الترف الفكري مجاني الثمن بقلم: سعيد سلامة
تاريخ النشر : 2021-07-25
الترف الفكري مجاني الثمن        بقلم: سعيد سلامة


الترف الفكري مجاني الثمن

بقلم: سعيد سلامة

لن أراعي الدقة عند التحدث عن منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح والسلطة الوطنية الفلسطينية والتي وإن تباينت المرجعيات والهيكليات والمسؤوليات والصلاحيات فلا يمكن إنكار إنها تنصهر جميعا في بوتقة واحدة ضمن السياق العام، فرئيس حركة فتح يترأس المنظمة والسلطة، والحركة هي الفصيل الذي يقود السياسات العامة سواء على الصعيد السياسي أو الإقتصادي أو المالي بالإضافة الى القوانين والتشريعات، مما يعني أن  الحركة تتحمل المسؤولية عن النجاحات والإخفاقات على الرغم من مشاركة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية والمستقلين في أجهزة ومؤسسات السلطة.

وبالعودة الى تأسيس السلطة كنتيجة لإتفاق أوسلو وإلتزاماته فلم يكن للمقاومة الفلسطينية بدائل في ظل الواقع الذي شهد حروبا تهدف لتصفية المقاومة الفلسطينية المسلحة التي كانت اخر معاقلها المخيمات الفلسطينية المحاصرة في لبنان تتبعها مناورات فلسطينية لإعادة بناء مؤسستها العسكرية، فبعد أيلول 1970 عززت المقاومة وجودها في لبنان ثم اضطرت للخروج من بيروت بعد حصارها من الجيش الإسرائيلي، ثم تم إفشال محاولة ابو عمار إعادة تنظيم المقاومة في طرابلس ومخيماتها، وأخيرا حرب المخيمات التي انتهت بالتزامن مع انطلاقة الإنتفاضة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مما يعني أن المنظمة فقدت جميع القواعد التي يمكن أن تمارس انطلاقا منها المقاومة المسلحة ضد الإحتلال، والإستعراض التاريخي للمقاومة المسلحة منذ انطلاقتها يوضح أن تصفيتها  تناوبت عليها جيوش عربية تمثل أنظمة محافظة وأخرى تمثل أنظمة الصمود والممانعة ومنظمات فلسطينية بولائها الإقليمي وميليشيات لبنانية مسيحية وشيعية أما الجيش الإسرائيلي فقد رافق هذه الأحداث جميعا عن كثب.

كذلك تم تراجع الخيار العسكري العربي بتوقيع مصر لإتفاقية كمب ديفيد ثم تدمير الجيش العراقي بعد احتلاله للكويت مما ترك القيادة الفلسطينية تائهة بين العواصم العربية التواقة بعضها الى التخلص من عبء القضية الفلسطينية، ولا يغيب عن الإذهان رد ياسر عرفات المستغرب في حينه عند خروجه مع قواته من بيروت على تساؤل أحد الصحفيين الى أين، فأجابه عرفات الى فلسطين.

وهذا ما حدث فعلا، حيث أصبحت الساحة الحقيقية للمقاومة في فلسطين، فالإنتفاضة في عام 1987 مثلت مرحلة طبيعية للمقاومة الفلسطينية وإمتدادا لها ولم تكن جزءا منفصلا عن مسيرة الثورة وقدمت تضحيات تفوق إمكانات شعب تحت الإحتلال، واستثمرت المنظمة انجازات الإنتفاضة لإعادة القضية الفلسطينية الى صدارة الإهتمام الدولي.

على ضوء هذه التطورات أصبح لزاما على القيادة الفلسطينية أن تحدد خياراتها من بين البدائل المتاحة في تلك المرحلة للفلسطينيين وهي:

الخيار الأول: هو استمرار الإنتفاضة التي استنزفت طاقتها باللآلاف من الشهداء والمعتقلين والجرحى والتدهور الإقتصادي الناجم عن حظر التجول لفترات طويلة وإغلاق الطرق والحواجز وعدم إنتظام التعليم في المدارس والجامعات، واتساع دائرة الفقر وتفشيه بين المواطنين على الرغم من المساعدات التي كانت تقدمها الأونروا وتبرعات الشعوب العربية والفلسطينيين خاصة من داخل الخط الأخضر وتلك التي تتسرب من المنظمة.

