الذكرى السادسة عشرة للانسحاب الإسرائيلي
تاريخ النشر : 2021-09-13
الذكرى السادسة عشرة للانسحاب الإسرائيلي 

بقلم: حماد صبح
 
حدث هذا يوم الاثنين ، الثاني عشر من سبتمبر 2005 . اليوم الذي ترقبناه بلهفة وأمل منذ أن قرر شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي الانسحاب من قطاع غزة يأسا من البقاء فيه لتعاظم تكلفة هذا البقاء موتا ورعبا للمستوطنين والجنود الإسرائيليين بعد اشتداد المقاومة الفلسطينية التي بدأت تمطر المستوطنات بقذائف الهاون المحلية التصنيع ، وتهدد أولئك المستوطنين والجنود في طرقهم الالتفافية ، وفي شارع صلاح الدين .لم تنسحب إسرائيل من قطاع غزة دفعة واحدة في يوم واحد . 

اتصل انسحابها قرابة شهرين ، نقلت إبانهما ما في مستوطناتها الإحدى والعشرين من مقومات حياة كاملة مؤمَنة مترفة . ولوقوع بيتي بين مستوطنة كفار داروم شمالا ، وشارع الشهداء حنوبا ، تسميه إسرائيل شارع كيسوفيم ، كنت أقف على سطحه ،وأراقب الشاحنات بمقطوراتها المحملة بمحتوبات تلك المستوطنات ؛ متجهة إلى أراضي ال1948 المحتلة . ومرة قلت في نفسي : " هذه مكونات دولة " . 

كان توالي تلك الشاحنات يشعرني بقرب اندحار الاحتلال الذي انقضى عليه حتى ذلك الزمان 38 عاما ، منها 11 عاما بعد أوسلو ترسخ فيها الاستيطان وتأمَن ، ولم يعترض ترسخه ويقلق تأمنه إلا اشتداد بأس المقاومة المسلحة التي شعرت أن أوسلو أقاد الاحتلال والاستيطان ، وضر الفلسطينيين ضرا عميقا محبطا . وردت إسرائيل على المقاومة باجتياحات لبعض المناطق بين وقت وآخر ، وبإغلاق جزء من شارع صلاح الدين أمام الفلسطينيين ، ابتداء من كفار داروم شمالا ،وانتهاء بشارع الشهداء ، كيسوفيم ، جنوبا في منطقة أبي هولي . وبدأ العالم يسمع عن حاجز أبي هولي الذي صار يفصل بين جنوب القطاع وشماله . وكثيرا ما أجبر الناس على البقاء والمبيت في منطقة الحاجز ليلة أوليلتين أو ثلاثا ، وكان ذلك يحدث أحيانا في رمضان . 

ومن المألوف أن يقتل جنود الحاجز من تأتيهم الأوامر بقتله بعد التعرف على هويته . ودأبتُ من فوق سطح بيتي على مراقبة ما يجري في كفار داروم من خطوات الانسحاب . وفي الواحدة من فجر الثاني عشر من سبتمبر ، كمنت مع اثنين من جيراني خلف تل ترابي سبق أن أقامته جرافة إسرائيلية فوق الشارع المفضي من الشرق إلى شارع صلاح الدين لمنع أي سيارة أو دراجة نارية أو دراجة هوائية من الاتجاه إلى شارع صلاح الدين خشية قيام راكبها بعملية ضد الجنود والمستوطنين السائرين فيه.

 تركزت عيون ثلاثتنا على ما تبقى من المستوطنة الملفوفة بالظلام . وانطلقت منها دفقة رشاش غربا ، وسمعنا صوت تحرك عربات ، وبعد دقائق ميزنا مجنزرتين في شارع صلاح الدين تتجهان جنوبا إلى طريق الشهداء . وغربي المستوطنة ، في مدخل شارع المزرعة المتفرع من شارع صلاح الدين ، تفجرت نوافير ملونة من الأضواء علمنا بعد قليل أن الشرطة الفلسطينية أطلقتها عند اقترابها من المستوطنة . ركض ثلاثتنا شمالا في ابتهاج هائل وجنون انفعال . لحظة ما حلمنا بها . لحظة من عالم خيال خرافي ، الريبة في تحققه أكبر من الثقة والأمل . خمس سنوات لم تزرع فيها الأرض التي كنا نركض خلالها تأمينا للمستوطنة . من يقترب تطلق عليه النار . ومع تلك السنين تكاثفت الأشواك ولأعشاب فيها وتكدست وتيبست . 

لم نعبأ بالأشواك في جو ابتهاجنا وانفعالاتنا . وصلنا سياج المستوطنة ذا الأشواك الشفرية الحادة السريعة التجريح لمن يلمسها دون حذر .الذين سبقونا أطاحوا بجوانب منه . 

