الهروب الى الأمام بقلم: راضي شحادة
تاريخ النشر : 2021-08-01
الهروب الى الأمام       بقلم: راضي شحادة


الهروب الى الأمام 

بقلم: راضي شحادة

تَقَدَّمُوا.. تَقَدَّمُوا، أمَامَكُم جهنّم.. وراءَكُم هَزَائمُ:

       هذه هي قريتنا الفاضلة التي لا أبالغ في القول بأنّ حدودها قد تكون من المحيط الى الخليج، أو قد تصبح مصغّرة فتصبح حدودها محصورة بين الوادي والبحيرة. إنّها بلد جميع المتناقضات، ولأنّها تستقبل كل محطّات البث العالميّة، فقد تحوّلت الى عالم مختصر في قرية، ولكنّه عالم عبثي.

    نحن أنصار الأَمام والأَماميّة والأُمميّة والعالميّة، ولكن بشكل بسيط وببراءة، وأحياناً بسذاجة.

    في مباريات الألعاب القَدميّة العالميّة أثبتنا أنّنا أكثر قرية أمميّة في العالم. البرازيل حصلت على كأس العالم في قدرتها على الجري بسرعة وبرشاقة وبخفّة خلف الطّابة، ونحن أخذنا الكأس بأمميّتنا.

    إيطاليا علّقت أعلامها، والأرجنتين والبرازيل والسّعودية وأمريكا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا..الخ، علّق كل عَلم دولته، إلّا نحن فقد علّقنا على سطوح منازلنا وسيّاراتنا ودرّاجاتنا كلّ أنواع أعلام الدّول وبضمنها إسرائيل باستثناء علم فلسطين اليتيم العربي لم يجرؤ أحد على تعليقه. رُبّما لأنّ فلسطين لم تكن مشاركة في المبارايات.. ولكن إسرائيل أيضاً لم تكن مشاركة!!

    ليس مهمّاً.. المهم أنّنا أمميّون قبل أن نكون فلسطينيّين، وأجانب أكثر من أن نكون عرباً.

    استفزّني وحثّني أحد أبناء قريتنا الغيورين على مصلحتها قائلاً:

-      اسألهم قبل أنْ يعلّقوا أعلام تلك الدّول ويطنطنوا ويهلّلوا ويطخطخوا لها، هل يعرفون أسماء رؤسائها وأين موقعها الجغرافي وما اسم عواصمها؟

فقلت له: أمَا زلت تحمل هذه النّظرة العابرة عن معلومات عامّة لا تثير شيئاً ممّا يعنينا؟ لا وقت الآن للسّياسة والجغرافيا والتّاريخ. إنّها أعلام كرة القدم. المهم أنّ "روماريو" و"پيليه" من الأرجنتين و"باچيو" اعتنق البوذيّة وهو إيطالي، والمهمّ أنّ العالم يركض خلف الكرة الصّغيرة ونحن نركض خلفه ونتفرّج.

    ها هم الأبطال الأشاوس المغاوير داحرو الغزاة يتقدّمون ببواريدهم ومسدّساتهم وزيكّوكاتهم(عبريّة- ألعاب المفرقعات) وطُقّيعهم، ولهم في كل عرس كبّة وقرص، يتقدّمون نحو النّصر المحتوم و"باغة" حتى الفْراغَة لكلّ چُول(هدف).

    المغاوير يتقدّمون، وتستمرّ المعارك ليل نهار، فما دامت الطّابة تركض، يستمرّ إطلاق الرّصاص والمدافع.. تقدّموا.. تقدّموا أمامكم جهنّم.. وراءكم هزائم، أمامكم روماريو وطابة.. عليهم".. فلا تستسلموا..

    من يدري؟ رُبّما تكون هذه الطّابة حين تدوسها وتركلها الأقدام لتصل في جريها نحو الهدف المنشود الى الـمَرمَى، هي هي القاسم المشترك الأكبر بين ملايين عيون البشر على وجه هذه الكرة الأرضيّة التي "تَنْغَل"(تعجّ) بالبشر.

