طبول الأحزاب تصدح في أضرحة النفاق السياسي! بقلم: عصام الياسري
تاريخ النشر : 2021-08-03
طبول الاحزاب تصدح في اضرحة النفاق السياسي! 

بقلم: عصام الياسري

عندما غادر الرئيس السابق لسلطة الاتلاف المؤقتة، بول بريمر، بغداد بعد مراسيم "نقل السيادة"، في حزيران 2004، خلف ورائه 100 قرارا، كان قد صادق عليها بصفته رئيس سلطة الاحتلال في العراق، واحد من هذه القرارات الخطيرة هو القرار الخاص بخطة العمل الصحفي التي وضعها الاتحاد الدولي للاتصالات "ITU" والتي تتضمن معايير تقنية متعلقة بحقوق البث والاتصال بمنطقة (أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط) وإصدار التراخيص لوسائل الإعلام العراقية، المقروء والمرئي والمسموع منها، والاخطر، القرارات المتعلقة بـ "براءة الاختراع، حول التصميم الصناعي، سرية المعلومات، واصناف الدوائر المغلقة". ومن هذه القوانين المثيرة للجدل ايضا، قانون رقم 39 الذي اسس لهيكلية الاقتصاد العراقي من خلال اعطاء المستثمرين الاجانب حقوق مساوية للعراقيين فيما يخص استخدام الاسواق العراقية المحلية. بيد انه، ليس من قبيل الصدف على الإطلاق، ان يتم تمرير المشاريع والقرارات الخطيرة على مستقبل العراق ومواطنيه، مثل لائحة الدستور الاساسي وقانون الانتخابات العام اللذين يشوبهما الكثير من التساؤل، وقانون (النفط والغاز والمعاهدة الأمنية)، اضافة الى مشروع ضم عناصر الاحزاب والعشائر إلى القوات العسكرية وقوى الشرطة والأمن العراقية على أساس الولاءات والمحاصصات الطائفية والعرقية بعد ان كان "الحاكم بأمره بريمر" قد حل جميع هذه المؤسسات ابان غزو العراق. بل كان مخططاً له وفق برنامج معد سلفا بين أطراف أجنبية وعراقية ذات مصالح مشتركة لا زالت تشكل خطرا على العراق ومستقبله. 
لقد سعى الاحتلال منذ غزوه للعراق إلى تشجيع الاتجاهات الهادفة إلى إنهاء كيان العراق كوحدة وطنية، أرضا وشعبا، وتناغمت الأحزاب الطائفية والشوفينية "العربية والكردية ـ الشيعية والسنية" مع هذا المسعى الخطير لتحقيق مآربها السياسية والفئوية.. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل خطر ببال كل هؤلاء الذين أوصلوا العراق الى ما هو عليه اليوم بسبب انتهاكهم للمباديء الاساسية لمفهوم الدولة بهدف تحقيق مآربهم الشعبوية ـ الطائفية على حساب الحقوق العامة للمجتمع، بأن كياناتهم المزعومة، ما دامت مرهونة المصير والأجل، ستكون امام ردة فعل الجماهير الغاضبة غير مضمونة الى ما لا نهاية، وسوف لن يستمر النمر في اطعام البهيمة إلى الأبد.؟    
اذن أزمة الحكم في العراق كما يبدو، أزمة محاولات يائسة لا تجدي ولن ينفع التزويق والنفاق السياسي من على منابر الاعلام احياء مشروع الدولة بسهولة. فالصراعات الطائفية والعرقية اليومية من أجل المكاسب الفئوية لم تعد حالة استثنائية. والخلافات المستمرة حول الانتخابات داخل السلطة وخارجها، كما في كل مرة، هو صراع الضباع على الفريسة لاجل البقاء في السلطة والسيطرة على مركز القرار داخل مجالس السلطات الثلاث. لكن هذه المرة بات من المؤكد بان أغلب الكتل والأحزاب السياسية في العراق اصبحت مدركة تماما بأن المماطلة والتسويف لن يجديها نفعا وان دورها السياسي قد تآكل.  
