الكاتب الفلسطيني الكبير خليل حسونة والتوحد مع الوطن بقلم د. محمد البوجي
تاريخ النشر : 2021-10-11
الكاتب الفلسطيني الكبير خليل حسونة والتوحد مع الوطن       بقلم د. محمد البوجي
الكاتب خليل حسونة


الكاتب الفلسطيني الكبير  خليل حسونة  والتوحد مع الوطن ..

بقلم:  د. محمد بكر البوجي

أخيرا بعد غياب أكثر من خمسة عشر عاما التقيته في مكمنه الذي هاجر إليه مرغما بحثا عن لقمة عيش وأمان للعقل والروح.

أهداني أخي وصديقي الكاتب الكبير خليل حسونة ( أبو إبراهيم ) بعضا من كتبه، كنت أترقب قدومه على بوابة محطة القطار في أوسلو، وأنا اتلصص بعيناي السابلة خلف نظارتي السوداء  ، كيف يعيش هؤلاء بدون احتلال، بدون جيوش تقصفهم ليل نهار ، بدون زنانات فوق رؤوسهم تجلب لهم الصداع والنكد والتوتر العصبي ، إنهم شعوب آمنة لا مجال للنكد هنا أو الانفعال ، كل شيء يسير بهدوء ونظام . فجاة أجده أمامي على بعد خطوات ، ملامح الزمن تفعل فعلها لكن ابتسامته تمنحك السكينة  وتشعرك بالحب منذ الوهلة الأولى ، تعانقنا ثم أكرمني برحلة رائعة على شاطىء خليج أوسلو. 

كنت أتمنى ألا يحضر لي كتبا من مؤلفاته ، أنا الهارب من ضجيج العقل وكلام الوطن وذكرياته  أريد شيئا مغايرا ولو مؤقتا ،  أهداني كتبا ،  ابتسمت مجبرا وشكرته على هذه الهدية الجميلة ،  ندور في شوارع أوسلو ونحن نتحدث عن الوطن  ، ازدواحية عجيبة غريبة  دعنا يا صديقي نستمتع باللحظة  ونتحدث عن مشاهداتنا إنها جديدة مبهرة ، يسيرون مثل الملائكة لا صوت ولا ضجيج حتى السيارات تسير دون  أصوات الزامور المزعج .فلم أسمع زامورا إطلاقا ، تذكرنا بعض العواصم العربية وبلادنا وكيف يتجلى السائق وهو يضغط على زر الزامور  دون داع إنها هواية الإزعاح وثقافة الفوضى . 

الآن بدأت تقليب الكتب التي صارت جزءا من مكتبتي المتنقلة التي غالبا ما أتخلص منها بإهدائها إلى مكتبة عامة في المكان الذي أكون فيه خاصة مكتبة الجامعة . وأنا أقرا ما كتبه أستاذنا خليل حسونة أتذكره وهو في غزة يناقش ويحاور بكل ثقة واحتراف ، جاء إلى غزة متأخرا مع العائدين باتفاق أوسلو . وكان قد غادر غزة في مطلع شبابة للدراسة في الجامعة المصرية  قبل حرب 1967 . ولم يستطع العودة بسبب خضوع أرض الوطن للاحتلال العسكري . 