    هي هي هذه الطّابة التي جعلتنا نشعر فجأة أنّنا قفزنا قفزة عملاق الى الأمام نحو الأمميّة لنجعل جميع أعلام الدّول وكلّ الشّعوب تلتقي في قريتنا، وبهذا نكون قد تخطّينا أو هربنا من قوميّتنا ووطنيّتنا وقبليّتنا وتراكماتنا وعُقدنا وضغوط مجتمعاتنا، ونقمتنا على قيودنا وهزائمنا ونكساتنا وفكشاتنا وصدماتنا وتحفّظاتنا وتعصّباتنا.. هروباً الى الأمام، من الماضي المليء بالانتكاسات والنّكبات والهزائم..

    نريد أن نكون جزءاً من العالم المنتصِر، ننصهر فيه، ونمثّل أنّنا مثله وبمستواه وبفرحته وبسلاحه وبمفرقعاته وبانتصاراته..هروباً الى الأمام من واقعنا الخانق.. تنفيساً للضّغط المتراكم في داخلنا، هروباً من مجتمعنا الهلامي الذي يقول لنا مكانك سرّ، فتأتي الطّابة السّاحرة ويأتي رافسوها وراكلوها ليقولوا لنا: "إلحقونا.. عليهم..عليهم..".

    شكراً لك أيّها التّلفزيون الملوّن.. شكراً لك يا محطّة الكوابل ويا أقمار اصطناعيّة. شكراً لمخترع لعبة كرة القدم لأنّه جعل عقول البشر مركّزة في الأقدام، فتنطق باسم بيليه ومرادونا وروماريو وباچيو وميسّي ورونالدو وريبالدو ورونالدينيو وبلاتينو وبنزيما، قبل أنْ تنطق بأسماء رؤساء الدّول والسّياسيّين. السّياسة المحليّة تبتعد عنّا. الطّموحات الوطنيّة الضّيّقة أصبحت أقلّ من طموحاتنا الأمميّة بآلاف المرّات.

     شكراً تلفزيون.. شكراً كوابل.. شكرا ڤِيديو..شكراً إنترنت.. شكراً أقمار اصطناعيّة، لأنّنا سوف نجد بديلنا المفقود فيكم، ومنه نبدأ بناء أنفسنا التّائهة من جديد..هكذا جعلتمونا نحسّ أنّ الكرة الأرضيّة هي قريتنا الصّغيرة، وأنّ قريتنا الصّغيرة تخرج من القمقم الى الكرة الأرضيّة بواسطة الكرة القدميّة.

    نحمد الله بأنّنا لم نحتج للدّبّابات والصّواريخ في هذه المعركة، واكتفينا بالبنادق والمسدّسات والزّيكوكيم(المفرقعات)، ولو وُجدت كل هذه المعدّات لكان النّصر مبيناً وساحقاً، ولأصبحنا من البارزين المعروفين، ولسمّينا قائد مسيرتنا مرادونا ونائبه روماريو والقائم بأعمال الرئيس باچيو..

    الحمد لله بأنّ ذلك النّصر لم يحدث بشكل مفاجيء لأنّنا لم نجرّب من قبل معنى النّصر ولو لمرة واحدة في حياتنا، فلو أتى بغتةً وفاجأنا لـَمُتنا من هَول الصّدمة والمفاجأة، وَلَسَكَتتْ قلوبنا..

    يا جماهير قريتنا الكرويّة كالكرة الأرضيّة، وكالكرة القدميّة، يا قريتنا الرّابضة كالأسد على جبل أشمّ بين الوادي والبحيرة..هُبّوا هَبَّة رجل واحد وأسد غَشَمْشَم عَرَمْرَم غَضَنْفَر سَفَنْفَر.. عليهم .. عليهم.. وراء الطّابة.. امسكوا روماريو.. واللي بْيِسْبَق هو الأوّل.. چُو..ووو.ول.. واحد: صفر.

هاجس مسرحيّ: راضي شحادة

هاجس كاريكاتيريّ: خليل أبو عرفة