أما حركة حماس فقد كانت انطلاقتها كنتيجة للإنتفاضة وليست سببا فيها وتسببت في إرباك وإنقسام الشارع الفلسيطيني، حيث أثبتت الأحداث أن مشروعها ليس لتطوير المقاومة ودعمها في مواجهة الإحتلال بل لتكون بديلا عن المنظمة وكرست جهودها منذ انطلاقتها لعرقلة برنامج القيادة الوطنية الموحدة التي تمثل المنظمة وإفشاله وعملت على شق الصف الفلسطيني من خلال الدعوة لفعاليات تتضارب مع  بيانات القيادة الوطنية الموحدة وتؤدي الى الصدام معها، علاوة على التدهور الأمني بحيث بدأت السيطرة تتداعى بفعل عناصر الفلتان التي تروع المواطنين وتسلب أموالهم وتهدد حياتهم، فالإنتفاضة ليست هدف وإنما وسيلة لدحر الإحتلال.

الخيار الثاني: هو المراهنة على قوى الممانعة والمقاومة العربية والإسلامية مما يدعو للتساؤل حول الدور السوري وايران وحزب الله فيما بعد، فالإنجاز الإيراني هو على صعيد المساهمة في نشر الفلتان والفوضى في دول عربية من أجل السيطرة عليها لتكون قوة اقليمية في المنطقة وأصبحت عصا تلوح بها الولايات المتحدة وإسرائيل لإبتزاز دول عربية أخرى، أما حزب الله فقد أقر بندمه على استفزاز دولة الإحتلال من خلال أسر جنديين اسرائيليين، ثم رمى بثقله في الحرب داخل سوريا التي تطرح شعار التصدي والممانعة والتي تداعت بأسرع مما هو متوقع لتكون مسرحا لميليشيات مشبوهه وقواعد عسكرية تمثل جميع الدول الكبرى وأجهزة مخابراتها علاوة على الطيران الإسرائيلي الذي يستبيح أجواءها حتى أقصى شرقها وشمالها.

الخيار الثالث: فهو مؤتمر دولي للسلام وقد بدأ فعلا في مدريد واستمر بدون فاعلية بسبب نفوذ القطب الواحد الذي تمثله الولايات المتحدة التي لا تخفي انحيازها لدولة الإحتلال مما دفع المنظمة الى التفاوض عبر قناة أوسلو.

لقد كانت الحصيلة والخيار الأفضل هو اتفاق أوسلو الذي أعاد شتات المقاومة الفلسطينية وقيادتها من المعسكرات النائية في الدول العربية الى الأراضي الفلسطينية والحصول على موطئ قدم فيها.

حققت السلطة انجازات على أصعدة منها عودة واستيعاب نصف مليون فلسطيني والتعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية بما فيها الشروع بإنشاء الميناء والممر الذي يربط الضفة بالقطاع وإنشاء مطار غزة الذي تم تدميره في انتفاضة الأقصى، وقد أقر المجتمع الدولي بإكتمال وكفاءة مؤسسات السلطة والجاهزية للعبور الى الدولة، وبسبب تعثر مفاوضات الوضع النهائي وعدم الإلتزام الإسرائيلي بالجدول الزمني وما رافقها من تحديات ظهرت فجوات كان من الممكن التنبه لها وتجاوزها خاصة تلك المتعلقة بالإستيطان والقدس والمياه والتبعية الإقتصادية مع الإشارة الى التحالف الضمني بين اليمين الإسرائيلي وحماس لإفشال المفاوضات حيث تم اغتيال رابين وسيطرة اليمين على الحكومة الإسرائيلية الى جانب تعمد حماس تصعيد عملياتها بالتزامن مع جولات المفاوضات حول الوضع النهائي.