ذهب إلى ليبيا ، خلال عشرين عاما أنتج في ليبيا حوالي ثلاثين كتابا ، قال لي بفخر أنه كان يستلم خمسة الآف دينار ليبي على كل كتاب يؤلفه والطباعة على حساب الدولة ،  عند عودته إلى غزة  أنتج خلال أكثر من عشر سنوات حوالي عشرة كتب . أما في رحلته الأخيرة وغيابه عن غزة فقد أنتج حوالي ستين كتابا خلال خمسة عشر عاما ، إنها حالة نادرة تحتاج إلى دراسة ، تأثير الغربة على دافعية الكتابة ،  يسيطر على كاتبنا هاجس الشعور الرهيب بالاغتراب وإحساسه بالندم على رحيله الأخير يقول ذلك في روايته ( حكاية الحكاية ) ص٦٨ : ( لقد ظل الندم  الخطأ الثاني  الذي نقترفه ) هذا اعتراف واضح وصريح لأنه في ديوانه ( ويبحث في عينيها عن نهار )  تجده يعود إلى الجذور  ومحاولة الالتحام بها رغبة منه في عناق ما تبقى من عمر  يقول في ص٤٣(  وأنا أبكي على صمت العواصم .. والقواصم .. والصفاد . تصرخ أواه .. بلاد تمد أحلامها على شفة الغسق .. لعنة روحها المازوم . يرشف ما اتسق .. مخبأة في حنايا الفؤاد .. ليأتي المراد .. محملا بعطر شذاه )  لحظات مؤلمة يكتويها قلب الإنسان المعذب بعد هذا العمر  وانقضاء ما تبقى من عمره محروما من  شذا الوطن يقول في ص ٣٤( مضى عمر .. وضاع .. وأنا عالق بين أجنحة الصراع .. أجول بين عرين النجوم .. وسقط المتاع .. اذكريني واكتبي اسمي مع العابرين .. إلى الهاجس المر  ...صوب ظل الاله ..) إحساس عميق بالرحيل الأبدي بعيدا عن أرض ولد فيها وعاش طفولته وصباه على رملها .. هنا يحاول دمج  نفسه بعجينة الوطن .لا فرق . أنا هو . وهو أنا . رؤية صوفية حلاجية للذوبان بين حبات رمل شاطىء بحرها ..يقول في الديوان ص ٨٨ ( هما آيتان .. أنا أنت .. وأنت أنا .. كالنهر في البحر يجري .. وشاطئان ..يندغمان ) صورة وفكرة وتعبير واضح وصريح على ذوبانه الحلاجي في الذات الوطنية الطينية . لكن لا مفر أمامه الا الصبر .. الصبر  طعام الفقراء . ليس هناك حل آخر أمامه سوى الصبر . يقول في ص ٨٦ (يا صبر أيوب مهلا .. لحظة صمت .. صبر أيوب .. حب الأرض . لشعاع الشمس . عشق لا  يتوب ) قد يستحضر كاتبنا موسم أربعة أيوب على شاطىء بحر غزة حين كان طفلا ثم صبيا ثم شابا .. يرى كيف يتقرب الناس إلى إله أيوب طلبا لحاجاتهم .  هنا شاعرنا يعيد الحكاية نفسها ويسترجع سيرة نبي يضرب  به مثلا للصبر حتى يأتي الفرج..

كاتبنا يعيد الأفكار نفسها في هاجس الرواية ( حكاية الحكاية )  لكن بصيغة أخرى ، في الرواية يستذكر طفولته إبان نكبة 1948 يقول ص 149 ( في غزة ينتعل الأطفال  جلود أقدامهم ) وهذا حدث بالفعل مع كل أطفال فلسطين بعد للنكبة ، حفاة خاصة في هجير الصيف والرمل ساخن يصعب المشي عليه لكن لا بد من الصبر  . أيضا في الرواية يستحضر شيئا من تاريخ شعبه المشرد يقول في ص ١٠٠ ( إن شعبنا  يغني للحب وهو يعيش المعركة . لا يمكن أن يكون ضعيفا أو يائسا ) تبدو هنا ملامح تأثره بالثقافة الأوربية التي تدعو إلى المحبة في كل الظروف .  كاتبنا خليل حسونة من كتاب فلسطين  الكبار . إنه موسوعة علمية  أدبية وتاريخية وسياسية .لا يهدأ ولا ينام دون أن يفرج عن نفسه بالكتابة . كما قال لي : صعب أن أكتم أنفاسي وأقمع نفسي لا بد أن أكتب في كل الظروف ، كاتبنا لا زال لديه الكثير من الأفكار والمشاريع  الكتابية ، في الغربة  تحتاج إلى الكتابة  إلى التفريغ عن النفس  إلى الاحساس بذاتك أنت وسط هذا الهدوء القاتل والثقافة التي لا تعطي للحروب مجالا ولا الحديث فيها . إذن لا بد أن أكتب عن ذاتي وعن شعبي ، لا بد أن تصل أفكاري وثورة شعبي إلى كل العالم . 

