أحداث مؤلمة في تاريخ فلسطين بقلم د. حسن عياش
تاريخ النشر : 2021-10-11
أحداث مؤلمة في تاريخ فلسطين

التاريخ الشفوي: أرشيف مضاد للاستيطان وطمس التاريخ الفلسطيني.

بقلم: د. حسن عياش

 هناك اهتمام بإنعاش التاريخ الشفوي عند كل الشعوب، فتعمل على تدوينه وتسجيله، خشية ضياع أصوله مع تقادم الأيام، وغياب كبار السن، هم التاريخ الحقيقي غير الموثق، يهدد باختفاء الموروث التاريخي من خلال تدمير الشواهد الجغرافية والتاريخية والدينية للأماكن الفلسطينية، وإذا كانت عمليات مصادره الأرض وتهويدها ماضية، فإن عملية استهداف الإنسان الفلسطيني تسير وفق خطط منهجيه تقود لتجهيله من خلال سرقة الموروث والمخزون التراثي. فالاحتلال يعمد إلى طمس الملامح العربية "الإسلامية والمسيحية" في فلسطين وكل ما هو موجود وشاهد على قدم الوجود العربي فيها، ليوهموا العالم بحقيقتها عبر الطمس والتزوير، وإزالة كل ما يدل على ملكية فلسطين لأصحابها.‏

إن التاريخ المدون ولد في أحضان التراث الشفوي، ومن هنا فإن متابعة كبار السن الذين عايشوا الأحداث المعاصرة، ونخص هنا النكبة، أي سنة 1948م، تلك السنة التي طُرد فيها الشعب الفلسطيني من بيته وأرضه وخسر وطنه، وكانوا شهوداً على أحداثها أمراً في غاية الأهمية، كما أن مقابلتهم وتدوين مشاهداتهم، هو في النهاية المحافظة على الحقوق الوطنية واستحضارها، وحفظها وتذكرها ونقلها من جيل إلى آخر.

وفي هذا المجال قمت بالعديد من المقابلات بالتسجيل (صوت وصورة) على مدار عشر سنوات وبجهد شخصي دون أي مساعدة أو حتى انتباهة من أي جهة داخلية أو خارجية، وقد حفظت مقابلات تعود لكبار السن - مخزون الذاكرة الجماعية لجيل النكبة- من قرى مدمرة وبالتحديد قرى العرقوب، ممن تزيد أعمارهم عن السنتين عندما احتلت قراهم وطردوا منها. وكلها جاهزة لأستقي منها المعلومات عند الشروع بالكتابة، وجدير بالذكر أن كثيرا ممن قابلتهم قد غيبهم الموت.

أما دوافع الكتابة عن القرى المهجرة والمدمرة، فإنها نابعة أولاً من شعوري بالمتعة الممزوجة بألم ما جرى للشعب الفلسطيني عام النكبة، فأجد فيها نفسي تصل إلى أقصى درجات الهدوء للاستماع، وخصوصاً عندما تستدعي الذاكرة المواكبة للأحداث، فتجدها انعكاسا للمعاناة على مستواه الشخصي نتيجة طرده من أرضه، وبداية اغترابه، مما يجعل أقواله أثناء تلك الفترة زاخرة بالتجربة والصور والمشاهدات المشعة بالمعاني الفياضة وشعوره بالحزن الشديد، لأنه يعي كل لحظات حياته التي عاشها في بلده، وحجم الاضطهاد الذي لحق به وبشعبه، فينعكس أثرها في أعماق النفس لدى المستمع ويزيد الشعور بالألم والحزن.