كان في نفوسنا توجس من ألغام تركت عمدا . كيف سبقنا كل هؤلاء ؟! طاروا بلا أجنحة . أمواج تتلاطم . كلهم مبتهجون منبهرون ، يهنئون من يعرفون ومن يجهلون . منهم من يحملون مصابيح كهربية . صليت ركعة شكرا لله الذي أنعم علينا بهذا النصر المبين . 

تذكرت شامتا ساخرا قول رابين إنه سيؤمن مستوطني كفار داروم تأمينا يشربون فيه الشاي أثناء إطلاق الفلسطينيين النار عليهم ! بقي في المستوطنة بعض المباني ، أهمها مصنع تغليف الخضراوات خاصة الخس والكرنب ، والمصنع من السعة القدرة حتى إنه كان يغلف بعض إنتاج تجمع مستوطنات جوش قطيف.

نحن الآن في القسم الشرقي من المستوطنة ، القسم الأكبر . اتجهت إلى القسم الغربي . لا أعرف أين ذهب صاحباي . في القسم الغربي مبنيان دينيان يهوديان تركا على حالهما ، وقصفت طائرة إسرائيلية في حرب 2008 أكبرهما ، ودمر الفلسطينيون المبنى الثاني من قبل ، ويقوم في مكانه الآن مسجد أنيق بهيج المنظر . ذهب الباطل ، وجاء الحق ،ودائما يذهب الباطل ، ودائما يجيء الحق . سنة الله العادلة المستقيمة . 

وفي الجنوب الغربي ، انحدر خط أضواء . كانت عربات إسرائيلية ، حتما عسكرية ، آتية من جوش قطيف ، التجمع الاستيطاني الجنوبي . سار بعض الناس جنوبا مع شارع صلاح الدين . كنت بينهم . ووصلت العربات الشارع لتسلك طريق الشهداء ميممة شرقا . وتوارينا خلف مكعبات الإسمنت التي تحيط بشارع صلاح الدين حين أطلقت تلك العربات رشقات رصاص.

وبعد أن رأيناها تبتعد مشرقة ، أسرعنا إلى تقاطع شارع الشهداء مع شارع صلاح الدين . وجلت أضواء الفجر المكان ، وتوقفنا عند دعامتي الجسر الذي أنشأه الاحتلال في ذلك التقاطع ليعبر عليه المستوطنون والجنود المقيمون في جوش قطيف وفي كفار داروم . أخذوا عند انسحابهم أجزاءه الحديدية ، وخلفوا الدعامتين الإسمنيتين العريضتين . ومع طلوع النهار ، راح الناس يطيحون بسياجي الأسلاك الشائكة الحافين بشارع صلاح الدين . وبعد خمس سنوات من حظر وصولنا إليه ، اتجهت منه إلى الشارع النافذ نحو بيتي . الناس ما زالوا يتدفقون على المستوطنة.

رجعت إلى البيت ، ولم يطل لبثي فيه . ذهبت إلى دير البلح مارا بالمستوطنة وما تغص به من أمواج الناس . مشيت في شارع أبي عريف المتفرع من شارع صلاح الدين قرب المستوطنة . حُظِر على الناس دخوله من جهته الشرقية خمس سنوات . الناس يتوجهون فيه إلى المستوطنة التي حررت ، وبعضهم يعودون منها . اشتريت الصحف الفلسطينية الثلاث الآتية من القدس ورام الله : " القدس " ، و " الأيام " ، و " الحياة الجديدة " . عناوينها بحروفها الحمراء شبه موحدة ، تفيض ابتهاجا بالانسحاب ، ويكاد القلب يسمع همسا ، أملا بين السطور : " العقبى للقدس والضفة ".

ما تلا الانسحاب من صراعات فلسطينية انتهت بالانقسام في 2007 ، وحصار غزة ، ومشكلات الخروج منها والدخول إليها ، وتعقيدات ومشكلات معبر رفح ، واتساع البطالة ، وضق العيش ، كلها احتشدت زمرة واحدة قاسية مظلمة محبطة أشعرت الناس في غزة بأن تحريرها لم يأتِ بما كانوا يأملون من الحرية ويسر الحياة ، فوهن وعيهم بعظم هذا الإنجاز الوطني التاريخي ، وصارت ذكراه تأتي دون احتفال . وحدثت صحوة من هذا الوهن ، فقررت فصائل المقاومة منذ أيام جعله عيدا وطنيا سنويا.

بعد سماعنا الأنباء الفاجعة لقبض العدو الكريه على أربعة من نسور الحرية :
لا يأس يا نسورنا ، ما خانكم جناحكم
قد خانكم قوم لكم ، لم تَعنِهم أرواحكم
مهما ادلهم ليلكم ، ففي غدٍ صباحكم
كفاكمُ مجدا لكم أنْ ما غفت رياحكم