تأثرت مسيرة السلطة بعوامل داخلية وإقليمية ودولية، كان أهمها الإنقسام والإنتخابات وتعطيل العمل البرلماني ما تسبب في تعثر الأداء المؤسسي الذي يتعلق بالإدارة العامة والتنمية والشراكة السياسية مما خلق حالة من عدم الثقة لدى الرأي العام حول الشفافية وسيادة القانون ونزاهة القضاء وشكوكا حول مظاهر الثراء لدى بعض المتنفذين والمحسوبية في ظل البطالة المتفشية في أوساط الخريجين وقلق الشباب من المستقبل الغامض والميل لإسترضاء عناصر الفلتان بدلا من محاسبتهم، وغياب المبادرات الجريئة لدى القياديين وحالة من التجاذب أفرزت مراكز القوى، واستمرار الإنقسام وتعثر اجراء الإنتخابات وتأثيره على الرأي العام الداخلي والعلاقات الدولية في ظل غياب تجديد الشرعية وظهور الأزمة المالية من حين الى اخر وحالة التداعي في العالم العربي وفتح بوابة التطبيع، وعلى صعيد الإحتلال استمرار حصار القطاع وتوسع الإستيطان في الضفة والتوغل في تهويد القدس.

هذه الإخفاقات التي من الممكن التغلب على معظمها ساهمت في زعزعة ثقة المواطنين ووفرت ذريعة تلقفتها أطراف منها بعض الحكومات العربية التي أرادت التنصل من القضية الفلسطينية بتصفيتها فاستغلت سيطرتها الإعلامية لتضخيم أخطاء السلطة والتشكيك فيها لتحميلها المسؤولية عن تعثر القضية الفلسطينية وتبرير تخاذل هذه الأنظمة وتواطؤها مع الإحتلال، وحماس التي لها أجندة إقليمية تنطلق اليها على أنقاض منظمة التحرير التي تسعى لهدمها، وفصائل تحاول تبرير تلاشيها وإنحسارها الجماهيري بتحميل المسؤولية للسلطة وحركة فتح، وكذلك الخلافات داخل الحركة نفسها والخروج عليها في اتجاه الإنسجام مع التطور الإقليمي التطبيعي، مع عدم إغفال قطاع واسع من الحركة لا يمثل رؤية محددة وموحدة بل هي لأسباب فردية وشخصية بدأت منذ الإنتخابات التشريعية في عام 1996 وتسببت في تشتيت الأصوات وتكررت على نطاق أوسع مما تسبب في خسارة انتخابات عام 2006 التشريعية وازدادت خطورة هذه الظاهرة عند الإعلان عن الإنتخابات في عام 2021 حيث التهافت على الترشح دون الأخذ بعين الإعتبار الإنعكاسات السلبية على مستقبل الحركة ومكانتها.

ولا يزال الفشل عنوان ملف إنهاء الإنقسام، وقد كان إتفاق الرجوب والعاروري محاولة جدية لطي هذه الصفحة من خلال الممارسة الديمقراطية واستحقاق الإنتخابات، وعلى الرغم من الإعلان المسبق بأن لا انتخابات بدون القدس لخطورة هذه الخطوة إلا أن حالة من التشهير تلقفت تجميد الإنتخابات للتشكيك بالقرار متجاهلين الآثار السلبية المدمرة على مستقبل القدس اذا اجريت الانتخابات بدونها.

لم تطرح القوائم الخارجة على فتح برامج تحمل أفكارا جديدة مما يعطي انطباعا بأنها لدوافع ذاتية لأفراد يعتقدون أن تاريخهم النضالي يمنحهم الأفضلية ويجعل من عضوية المجلس التشريعي استحقاقا طبيعيا، مما أسهم في نشوء قطاعا واسعا يستمد قوته من الإنتماء العشائري، بالإضافة الى تجييش أولئك الراغبين بمعاقبة حركة فتح للأسباب التي ذكرت أعلاه أو لأسباب شخصية أخرى، فالتحديات المختلفة التي رافقت السلطة أفرزت بعض الظواهر السلبية كالعشائرية التي كرستها عوامل كالفلتان والمحسوبية وضعف تنفيذ القانون مما عزز الولاء للعشيرة التي أعلنت في مناسبات مختلفة عن تحديها للسلطة ومؤسساتها وأجهزتها المختلفة، وذلك نتاج تدهور ثقافة الإنتماء التنظيمي والحزبي الذي تتحمل مسؤوليته حركة فتح.

