شهادة حول نبض الحركة الثقافية نبيه القاسم.. مصدرنا الثقافي بقلم أ.د محمد بكر البوجي
تاريخ النشر : 2021-07-09
شهادة حول نبض الحركة الثقافية     نبيه القاسم.. مصدرنا الثقافي
بقلم أ.د محمد بكر البوجي


شهادة حول نبض الحركة الثقافية                             

نبيه القاسم.. مصدرنا الثقافي

أ.د محمد بكر البوجي      رئيس جمعية النقاد الفلسطينيين

أستاذ الأدب والنقد بجامعة الأزهر بغزة

التقيته المرة الأولى عام 1998م في حيفا في مؤتمر أدب الأطفال، كان مصاحبنا ، ودودًا كريمًا ، يعرفنا على كل شارع نمر به في حيفا باسمه العبري الجديد واسمه العربي القديم حين كان العرب ، وأسباب التسمية . نبيه القاسم أستاذ أكاديمي وناقد كبير من خلاله استطعنا التعرف على معظم أدباء فلسطين 48 ، لا شك أنه كان محركًا ثقافيًا بمتابعته إصدارات الشبان الأدباء في أنحاء الوطن وقلت يومها ( من أراد أن يكتنز ثقافة فلسطينية خالصة عليه متابعة قلم نبيه القاسم ) كان حريصًا أن يهدينا ما في سيارته من كتب ، الحقيقة أقول لكم : أنني في دراستي للدكتوراة عن الراحل إميل حبيبي ، كانت دراسات نبيه القاسم مرجعًا أساسيًا لي ، كنت أسطو على أفكاره وأطورها إلى مدى أبعد ، ثم أشير في الهامش ؛ لهذا احتوت أطروحتي على أفكار عميقة في صلب حياة أدباء 48 . أثناء الانقلاب الدموي في غزة الذي قامت به مجموعات مسلحة تابعة للإخوان المسلمين في فلسطين باسم ( حماس ) كان موقف الدكتور نبيه القاسم واضحا ينم عن قلق وتوتر داخلي لما حدث ، فقد أرسل عبر وسائل الإعلام صرخة إلى معظم شخصيات قطاع غزة من المثقفين يناشدهم بالتدخل لأنهم رأس الحكمة وقد ذكر اسم كاتب المقال ، دار في ذهني عن دور المثقف أمام قسوة القوة المسلحة الغاشمة ، هنا شعرت بالحرج والخجل من دور المثقف في وضع حدٍ لهذه المهزلة فأردت أن أعيد توازني، رجعت إلى كتاب نبيه القاسم ( المثقف العربي في مواجهة الواقع ) وجدته يدافع عن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ضد قصيدة نزار قباني بعد مقتل زوجته بلقيس ، إن كاتبنا ضد كل أنواع القتل التي تمارس باسم الدين وباسم الثورة وباسم قضايا الشعب . ومن آراء نبيه القاسم أن المكان الحقيقي للكاتب ملتصقًا بالجماهير المحتجين وليس في صفوف الحاكم والمؤيدين ، من هنا يعيش الكاتب المثقف في غربة لأنه يشعر بالتصادم بين الواقع وبين أحلامه بالمثل العليا ، يأخذ نبيه القاسم على ما ورد في قصيدة نزار قباني عن الشهيدة بلقيس بقوله ( مع كل غضبنا ونقمتنا على مرتكبي الجريمة فإننا نرفض أن تتحدد مواقف أحدنا من خلال تجربة ذاتية فردية وتحكم على المصير والمستقبل بكل الأمة من خلال هذه التجرية المؤلمة .. ؟ ) ص 89.

من أفكاره حول القضية الفلسطينية : أن الشعب الفلسطيني متوحد حول قضيته فإذا سلب الوطن انتفض الإنسان وتوهجت القضية التي تسكن كل فلسطيني وتتوحد به ، فقد خرجت الثورة من رحم الأفكار والأحلام والأناشيد للتوجه نحو مرحلة التحول نحو الموت من أجل القضية الكبرى .