وثانياً تدفعني لتغيير مدّعي المعرفة، والمزاودين من أصحاب الأفكار المشبوهة على أولى الأمر بأن الذاكرة الجماعية غيبت قصدا، وسماعي غير مرة أن القضية مباعة وتباع من خلال أوسلو وتبعاتها. وثالثا علاقتي مع العديد من الذين شردوا من بعض القرى المهجرة، وهي عوامل أجدها مهمة وقبل فوات الأوان مع وجود بعض شهود الأحداث من كبار السن، كلها دفعتني تجاه إجراء الكتابة للإسهام في المحافظة على التاريخ الفلسطيني خصوصا غير المكتوب، والإسهام في تثبيت الحقائق في وجه الكتابات الإسرائيلية المعادية بهدف طمس الحقائق وتزييفها، بمعنى ضمان الحفاظ على حقوقنا ووجودنا، وحتى نُفشل مقولة "الكبار يموتون. والصغار ينسون"، التي أطلقها ديفيد بن غوريون، مؤسس دولة إسرائيل، وتبناها فوستر دالاس أشهر وزراء خارجية أميركا في عهد الرئيس دوايت أيزنهاور، في حقبة الحرب الباردة، وهي مقولة تستهدف الإنسان الفلسطيني بغرض تفريغ الذاكرة الجمعية الفلسطينية من مخزونها الثقافي والفكري والتراثي، وتحمل في خفاياها التنصل من تبعات وتداعيات القضية الفلسطينية، وخاصة قضية الملايين من اللاجئين، ممن جسدوا المعاناة الإنسانية من جراء الاغتراب والإحساس بالظلم والتهميش والإقصاء ناهيك عن تجرع مرارة التيه خارج وطنهم.

وللحقيقة أقول إن ما لامسته ونحن نتجرع مرارة النكبة منذ 73عاما. أن الشعلة متواصلة كشرارة توقد نارا، شرارة تلد أخرى، هذه حقائق لامستها على الواقع في مخيمات اللجوء، ومن خلال مقابلاتي مع بعضهم في صبرا وشاتيلا وعين الحلوة في لبنان عقب مشاركتي في مؤتمر حول التاريخ الشفوي بدعوة من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في قطر، وانعقد المؤتمر في بيروت، وكذلك في مخيم اليرموك في دمشق ومخيم العائدين في حمص، أثناء مشاركتي في مؤتمر حول مدينة القدس، إضافة إلى المخيمات الفلسطينية في الأردن (الزرقاء، شنلر، الوحدات، حطين، ومادبا) وبالتأكيد المخيمات الفلسطينية في فلسطين مع التركيز على مخيمات بيت لحم.

وليس منا من يشك في أصالة عروبة فسطين ومدينة القدس –خصوصا- المستهدفة من الاحتلال الإسرائيلي وامتداها العربي والإسلامي، وفي الوقت ذاته لا نشكك في عمليات التزوير الإسرائيلية، وبقوة أكبر مما نتخيل ومنح الاحتلال للباحثين والمؤرخين الصهاينة كل من يؤيد الفكرة الإسرائيلية القائمة على الوهم بأحقيتهم في القدس، وخير مثال ما يحدث هذه الأيام من عمليات هدم وتهجير لحي الشيخ جراح وسلوان، وما يقوم به الاحتلال بإجبار بعض المواطنين هدم بيوتهم بأيديهم، والسؤال الملح هو كيف يُجبر إنسان على هدم أحلامه ومستقبله بيده؟ في نظر الإنسانية.

 وعلى صعيد ثقافة التزوير، فإن هناك أعمالا نشطة من خلال استخدام الموسوعات العلمية اليهودية والأجنبية ذات الامتدادات الأكاديمية في تأكيد انتماء القدس للتراث اليهودي، وأثر ذلك على العقلية الغربية، وهذا الأمر جدا خطير ومهم للغاية.

وأطالب القيادة الفلسطينية الانتباه إلى ذلك وإثارة الباحثين وعلى الأصعدة العلمية كافة، وفي مقدمتهم المؤرخين والأثاريين ممن يشهد لهم البحث العلمي الرصين والمتميز، وبعيدا عن المحاباة والوساطة من أجل المنفعة المادية التي تقتل المنهجية العلمية وروح العمل. تخلص لكتابة رواية تاريخية حضارية للقدس خالية من العبث والتزوير. ولأنه علينا أن لا ندع تاريخ الأمة الشفوي عبر مائة عام كانت حبلى بأحداث جسام، يستهلكها النسيان ....فإنني اتمنى تأسيس دائرة لتسجيل أسماء كوكبة من الرجال والنساء ممن عايشوا النكبة، وقبل فوات الوقت، ويفضل أن تكون دوائر خاصة في معاهد الأبحاث الفلسطينية تجمع الرواية الشفوية الفلسطينية غير المكتوبة وتفريغها وتحليلها وترجمتها إلى لغات أجنبية.

