهم في حالة عويل وبكاء حقيقي ومتواصل.. لم أتمالك . فأبكي معهم بكاء الأطفال . ثم نستريح قليلا ونبدأ في التعديل ..إلى أن صدرت مع الكتاب.
وقد كتبها الأستاذان إبراهيم ابو سالم ونمر إبراهيم جراد .وهما أساتذة الجغرافيا في مدارس مخيم جباليا . كتبت بخط اليد ..وتم طباعتها مع الكتاب عام 2000 م وتوزيعها مجانا بفضل مساندة بعض الشخصيات الميسورة من قريتنا .. بعد خمسة عشر عاما . عمل معنا في جامعة الازهر بغزة سكرتيرا لكلية الآداب الأستاذ مازن إهليل.
وهو من قريتنا ويحمل ماجستير في علوم الحاسوب . أشرت عليه إعادة رسم الخريطة على الكمبيوتر مطبوعة بخط واضح . وافق بلا تردد . بل قام جده علي إهليل بإضافات جديدة وكان عمره قد تجاوز التسعين . فعلا بعد عمل متواصل ومتابعة حثيثة نجح في رسمها وكتابة الأسماء بخط واضح .. وتم طباعتها على حساب أحد خيري قريتنا وتم توزيعها مجانا في قطاع غزة .. لاحظنا في السنوات الخمس الأخيرة ظهور خرائط تعود إلى الأرشيف البريطاني .منها خرائط لقريتنا . يبنا .. بدأت في عملية مقارنة .. وجدت أن الإطار الخارجي للخريطة قريب جدا من الصور البريطانيه عدا منطقة جنوبي القرية حيث دخلت أراضي قرية يبنا في مدينة اسدود .أي بين قرية بشيت واسدود . غير ذلك .. الخريطة التي أنجزناها من ذاكرة الشعب . هي خريطة دقيقة تماما وتمثل جوهر معالم قريتنا يبنا بالتفاصيل .كل شجرة وكل بيت وكل بيارة وكل مدرسة وجامع ..كل معالم القرية موجودة .. أقول انها تمثل أكثر من تسعين بالمائة من حقيقة القرية قبل حرب النكبة. وقبل أن يمسح ويطمس العدو ملامح وجود قريتنا .. هذه الخريطة شاهد على كل تفاصيل ملامح وشواهد قريتنا يبنا قبل النكبة.