يكتب نبيه القاسم عن موقف محمود درويش بعد حرب 1973 بلهفة وفرحة الإنسان العربي الذي أعلن حضوره وفاجأ العالم بالانتصار على الذات فقد حررت الحرب ذواتنا من الاحتلال المعنوي وحرر العربي ذاته وإرادته وهذا هو الأساس لتحرير الأرض ، هذا هو موقف الناقد نبيه القاسم من ملحمة درويش ( وداعًا أيتها الحرب ، وداعًا أيها السلام)

عند تصفحي الكتاب تذكرت أميل حبيبي والمثقفين عندما هاجم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ولويس عوض في مسرحية ( لكع بن لكع ) بل وهاجم المتنبي واتهمه أنه قرمطي مرتد ، وقد تنبه إلى هذا الخطأ التاريخي الناقد نبيه القاسم بأن المتنبي ليس قرمطيًا وإنما عُروبي حتى النخاع يهاجم التدخل الأجنبي من فرس وأتراك وغيرهم في شؤون الشخصية العربية .. هنا نجد نبيه القاسم يمدح الناقد لويس  عوض ويعده واحدًا من كبار الفكر العربي ، ونجده في ص121 يكرر ما قاله اميل حبيبي في هجوم على الحكيم ومحفوظ وعوض لسرعة استجابتهم والهجوم على عبد الناصر وعهده بعد رحيله ، رغم محاولات عوض الدفاع عن نفسه وأنه يحترم ناصر وثورته ، يبدو أن سكوت المثقفين عن زيارة السادات إسرائيل دفع المثقفين هنا داخل 48 للهجوم عليهم ، كانوا يرغبون أن تأتي الجيوش العربية لتحريرهم وليس لزيارتهم والصلح مع إسرائيل .

يتصل الدكتور نبيه القاسم دومًا بنا للاطمئنان عندما تحل مصيبة على غزة وما أكثرها ،  كلامه لنا يمنحنا جزءًا من الصبر والأمل ، صوته فيه شيء من  الأبوة الحانية ، وكنت أرد التحية بمثلها في لحظات الهدوء للاطمئنان عليه وأسرته وأبنائه ، في مهاتفتي الأخيرة للشاعر الكبيرسميح القاسم قبيل رحيله طلبت منه أمرًا فأحالني إلى الدكتور نبيه فاستجاب سريعًا حبًا وكرامةً لي وله .

نيبه القاسم شخصية تفاعيلية يبادر إلى الفعل ولا ينتظر أن يطلب أحد منه ، هكذا فهمته .

في كتابه ( في الهم الثقافي ) يناقش قضايا خطيرة في الفكر العربي أهمها قضية حرية الكلمة من حرية الانسان وقد كان الزعيم الراحل عبد الناصر يكررها في خطاباته ( إن حرية الكلمة هي المقدمة الأولى للديمقراطية ) يطرح كيف تصادر بعض الحكومات العربية كتبًا وتحاكم مؤلفيها وكيف بعض المارقين يقتلون باسم الدين المبدعين والمفكرين كما في الجزائر ومصر ولبنان وفلسطين ، وأعرب عن خوفه من سريان الجنون إلى مدن 48 عندما أعلن نبيه القاسم في رثاء توفيق زياد في كلماته النارية قائلا :

كلماتك هذي يا زياد  ، كانت وستظل الإنجيل والقران

يا خاتم رسل الرب في زمن الطغيان .

اتصل به أحد طلابه المنتمين للتطرف يعاتبه بتهديد مبطن ، كذلك هجوم أحد رجال الدين في خطبة دينية على الكاتب الفلسطيني محمد علي طه ، ولا أنسى هجومهم بالعصي على الراحل توفيق زياد أثناء احتفال جماهيري ، وقد رأينا جميعا على شاشة التلفزة هذا الهجوم وكيف يقف الضابط الإسرائلي ضاحكا لإنجازاته المبرمجة .

إن ما يحدث يضع الثقافة العربية بمجملها في مواجهة مع ثقافة معادية نابعة من قلب أسرتنا ومن أطراف فكرنا بل نحن ضحايا الخلافات السياسية بين الحكومات والأحزاب وضحايا التدخل الخارجي تمويلًا وتعبئةً . هل هذا سر تراجع الفكر العربي ، يقول نبيه القاسم ( نرى التراجع المذهل والمذل للمبدع أمام عربدة السياسي .. مما ينذر بمستقبل رهيب لأمتنا العربية ) والتحذير الخطير الذي يوجهه كاتبنا أن ينشغل المفكر والمبدع العربي لصالح السياسي ، عندئذٍ يكون الوضع أكثر خطورة ً ، يكتب في ص 36 عن سعادة الأدباء الشبان عندما تصدر لهم قصيدة في صحيفة يقول ( لحظة الفرح التي ألمت محمود درويش وسميح القاسم عندما قبل عصام العباسي أن يسمعهما ، ورعشة السعادة التي ملكت محمد علي طه عندما نشرت قصته الأولى ، ومثله سالم جبران عندما قرأ قصيدته الأولى منشورة في الصحيفة ، والغبطة التي غمرت نبيه القاسم عندما تكرم عليه محرر الجديد في زاوية القراءة ، ومثله حسين مهنا وهو يقرأ قصيدته الأولى ) ص 37 لكن عندما كبر بعض هؤلاء أرادوا العمل في حقل السياسية فالمبدع والسياسي لا جامع بينهما إلا الموت . وهذه معضلة إميل حبيبي الذي لم يستطع أن يحمل بطيختين في يد واحدة ، السياسية والأدب ، فترك السياسية وانحاز للأدب .