إختلف المراقبون للمشهد السياسي في تسمية الوضع الحالي في العراق، فالبعض يشير الى انه خطير للغاية، وربما سيقود الى حرب أهلية ان تأجلت الانتخابات او تم اجراؤها دون تحقيق اهم شروطها كالحد من المال السياسي والقضاء على السلاح "المحمي" من قبل احزاب السلطة وميليشياتها. آخرون متفائلون بإجراء الإنتخابات ونزاهتها، فيما يتراوح رأي بعض النخب ووسائل اعلام وصحفيين في مكانه، على غرار بعض السياسيين وقادة أحزاب اعتادوا صناعة الرأي متأخرا، بل اشاعوا فوضى ثقافة الاستسلام في صفوف الثائرين ضد الظلم والقتل والخراب والفساد منذ عقدين، تحت ذريعة الحفاظ على العملية السياسية والنظام الديمقراطي اللذين من الناحية الواقعية لا وجود لهما اساسا. 
اكتشف زعيم التيار الصدري "مقتدى الصدر" مؤخرا، مدى خطورة الاخطاء السياسية والمجتمعية التي ارتكبها تياره في الشأن الوطني وعرقلة اصلاح نظام الحكم وتامين استقلال البلاد وصيانة أمن المواطنين، بسبب سكوته على المحيطين به من جهلة مارقين ولصوص احتالوا عليه في كل شاردة وواردة لاجل مصالحهم حتى بات يخسر الكثير مما كان يحظى به من شعبية وسمعة طيبة. وتداركا للموقف اتخذ ثلاثة اجراءات هامة، اولا: اعلان برائته من العملية السياسية وعدم مشاركة تياره في الانتخابات القادمة. ثانيا: سحب يده من الحكومة الحالية والقادمة. ثالثا: الكشف عن وجود منتسبين لتياره يمارسون التضليل والكذب والخداع في الكثير من الامور الحساسة لاغراض شخصية. قرار الصدر هذا يعد سابقة سياسية شجاعة فالعراق لم يشهد في تاريخه المعاصر حزبا او قائدا سياسيا يعترف بالخطأ ويشخصه علنا بمثل هذه الصراحة. قرار الصدر قلب المعادلة السياسية رأسا على عقب، ووضع حسابات قادة الاحزاب دون استثناء موضع الشك، والاهم من ذلك كشف بالمجمل الخلفية الديماغوغية لكل خيوط التآمر الانتخابي على الساحة السياسية. ومن الناحية الاستراتيجية هو موقف وطني مسنود بالقول: (فاليأخذوا المال والانتخابات ويتركوا لنا الوطن) ـ فان تراجع سيخسر الرهان وثقة الناس به. ان التجربة السياسية في العراق اثبتت من خلال الوقائع ان الولاءات الحزبية نظرا لأجندات آيديولوجية او طائفية او أجنبية ـ  سوف لن تجعل الاحزاب منصرفة باتجاه سلطنة الانتماء لحماية الوطن، بقدر الاتجاه الى ما هو قائم: اي الدفاع عن الحزب ـ بمعنى آخر ـ يصبح الوطن ايقونة للفساد وضمان المكاسب داخل السلطة وخارجها ليس الا.! 
لقد فاجأ الحزب الشيوعي العراقي المنظومة السياسية والمجتمع العراقي بإعلانه مقاطعة الانتخابات، وليس مهما مدى تأثير القرار على اصحاب السلطة، لكن اتخاذه بالتأكيد مهم للاغلبية الصامتة والمجتمع العراقي الذي ينشد تغيير النظام السياسي بالكامل. السؤال: لماذا لم يتم اعلان المقاطعة في اوائل تموز حينما جرى استفتاء الحزب عليه وليس في 24 تموز؟، سيما وقد سبق للحزب ان اعلن في 9 ايار 2021 عن تعليق "تجميد" مشاركته. المثير للغرابة، لماذا تمهل الحزب؟، ولماذا تدارك الامر بعد اعلان الصدر عدم مشاركة تياره في الانتخابات القادمة؟. لو كان له السبق لحسب ذلك انتصارا لشهداء الانتفاضة!. 