إن تجربة إفشال تطبيق قانون الضمان الإجتماعي تفضح ضعف السلطة التي لم تتمكن من تمريره، فإن وجود بعض الثغرات في القانون التي يمكن معالجتها تم اتخاذها كذريعة لإبطال الضمان الإجتماعي مما ترك الفئات العاملة الضعيفة فريسة لإستمرار استغلال أصحاب العمل لهم وحرمانهم من المزايا الإيجابية المترتبة عليه مثل الحد الأدنى للأجور والتأمين الصحي وإصابات العمل والعجز والشيخوخة وغيرها. 

بلا شك تمكنت القيادة الفلسطينية من تحدي الإدارة الأمريكية وأفشلت صفقة ترمب على الرغم من مباركة الصفقة من عدة دول عربية، وحققت بعض الإنجازات في الأمم المتحدة، وصمدت أمام الضغوط المتعلقة بمخصصات المحررين وأسر الشهداء والأسرى، هذه الإنجازات والصمود لم تلق المباركة والدعم من البعض الفلسطيني والعربي، بل يتم تجاهل هذه الإنجازات مما يثير الشكوك بأنها مجرد ممارسة للترف الفكري مجاني الثمن، فالصالونات ووسائل التواصل الإجتماعي لا تريد قيادة فلسطينية ترفض الحلول التصفوية بل قيادة للمزايدة عليها والتصيد لها، وذلك بسبب الهوة الواسعة التي خلفتها الأخطاء وبعض التجاوزات، والحلقة الأخيرة من الإحتجاجات تحالفت فيها أطراف مختلفة مع فصائل فلسطينية ومدعومة من أساطيل اعلامية عربية ومستقوية بقوى أجنبية اعتقدت بأن الفرصة قد حانت للقضاء على السلطة الفلسطينية، وحاولت إضفاء الشرعية على قوائم انتخابية كانت مرشحة في الإنتخابات التي تم تجميدها مع توفر المؤشرات الى أن معظم هذه القوائم لن تحقق نسبة الحسم في حال أجريت الإنتخابات، وقد كانت هذه الحلقة ضمن سلسلة استهداف الحركة والسلطة حيث يتم التفرد بأحد القيادات على التوالي والتشهير به حتى تجرأوا بالإساءة الي الشهيد الرمز أبو عمار في تظاهرة علنية في وسط رام الله.

حركة فتح تتحمل المسؤولية بصفتها المحورية ومكانتها التاريخية فمن الملح أن تنفتح على الحوار المجدي مع الفصائل الفلسطينية المنضوية تحت راية م.ت.ف وتدعمها لتكون شريكا فعالا لها في مواجهة التحديات الوطنية، وأن تفعل قواعدها التنظيمية لتلافي اتساع الفجوة مع قطاع واسع من الكادر التنظيمي الذي سيكون حتما أداة فعالة تساهم في احتواء الجماهير وحشدها في دعم المشروع الوطني بدلا من انزلاقها في خندق مناهض للحركة، إن الخطر الأكبر الذي يواجه الحركة هو شعور الكادر الفتحاوي بالتجاهل والتحييد عن دائرة الفعل والتأثير مع ضعف غير مبرر للنشاط التعبوي والإعلامي على الصعيدين الحركي والجماهيري في ظل تعزز ثقافة الإنتفاع والإرتزاق التي أصبحت مقياسا لدرجة الإنتماء والولاء.

تحدي كبير يتطلب اشعار الجماهير بأهميتها وتأثيرها بتكريس الديمقراطية وإنفاذ القانون والعدالة الإجتماعية ومساعدة الفصائل على استرداد مكانتها التاريخية ودورها الوطني الفاعل وإعادة الإعتبار الى الكادر الفتحاوي الذي لم يتورط بإنحرافات وطنية أو تنظيمية.