إشكالية التجنيس الأدبي عند الأديب عبد القادر فارس بقلم د.محمد بكر البوجي
تاريخ النشر : 2021-10-13
إشكالية التجنيس الأدبي عند الأديب عبد القادر فارس      بقلم د.محمد بكر البوجي


إشكالية  التجنيس الأدبي عند الأديب عبد القادر فارس

بقلم: د.محمد بكر البوجي

بناء على دعوة كريمة من لجنة التراث الفلسطيني  في مدينة (تورنتو) في كندا  ، جهزت نفسي للسفر وركوب الطائرة مدة اثنتا عشرة ساعة متواصلة . من مطار القاهرة صعدت طائرة  الشركة الفلسطينية للطيران التي تم تأسيسها عام 1934 في مدينة حيفا ، كانت الطائرات  الفلسطينية  تهبط وتنطلق  من مطار اللد إلى معظم أرجاء المعمورة.  ثم جاؤوا وسرقوا الوطن والمطار بكل ما فيه ، ثم غيروا الاسم  حتى لا يظل رمزا لفلسطين عبر العالم ،  اتخذت موقعي في الطائرة،  نظرت في الركاب  رأيت في أقصى اليمين من يلبس طاقية أو قبعة خضراء مع لحية تتدلى شعيراتها الى الصدر  قلت : اعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ورانا ورانا . 

المهم ربطت حزام الكرسي انتظارا لحظة انطلاق  الطائرة ،  كانت تسير الطائرة فوق الغيوم بأكثر من سبعة ألاف متر . فجأة مالت الطائرة نحو اليمين بطريقة صاروخية نحو  الغيوم ، الركاب يصرخون  وبعضهم  يتشاهد ،  ثم مالت نحو اليسار ميلة صاروخية أخرى ، ثم نحو اليمين .. تذكرت حياتي في  غزة  وحياة أهلي هناك ، ثم استقر الوضع على قلق ، تذكرت  قول شاعر العروبة المتنبي  حين يركب ناقته : على قلق كأن الريح تحتي ...أوجهها يمينا أو شمالا ، هل عاش المتنبي في غزة ! وهل ركب معنا طائرة يركبها  يا أمة ضحكت من الأمم ،  بعد مشقة السفر  وصلنا الاراضي الكندية . كنت قد اتفقت معه على أن يستقبلني في المطار حتى لا أشعر بالغربة حين احتضنه ، فعلا بعد خروجي من بوابة المطار  الدافئة وجدته بانتظاري . 

هو هو . كما هو لم يتغير فيه شيء  ، حتى الزمن هنا لم يفعل فعله .يبدو  أنه تجمد هنا ، بل رايته  قد ازداد بريقا وبهجة ، لا أعرف ربما المرض في غزة و ضعف إمكانات العلاج . أخذني وهو يرتب على كتفي  ، أهلا أهلا  ريحة الوطن ،  كان استقبالا حارا ومضيفا راقيا كما عهدته في الوطن  ، إنه الكاتب الصحفي الأديب الراقي  عبد القادر فارس ابن مدينة خانيونس ،   قد لا يسمح لي الوقت بتذكر مذبحة خانيونس عام  1956 . دعنا نتحدث عنها فيما بعد .  جميلة تلك البلاد لكنها مقفرة لا حياة فيها ،لا حميمية فيها ، أين انت يا غزة  ، كل دقيقة سلام مربع من أحبتي . ضمن رحلتي أهداني صديقي  الكاتب عبد القادر  مجموعة  من كتبه ، فقد أنجز في الغربة ما لم ينجزة طوال عمره في الوطن . عاش في غزة بعد أوسلو عشرين عاما انتج خلالها ديوانا شعريا ومجموعة قصصية فقط  ، هنا في سنواته الخمس أنتج أكثر من عشرة كتب .