يريد أن يقول : أننا  نمتلك ثقافة شعبية وإنسانية قبل نزول الأديان بآلآف السنين ،  ومن يدعون أنهم أولياء علينا وقد أقنعوا العالم بهذا  التزوير  والتضليل عليهم أن يعرفوا أن الشعب الفلسطيني  يملك مقومات حياته منذ  آلآف السنين  وأن الطارئين على وطني هم غرباء جاؤوا بأمر خارجي  لتنفيذ مؤامرات خارجية .  

كل الاحترام والتقدير  لكاتبنا  الكبير واستاذنا . ومنارة علم لشبابنا في المهجر .. كاتبنا تعددت  أساليب الكتابة لديه من الأدب الشعبي إلى الرواية إلى القصة والشعر ، أحيانا نراه يسرد حين يشعر ، ويشعر حين يسرد ، متطور ومتنوع في تقلبات سردياته مثل حال الوطن . يعد أديبنا الكبير مرجعا ثقافيا يغطي مراحل النكبة وحتى اللحظة ، فالأنساق الثقافية التي  تنسج خياله ومفرداته هي واقع هذا الشعب وما مر به من مؤامرات ظالمة  ويشمل هذه الأنساق  الفكر القومي العربي التي نشأ عليها وتشبع بها من عملاق القومية العربية الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.

فجاة دق جرس الباب  بريد  سريع من  صديقي خليل حسونة  في النرويج طرد فيه مجموعة كتب  ، هل فعلا أنا قابلته أم أحلام  .. بل كوابيس .. ومن منا ينام هادئا بلا كوابيس أو هواجس ، أنا هنا متعب من كثر  الكوابيس  ، كيف لي السيطرة عليها .أخي خليل حسونة  قضيت معك لحظات جميلة تحدثنا فيها عن كوابيس الماضي ونسينا المستقبل لأنه غير مرئي لنا . كوابيس الماضي تلاحقك في معظم  أحداث رواياتك وأشعارك وقصصك وكتبك السياسية والاجتماعية. امتزجت كل عناصر الحياة والموت في هذا الديوان الشعري ومعظم عناصر الثقافة العالمية من الكتب الدينية والأساطير والحكايات الشعبية العالمية..  كوابيس في نفوسنا حتى ونحن  نتلصص بأطراف أعيننا على جميلات أوسلو، فعلا هن من أجمل خلق الله ،  كان يحدثني عن نساء حمامة أثناء الهجرة عام 48 . والحمام المشترك في مدخل مخيم الشاطىء ، يستحم الرجال نهارا والنساء ليلا . صديقي أبو إبراهيم ،  دعنا  نعيش اللحظة  ونشاهد ما كنا نحلم برؤيته  الآن هو بين أيدينا و أمام نواظرنا ، جزر كثيرة وخلجان  تمخرها سفن تجارية وسفن فاخرة  للأثرياء هنا يخوت كنا نراها على شاشة التلفزة وننبهر . أخي العالم الجليل خليل حسونة  أعرف  أن كابوس  النكبة والوطن متلازمة بل و تحل في روحك وقلمك وأحلامك وكوابيس منامك .. حتى  لو عشت على  سطح القمر.. الإنسان ابن بيئته والكاتب الكبير  مثلك ابن حياته وحياة مجتمعه وفكره وهواجسه .. أرجو أن التقيك على حب وخير ..