المعتدون ينكرون وجود ضحاياهم ويجحدون فضلهم بقلم حماد صبح
تاريخ النشر : 2021-10-19
المعتدون ينكرون وجود ضحاياهم ويجحدون فضلهم 

بقلم: حماد صبح
 
لم يفاجئني إنكار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وجود شعب جزائري حين احتلت فرنسا الجزائر في 1830 . هذا ما دأب عليه المستعمرون الأوروبيون في اندفاعاتهم العدوانية وراء الأطلسي وفي أفريقيا وآسيا ، ومن بعدهم المستعمرون الصهاينة في فلسطين . في كل مكان وصل إليه الأوروبيون زعموا إما خلوه من السكان ، وإما قلتهم ، وإما همجيتهم وأهليتهم للفناء لا للبقاء ، وإن كان عددهم كبيرا قالوا إنهم يريدون أن يستغلوا ثروات بلادهم الظاهرة والباطنة ، ويعطوهم نصيبا منها ، ويحضروهم.

وكل تلك المزاعم لتسويغ الاستيلاء على ما وصلوا إليه من أراضٍ وثروات ، ولإراحة ضمائرهم ، ونفي وحشيتهم ودمويتهم ، وإشباع غرورهم بذاتهم ليتحدثوا عن إنسانيتهم وتحضرهم ، ولتجنب دفع تعويضات لضحاياهم . 

في هذا السياق التاريخي سار ماكرون حين وجد نفسه محاصرا بين ذكرى مجزرة 8 مايو 1945 وذكرى مجزرة 17 أكتوبر 1961 . في الأولى قتل الفرنسيون والمليشيات الأوروبية 45 ألف جزائري ممن خرجوا في ذلك اليوم يطالبون سلميا بإطلاق القيادي الجزائري مصالي الحاج منشىء " حزب نجمة شمال أفريقيا " ، وباستقلال بلادهم في موجة الفرح العالمي بانتهاء الحرب العالمية الثانية ، وفرحة الفرنسيين بتحرر بلادهم من الاحتلال الألماني.

وفي الاحتفال السادس والسبعين بتلك الذكرى قال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون : " المصالحة مع فرنسا لن تأتي دون مراعاة التاريخ ومعالجة ملفات الذاكرة التي لا يمكن بأي حال أن يتم التنازل عنها مهما كانت المسوغات . " ، وأعلن عبد الحميد سلاقجي رئيس " جمعية 8 مايو 1945 " نية جمعيته التوجه لرفع دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي ضد الجنرالات والضباط الفرنسيين الأحياء منهم والأموات الذين اشتركوا في تلك المجزرة المأساوية الكبرى . 