 سؤال يطرحه النقد ما السر ! وما علاقة الغربة بتدفق الانتاح الأدبي ! هل الفراغ  الزمني مع ازدياد كمية القلق الوجودي على الوطن ، يدفع المغترب إلى التفريغ عن مكنونات  نفسه قبل أن يصاب بلوتة ، سؤال بحاجة إلى  دراسات. ما لفت انتباهي في  ديوانه الشعري ( حين البدر اكتمل ) ديوان كله غزل ، من الغلاف وحتى الخاتمة ، لا أعرف السبب وراء تدفق الشعر الغزلي على قلوب شعرائنا حين يكبرون ! هنا أتذكر شاعرنا الكبير ، عمر خليل عمر ، كلما رأني عرض بل قرأ قصيدة غزلية  ، في لقاء معه في بيته في مدينة بيت لاهيا العامرة ، وكنا نزوره دوما ومعي أطفالي من أجل شجر التوت ، أتركهم يلعبون ويتشعبطون  ويأكلون حتى الشبع  ، سالتني زوجته الفاضلة ، أبو بكر  لماذا لجأ صديقك إلى شعر الغزل في آخر أيامه  قلت : ربما استراحة محارب ، وربما رغبة منه في العودة إلى النفس الطبيعية التواقة إلى إعادة مرحلة الشباب التي افتقدها في السجون في عهد الاحتلال ، ضحكت وقالت : والله انك صادق ، خلاص تم حل اللغز . هنا مع صديقي  الأديب الكبير  عبد القادر فارس نفس الدوافع أراها . هنا غزل صاف لا علاقة للوطن أو مزج الوطن بالمراة ،  غزل لا تشوبه شائبة ،  هنا نتساءل ، بعد الستين هل يكتب الشاعر غزلا حقيقيا ! يصعب الإجابة دون استشارة علماء النفس. لكن دعنا نقول :  قد يرى الشاعر صبية جميلة ويستعيد شبابه  خيالا فيقول شعرا ، أو يمكن أنه يتذكر طيش شبابه فيعاود الالتحام بتلك الفترة  ويتذكر ويتخيل ويكتب شعرا ، كأنه يتعايش مع تلك الفترة ويتلاحم معها ، هناك ايضا تساؤلات كثيرة في النقد الأدبي الفلسطيني ، هل يحق للشاعر الفلسطيني أن ينشر شعرا غزليا ! هنا أتذكر في لقاء متلفز مع شاعرنا الكبير هارون هاشم رشيد حينما تذكر قصائده الغزلية التي لم ينشرها في أي من كتبه  ، وقال :  كيف لي أن أنشر قصائد غزل وشعبي مشرد منكوب ،  ثم نشرتها أنا في أحد كتبي ،  كذلك حذف درويش قصائد غزلية التي نشرها  في ديوانه الأول ، عصافير بلا أجنحة  عام 1960 ، ولم ينشرها بعد ذلك . 

في ديوان شاعرنا عبد القادر لنا ملاحظات على قصائده الغزلية ، من حقه في حالة الغربة أن يقول ما يشاء ، لكن الصدق في الشعر هو أهم ما في الموضوع ، تجد تكرارا واضحا في صوره الشعرية مع أغلب القصائد  مستخدما نفس المفردات  التي تتكرر في أغلب القصائد ، هذا يعني أن شعر الغزل هنا نابع  من العقل وليس من الوجدان ، لأن الشاعر ليس عاشقا أصلا  ، إنما يحاول توهم ذلك ربما إعادة  انتاج لمرحلة الشباب . مما يجعل طاقة الصورة الشعرية أو طاقة المفردات ليست كبيرة ، أي تأثيرها على المتلقي بسيطة وغير متجددة . يبدو أن سبب تركه البلاد بحثا عن علاج حقيقي لصحته ، إضافة إلى الحصار الذي يفرضه الاحتلال على غزة ، هو غدر الأحبة له  يقول في قصيدة ، حب وغدر  ص 29