إن إيماناً كبيراً يحدونا وخاصة في فلسطين أن المعرفة هي أساس النجاح لمجتمع يدرك حجم الأخطار التي تحدق به – وبالطبع- فأنا لست في وارد الاطناب في الحديث عن أهمية التعليم الصحيح في تنمية الروح الوطنية وتعزيز قيمنا، فإنه بات من الممكن والقضية ليست شخصية، بل هي أساسا قضية وطنية؛ تهم مستقبل الأجيال القادمة. والشيء بالشيء يذكر فإن علم التاريخ وهو من أهم العلوم الموصلة إلى العلوم الأخرى، نجد شحاً كبيراً في التفكير والتحليل المنهجي، فمثلا المواد الضرورية التي تطلب من وزارة التعليم العالي ضرورة طرحها في جامعات الوطن في موضوع العلوم الإنسانية، وعلى سطرها الأول الدراسات الفلسطينية، القدس: الأرض والإنسان، جغرافية فلسطين، والتاريخ الشفوي قبل الضياع، والحركة الأسيرة. فإن بعضا من هذه المواد، تطرحها بعض الجامعات وعلى استحياء، وعندما يكون هذا الأمر مستشرياً، يحق لنا أن نعتب على وزارة التعليم العالي، حيث أن عددا لا بأس به من الجامعات تتبنى طرح هذه المواد نوعا من المسكنات أو المهدئات.

والأدهى من ذلك وأمر أنه وإن طرحتها فإن من يدرسها للطلبة، محاضرون غير متخصصين وأعرف منهم من يحمل شهادة في الرياضيات الاقتصادية وغيره في الشريعة، وأرى والحالة هذه من الأفضل إلغاءها لأن بعض مدرسيها تقبع في رؤوسهم أساطير، لا يدعمها أي دليل على الأرض إلا ما قد يكون على سبيل أعناق لأحداث تبنى على مقدمات فاسدة بفعل لوثة المخدر الأيديولوجي! فتأتي نتائجها فاسدة...

إذ انهم يتحدثون كما لو كنا - أصلاً - نمتلك مقومات الاقتصاد والاستقلال!! وان العالم كله - متآمر علينا وننسى معهما اننا جزء من دول العالم الثالث، فضلا عن وجودنا تحت الاحتلال.. .

ان هذا الفكر يعاني من مشكلات عدة ليس أقلها مشكلتهم مع الأفكار التي تصنع الأرض الخصبة لصناعة التطرف والكره والتأهب للدفاع عن اللاشيء... إنها تقبع في الرؤوس ولا يدعمها أي برهان، أقول ذلك وأنا أعرف غيرتكم على منظومة التعليم ورغبتكم الأكيدة في تصحيح اختلالاتها في ظل حجم التهويد الإسرائيلي للمناهج في القدس، وهي دعوة تبقى على قائمة الانتظار.

سأتذكر قول ديغول......ماذا فعل بعد عودته إلى فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية عند تحريرها على أيدي الحلفاء؟ فهو لم يسأل ابتداء إلا عن حال الجامعات، على الرغم من ضخامة الخراب الذي أصاب فرنسا آنذاك. فأُخبر بأنها بخير إلى حد ما، فقال يمكننا إذن إعادة بناء فرنسا!!!!

وعلينا أن لا نفوت الفرصة، حيث أن هناك توجهات جادة من القيادة الحكيمة تجاه بناء الإنسان السليم، وجهود مخلصة بالعمل للمصلحة الوطنية، وليظل صراعنا الحقيقي من أجل النهوض هو الصراع المخلص لأجل الوطن، ووحدته وتلاحم شعبه بقيادته، ولنكن صادقين ونقطع الطريق على كل من يحاول أن يحول دون تحقيق الهدف، وتطلعاتنا إلى بناء دولة مستقلة وإنسان فلسطيني واع.

وفي الختام، إذا كان حب الوطن من الإيمان، فإن حب فلسطين يعادل الروح، وفي هذا سر بقائنا، لذلك فإن المحافظة على الذاكرة الفلسطينية في وجه كل المحاولات الإسرائيلية المعادية لطمسه وسرقته‏، يعني ضمان الحفاظ على وجودنا واستمراريتنا.