واستبق ماكرون احتفال الجزائر بذكرى مجزرة 17 أكتوبر 1961 التي قتل فيها 300 وجرح 11 ألف جزائري تظاهروا سلميا في باريس مطالبين باستقلال بلادهم ، وبإلغاء حظر التجول على المسلمين الجزائريين الذي يبدأ من الثامنة والنصف مساء . ماكرون أراد أن يغلق الحساب مع الجزائر في ضربة واحدة سيرا على درب المعتدين الأوروبيين ، فأنكر وجود شعب جزائري احتلت فرنسا بلاده 132 عاما ، وقتلت 5 ملايين من مواطنيه ، وبعد أن هاج عليه غضب الجزائر لفريته المنكرة ، ومنعت سلاحه الجوي من عبور سمائها ، واستنكر مؤرخون فرنسيون وغربيون وجزائريون وعرب تلك الفرية العابثة ؛ سعى لتقليل ضررها على شخصه وعلى بلاده ، فزار موقع المجزرة ، ووقف دقيقة صمت ، واعتبرها جريمة لا غفران لها ، ونسبها لرئيس شرطة باريس سنتئذٍ موريس بابون تبرئة للدولة الفرنسية من المسئولية كأن موريس قتلهم وجرحهم لأسباب شخصية لا تنفيذا لأوامر وإرادة دولة . والمعتدون الأوروبيون والصهاينة ينكرون فضل ضحاياهم ، وهو إنكار غير مباشر لوجودهم . فلم تقدر فرنسا حين اقترفت مجزرة 8 مايو 1945 تضحيات 200 ألف جزائري قتلوا دفاعا عنها في الحرب العالمية الثانية . وذات الإنكار أقدم عليه الصهاينة في فلسطين ، فهم أبناء الثقافة الأوروبية الاستعمارية ، وهم أوروبيون عرقا باستثناء اليهود الشرقيين ، فكانوا امتدادا للثقافة والسلوك الأوروبيين . أشاعوا فرية خلو فلسطين من السكان ، ورتبوا على الخلو المفترى أحقيتهم بها من دون سائر البشر حتى ممن يجاورونها من عرب ومسلمين . وبعد أن أحسن الفلسطينيون إلى مهاجريهم الأوائل انقلبوا عليهم وجحدوا فضلهم وكشروا عن أنيابهم وما زالوا يكشرون . يكتب إيلان بابيه المؤرخ اليهودي الناقم على الصهيونية في كتابه " الفلسطينيون المنسيون .. تاريخ فلسطينيي 1948 " : " ... 

وفي معظم الحالات وفر السكان المحليون الفلسطينيون لأولئك القادمين الجدد وسائل الراحة من مبيت وطعام ، ولم يكتفوا بذلك ، بل قدموا لهم أيضا النصائح في مسائل الزراعة والحراثة ، وكانت معرفة أهل صهيون بهذا الموضوع ضئيلة إن لم تكن معدومة . ".

 فما ذا كان ثواب الفلسطينيين المحسنين للمهاجرين اليهود الغرباء ؟! يجيب بابيه :" لم يقابل المستوطنون تلك المعاملة الكريمة بالمثل ، ففي المساء ، أي في وقت انصرافهم لكتابة مدوناتهم الأولى أشاروا إلى المواطنين الفلسطينيين كغرباء يجولون في الأرض التي هي ملك للشعب اليهودي . " ، وما زال سجل إجرام دولتهم إسرائيل مفتوحا تضيف إلى صفحاته كل يوم جديدا في حق الفلسطينيين والعرب والمسلمين من جرائمها ومؤامراتها الخسيسة الانتهازية . تلك هي أخلاق ومسلكيات المعتدين الأوروبيين والصهاينة قديما وحاليا في التعامل مع ضحاياهم ، وفي ضوء هذه الحقيقة المتوحشة المظلمة يجب أن يعاملهم ضحاياهم من العرب والمسلمين وسواهم . الصهيونية التي هي نسل أوروبي عاملت ألمانيا ابتداء من هذا الأساس ، فأصرت مدعومة بمن هزموا ألمانيا على تعويض القتلى اليهود الذي زعمت أنهم 6 ملايين ، ومن المؤرخين اليهود من يؤكد أنهم نصف مليون . 

وهيأت إسرائيل إحضاءاتها مبكرا لطلب تعويضات لليهود العرب ، وستبدأ فيه بعد أن يتوسع التطبيع ويستقر مع تلك الدول ، ولن تجرؤ دولة عربية على الامتناع . العصا الأميركية مجهزة ، وقدرة إسرائيل على التأثير في تلك الدولة بعد التطبيع ستكون طليقة اليد . 

نحن نتعامل مع شياطين من الإنس ، وما لم نعاملهم بصفتهم هذه سنكون دائما ضحايا لهم في دمائنا ومالنا ومصيرنا ، وأقر مناحيم بيجن رئيس وزراء إسرائيل الأسبق بالتفوق حتى على الشيطان في الكيد والخبث في معاملة الفلسطينيين ، فقال مفاخرا : " نحن نعامل الفلسطينيين بأساليب لا تأتي في بال الشيطان . " .