لا تقل يا صاحبي .. إنه الملل أو الضجر .. لا تقل لي إنه القدر .. إنه الغدر بعينه .. ومن صنع البشر!! ) الشيء الوحيد في هذا الديوان هو توظيف  بعضا من أشكال التراث مثل ، يا ظريف الطول  ص  25 ، و شكل الموشحات ص53 . نلاحظ أيضا على غير عادة الشعراء الفلسطينيين  عدم دمج الغزل بالمراة مع الأرض والوطن  جاء غزلا بحتا غزلا صرفا  لأن المحبوبة هنا من خارج الوطن فترة المنفى  فترة الشباب والدراسة الجامعية ، ربما .  أما ديوان ( في حب مصر ) فهو باللهجة العامية المصرية   مخلوطة أحيانا بالعامية الفلسطينية ،  قد لا أجد مبررا لأن يبدأ الديوان بثلاث مقدمات  للنقاد  ، هذه المقدمات لا تفيد الديوان بشىء ولا تفيد المتلقي بشىء  ، هي نتيجة  خوف الشاعر ،  أراد  أن يسند انتاجه الشعري بكلمات النقاد بما فيها من مديح وإطراء ، لجأ أديبنا إلى هذه المقدمات رغبة منه في التواصل الفكري مع أدباء داخل الوطن بقصد الرغبة في الالتحام  وهروبا من  الاحساس العميق بحالة الاغتراب، أحببت هذا الديوان لأنه يعبر عن ذاتي أنا شخصيا  ومعظم أبناء جيلي في حب مصر ممزوجا بعشق فلسطين ، هنا راوح الشاعر في قصائده بين مصر وفلسطين ، أراد  أن يربط بين القطرين برباط مقدس إنه الحب بين الشعبين ، فلسطين  تعشق مصر  التي دفعت غاليا من أجل فلسطين ، الزعيم ناصر أحب قطاع غزة ومنحه جزءا من اهتمامته الاقتصادية والسياسية والعسكرية ، و ما حدث في شرخ بسيط بعد الانقلاب الدموي للإخونجية في غزة قد  أثر على العلاقة مؤقتا  ، فقد فضح شاعرنا في هذا النص مجموعة الانقلابيين .يريد أن يقول : إن هذا الانقلاب ليس من أجل فلسطين ولا من أجل القدس  ، إنها ثورة جوعى مهمشين قفزوا من حالة التهميش والفقر إلى حالة الثراء الفاحش وتعدد الزوجات . في  كتابه ( الحمير تعلن النفير ) وقد أطلق  عليه أديبنا مصطلح  ، مجموعة قصصية ، لو تركها دون تجنيس لكان أفضل بكثير.

هذا الكتاب محير للقارىء والنقاد ، الشخوص واحدة والأحداث واحدة متواصلة من البداية حتى النهاية المناخ العام واحد في كل تجلياتها  ، استطيع بكل هدوء أن أقول أنها رواية . وقد أدخلنا في هذه الإشكالية غسان كنفاني في روايته أم سعد ..وإميل حبيبي في سداسية الأيام الستة . وفي مسرحية  لكع بن لكع . هل هي مسرحية  أم رواية . 

إشكالية قد تتكرر مع بعض الكتاب دون وعي مسبق ، أو بقصد دربكة النقاد وإظهار براعة الكاتب في تضليل النقاد فترة من الزمن . أما كتاب ، أحلام حائرة ،  فهي قصص قصيرة مترابطة ، فيها جزء من سيرة ذاتية  للكاتب أو معارفه أو مرحلة مرضه كما صرح بذلك في المقدمة.  انها تجربة حياتية قاسية فيها من الآلآم ما يكفي لأن ننحني للكاتب على صموده الأسطوري في الحياة ، إنها سيرة فلسطيني عاش حالات خاصة لا تنطبق  إلا عليه فقط . انه الانسان الفلسطيني الذي عاش حياة الغربة والترحال من مكان إلى آخر ومن عمل إلى آخر بحثا عن ديمومة الحياة  أملا في عودة حقيقية إلى أرض الوطن وإلى لقاء الأحبة .

صديقي وأخي الكاتب  عبد القادر فارس  يعيش الآن حالة من الاغتراب الحقيقي  يتتبع كل تفاصيل  تقلبات المجتمع والأهل وكل سلوكيات الاحتلال والحصار والحروب على الأراضي  الفلسطينية،  يكتب ليعبر بقلمه  ليس عن ذاته فحسب وإنما عن قضايا ملحة ، قضايا وجودية  ، فامتلأت كتبه بالطاقة الحيية الدافعة نحو حب الحياة وحب الوطن رغبة منه في رؤية وطنه مثل كل الأوطان بلا احتلال بلا حروب بلا نزاعات بلا انقسامات.

هذا ما يريده أديبنا الكبير ،عبد القادر فارس . أعتقد أنه لا زال يملك قدرات وطاقات للكتابة عن ذاته وعن وطنه وعن الأمة العربية  ، كاتبنا عروبي ، عاشق للعروبة ، ناصري عاشق لأفكار الزعيم التحررية . كيف لا وهو من تربي وعاش وتشرب أفكار ناصر الثورية . أخي وصديقي الكاتب عبد القادر  فارس ،  رايتك في المنام وقد التقيتك في  مدينة تورنتو الكندية ، إنه حلم بل قل كابوس سيطر على خلدى ، فرأيتك وقد طاحت بنا الطائرة وتمايلت على وشك السقوط في قاع بحر غزة .  أشكركم على هذا الترحيب بنا وكرم الضيافة وحسن اللقاء ، أرجو أن نلتقي  على أرض وطن محرر من كل أنواع الاحتلال والعبودية .