اتسم العديد من الاحزاب المدنية التقليدية والتيارات السياسية ومنظمات المجتمع المدني بفك الارتباط عن النضال الجمعي ضد الطغمة المتسلطة رغم كل النصائح التي اتت لها حتى من داخل صفوفها. ولم تستوعب خطر المضي مع فئة بربرية تمسك بالمال والسلاح والميليشيات والسلطة على مستقبلها السياسي. بيد انهم فضلوا مغازلتها لاجل حفنة مكاسب رمزية اودت بسمعتهم وتاريخهم السياسي داخل المجتمع العراقي سيما بين الشباب الذين علمتهم الازمات والمعاناة على مدى ثمانية عشر عاما، فن السياسة والنضوج الفكري. ان فهم طبيعة الصراع والظروف التي تعاني منها طبقات المجتمع المسحوقة، يقودنا للجواب على السؤال: لماذا اعلن الحزب تعليق مشاركته بعد قرار الصدر بعدم المشاركة؟. وبغض النظر عن فهمنا لمعنى كلمة (تعليق) "وقف ـ بصورة مؤقتة’" وفي هذا السياق معنى كلمة (عدم) "رفض التعامل بشكل قاطع"، فالحزب مع هذه الازدواجية كان امام خيارين ـ الاول: انه كان غير مستعد لخسارة اي جزئية من تموضعه السياسي في ظرف تكاد ان تكون العملية السياسية متدحرجة نحو المجهول، الامر الذي لم يسمح له بالرهان قبل الصدر. الثاني: ادراكه بان عدم اتخاذ قرار التعليق سيضعه امام منعطف سياسي ـ مجتمعي حرج يكلفه خسائر انتخابية ومعنوية يصعب تجاوزها او اصلاحها على المدى المنظور.   
ان سلوكا كهذا أفضى الى نوع من "الاختناق الفكري" وعدم التوازن بين طبيعة الصراع القائم والشروط الموضوعية التي لا تعني التجرد والجمود بقدر ما تعني عمليا ونظريا، اهمية توخي الدقة في اتخاذ المواقف والقرارات وضبط ايقاعها المرحلي والزمني بشكل شمولي دون تردد كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي ريموند أرون.. في مقابلة في احدى الفضائيات العراقية في معرض اجابته على سؤال: ما رأيه بقرار الصدر؟، اجاب احد قادة الحزب قائلا، انها خطوة جيدة على ثوار تشرين الاستفادة منها ـ مضيفا ـ عليهم أيضا كشف اسماء الفاسدين ـ يا للسخرية، مسؤول حزبي بهذا المستوى يطالب المتظاهرين كشف اسماء الفاسدين ـ لا نعلم هل هي مزحة ام زلة لسان؟. أفلا يستطيع الحزب وهو شريك في العملية السياسية منذ 2004 ولديه من الوسائل والمعلومات الكافية، ان يكشف للمجتمع العراقي الحقائق التي نعتقد بانها من صميم مسؤولياته الوطنية والسياسية والاخلاقية، وليس من مسؤولية بؤساء القوم في سوح التظاهر ومنعطفاتها.. 
المفارقة طلبات الانسحاب وصلت لغاية 28 تموز الى خمسة ومرشحة للمزيد، والمناورات الانتخابية بين جميع الاطراف لاتزال ملتهبة. فيما تؤكد المفوضية العليا للانتخابات انها لم تستلم بشكل رسمي أي طلب بالانسحاب، وباب تقديم طلبات الانسحاب أغلق في العشرين من يونيو الماضي. لكن ما لا نعرفه مَن مِن الاطراف قدم فعلا انسحابه خطيا وبشكل رسمي لمفوضية الانتخابات وتم تأكيد موافقتها على الانسحاب بشكل قطعي لا لبس فيه من الناحية القانونية. يقودنا هذا لان نتساءل كيف لحزب تقليدي كالشيوعي له ارث حافل ان يرتضي لنفسه، نظاما طائفيا، يجاهر احد اطرافه الرئيسيين بمقولة خطيرة (اخذناها وما ننطيها بعد ـ على أشلاءنا) اي البقاء في السلطة باي ثمن. لكن اي ثمن سيدفعه الحزب ان عاد وقرر المشاركة لسبب ما، اذ جاء في بيانه الصادر في 27 تموز 21 : "ان مقاطعتنا الانتخابات في ظل الازمات الخانقة الراهنة لا نستهدف العملية الانتخابية كممارسة ديمقراطية".. دون الاشارة عن اي ديمقراطية في ظل "عملية سياسية ـ طائفية فاشلة" يتحدث ؟.