يطرح نبيه القاسم قضية من أخطر القضايا التي تواجه الفكر العربي ألا وهي قضية ؛ ما مصير أدب المقاومة فيما لو حل السلام في المنطقة ، هل سنظل نسمع محمد عبد الوهاب ( أخي جاوز الظالمون المدى ) هل سنقرأ أشعار سميح القاسم ودرويش وزياد وروائع إميل حبيبي ، ما مصير ثقافة استمرت أكثر من سبعين عاماً تجوب شوارع وأزقة الوطن العربي . وهل سنتنشر الصحافة العربية مادة ثقافية للفلطسينين الباقين هناك 48 ، وهل سينتقل هؤلاء من المحلية إلى الإقليمية العربية ؟ كان رأي نبيه القاسم ( أن الأمر لن يتغير أبدًا ) ص 66 .

 لفت انتباهي موقف الناقد نبيه القاسم من إدانة الشاعر الكبير شفيق حبيب وكيف حكم القضاء الإسرائيلي عليه بالسجن والغرامة بسبب أشعاره التحريضية ، كان موقفه واضحًا وصريحًا أن المستهدف ليس شاعرنا شفيق حبيب إنما الإنسان العربي الفلسطيني في هذه البلاد ، كلنا مستهدفون ، كل من يكتب هو مستهدف ، وأنها البداية ، إن تكتيم الأفواه أمر مرفوض وأن علينا التصدي بشجاعة وحزم وإصرار لإلغاء هذا القرار وتحويل القضية إلى قضية جماهيرية تشغل الرأي العام المحلي والعربي والعالمي ، ثم طرح نبيل مجموعة من الاجراءات العملية للنهوض بالجماهير الاسلامية ومؤازرة شاعرنا الكبير شفيق حبيب ، منها طرح الموضوع على البرلمان وأن تملأ صفحات الاعلام ، ومشاركة الكتاب اليهود الأصدقاء منهم في هذه المواجهة .

انتقل كاتبنا لمواجهة العملاق إميل حبيبي فقال ( أنني كنت ولا زلت أهتم بقراءة كل ما يكتب إميل حبيبي ، وأن كتاباته التي وعيناها في (الاتحاد ) بتوقيع ( جهينة ) كانت الزاد الدسم الذي كبرنا عليه ، وإعجابي بإبداع إميل حبيبي هو الذي جعلني أكتب عن كل أعماله الأدبية .. و أرفض تلك التطاولات التي حاولت أن تنال منهم مبدعًا متميزًا في أعماله الروائية ) المدهش الذي أثاره القاسم هو أن إميل حبيبي ترك الحزب بناءً على نظرية اخترعها لنفسه وهي أن على الكاتب ألا يكون ملتزماً بأية نظرية .. لأنها تحد من إبداعه وتمنعه من الانطلاق  .

أديبنا الناقد نبيه القاسم عاش كغيره من أبناء شعبه بعد النكبة يتصدى لكل محاولات استهداف الشخصية العربية واللغة العربية ومحاولة طمس وتشويه تاريخنا وتراثنا ، ظلت قضية تدريس اللغة العربية وآدابها وتاريخها قضية ساخنة لم يتنازل عنها فلسطيني بعد نكبة 48 ، فقد ظل نبيه الطالب بالمدرسة يسهر على ضوء السراج الزيتي الباهت يسود صفحات الورق ويجمع المواد ثم يسمع أشعار عنترَ العبسي والصعاليك و عمرو بن كلثوم وطوقان ، إنه يحاول إضاءة جانب من تاريخ أمتنا التي تم سلخهم عنها بعد النكبة .

إن الكتابة عن ناقد كبير بحجم الدكتور نبيه القاسم يحتاج إلى مجلد كبير ، إنه الناقد الذي عشنا على أدائه نحن في غزة والضفة الغربية ، كان سبيلنا للتعرف على إبداعات أهلنا الباقيين هناك عام 48 ، لهم كل الاحترام لأنهم تاجُ على رأس الأمة العربية، بل هم درة هذا التاج في تاريخنا الحديث.