التوأم والعقيقة والمُولد بقلم منجد صالح
تاريخ النشر : 2021-05-31
التوأم والعقيقة والمُولد      بقلم منجد صالح


التوأم والعقيقة والمُولد

بقلم: السفير منجد صالح

انحرفت السيّارة، الأودي الزرقاء، من أمام البوّابة الرئيسيّة لجامعة بير زيت، الجامعة العريقة ذات السمعة الطيّبة على مستوى فلسطين والوطن العربي والعالم. ذلك منذ تطوّرها من مدرسة إلى كلّية، عام 1942، خرّجت أجيالا وأجيالا من المهنيّين والأكاديميين والأساتذة والمهندسين، وفي شتى بحور العلم وتخصّصاته. وما زالت تعجّ وتزخر بالطلاب، ينهلون منها العلم والعلوم والآداب والمعرفة.

وكانت وما زالت دائما حاضنة وقلعة و"مخزناً" للرجال الرجال، والنساء، الوطنيين المناضلين الثوّار.

ما زالت ماثلة في ألأذهان، شاخصة أمام الذاكرة والأبصار والعيان، صورة ذلك اليوم الذي حاول فيه "ليونيل جوسبان"، رئيس وزراء فرنسا، حينذاك، زيارة الجامعة، بعد أن كان قد صرّح بتفوّهات معادية وعنصرية، كيف أمطره طلاب الجامعة بوابل من الحجارة، حجارة من "سجّيل"، فشجّ أحدها رأسه وأرغمه على الولوج زاحفا إلى السيارة للإتقاء من غضب الحجارة وغضب الطلّاب الذين إستفزّتهم تصريحاته الوقحة.  

وربما ما زالت حبيبات الثرى ذاتها تفترش أديم الأرض، أرض الجامعة، التي مشى عليها مروان البرغوثي، القائد الوطني الفذّ، أيّام دراسته الجامعية. "رجل الحرب في زمن الحرب، ورجل السلام في زمن السلام". خرج من رحم الجماهير، وبقي منغرسا في قلوبهم. يقضي أكثر من أربعة مؤبدات وأربعين عاما في سجون الإحتلال، منديلا فلسطين، ونِعم منديلا فلسطين، المتعانق، في الكفاج والنضال والصبر، مع منديلا جنوب إفريقيا، ونِعم "المنديلان".  

البوّابة الرئيسية للجامعة موصدة تماما، فاليوم يوم الجمعة، يوم العطلة الرسمية، لا دوام في الجامعة اليوم، الجامعة يلفّها السكون والهدوء إلا من رفّ سرب الحمام البلدي الذي لا يكلّ ولا يملّ في طيرانه، ذهابا وإيابا، بين مباني الجامعة وأشجارها الباسقة، أشجار الصنوبر والصفّصاف، التي تُزيّن التلة كاملة. تتربّع الجامعة عليها وترمي بأطرافها على حواف التلّة وكأنّها تطلب المزيد من الفضاء لتضمّه إلى فنائها الرحب.

على باب الجامعة بمحاذاة يمين البوّابة الرئيسية، تنتصب غرفة الحارس أو البوّاب، بشبّاكها المّدرّع بوقاية من القضبان الحديدية الافقية العمودية المتشابكة. يبدو من خلال شبك الحديد هذا رأس الحارس، ينظر مُحملقا في إتجاه واحد، يبدو أنّه يُشاهد التلفاز الصغير المثبّت على حائط الغرفة الضيّقة.

دخل أبو النصر ومعه عائلته، بسيّارته الأودي الزرقاء، إلى حدود قرية أبو شخيدم، المُتاخمة لقرية المزرعة الغربية، والتي تبعد فرسخا عن مدينة بير زيت، بالتحديد عن جامعة بير زيت.

الساعة تقارب الواحدة بعد الظهر. الشمس لاسعة مع هبوب بعض النسيمات العليلة. الفيلا البيضاء الأنيقة ذات الطابق الواحد تجثو على رأس التلّة كلبؤة متوثّبة. البناء جديد وجميل. يظهر ويتناثر في كل مكان حول الفيلا بقايا البناء. ويلمع التراب الأحمر الذي جُلب من بعيد وتمّت تسويته وتزيينه بأشجار فاكهة مُتعدّدة مُتنوّعة حديثة الزرع.

الجبل كله صخري، مُطرّز بالحجر والنباتات الشوكيّة، لكنه يصرخ إحتياجا إلى التربة الحمراء الخصبة، كي تقوم الأشجار المثمرة بدل الشجيرات الشوكية التي تغتصب جذورها القوية شقوق صخور التلّة.

-        أرجوك توقّف. لا تحاول صعود الطريق الصعب غير المسفلت بعد، فسيّارتك ناعمة وقليلة الإرتفاع، هتف ثابت اللطيف بصوت عالٍ يُنبّه صديقه أبا النصر من مغبّة محاولة صعود الثلاثين مترا، التي تمتدّ من الشارع الرئيس خلال الوصلة الترابية الصعبة التي تصبّ في مدخل الفيلا.

-        حسناً حسناً. سأوقف السيارة هنا على جانب الطريق العام. أجاب أبو النصر ممتثلا لنصيحة صديقه ثابت اللطيف، والد التوأمين المُحتفى بهما بالعقيقة وبالمولد.

نزل ثابت بسيارته الجيب الأسود، العالي قوي العجلات، "الذي يعرف الطريق جيّدا"، مُتعوّد يوميا على هبوط وصعود الثلاثين مترا مرّات عدّة في النهار والليل، كي ينقل أبا النصر وعائلته مباشرة إلى الفيلا، فالطريق الترابية وعرة مليئة بالحفر، و"تنز" بالحصى وبحبيبات ونوافير وسحب الغبار المتصاعدة منها، من بين عجلات الجيب الأسود.

في الساحة المُبلّطة حديثا في مدخل الفيلا نصب ثابت اللطيف مع إخوته وأبناء عمومته خيمة كبيرة كي تُظلل الإحتفال، خاصة وأن اليوم كان مشمسا، والشمس تجود بما لديها من دفئ ومن "لسع" اشعاعات قوية تخترق الفجوات بين قطع"خيش" "العريشة" المُهتزّة بحنان وتؤدة بفعل هبوب رياح خفيفة تهمس نسيما على التلة.

العريشة كانت شبه مليئة بالرجال والشباب المدعوّين على المناسبة السعيدة، مناسبة "ذبح" عقيقة، في الواقع عقيقتين، مكوّنتين من ثلاث خراف، بلغت بالضرورة ستة أشهر من عمرها. خروفين عن الطفل الذكر وخروف واحد عن الطفلة الأنثى، حسب العادات والتقاليد المتوارثة، وربما تحوي في طيّاتها مغزى دينيّا، في هذه الحالة خروفين عن الذكر، محمد، وخروف واحد عن الأنثى، كرمل. "مبارك ومقبول إن شاء الله".  

أما النساء، من الأهل  والضيوف المدعوّات، فكانت تتجمّع داخل الفيلا، التي تبدو كخلية نحل من الحركة والنشاط والتهاني والتبريكات والإبتسامات والقبلات والأحضان، والملابس الأنيقة المُحتشمة، إحتفاء وفرحا بقدوم التوأم وبطقوس العقيقة، فبعد قليل سيبدأ الإحتفال بتقديم "منسف" الغداء، يتبعه القهوة السادة والشاي والعصير والبقلاوة، وتبدأ جوقة المولد المُكوّنة من أربعة مُنشدين مُكتنزي الأجسام، اشتعلت رؤوسهم شيبا ووقارا وخبرة، في إقامة الموالد.

خصص ثابت الطيّب لصديقه أبا النصر مقعدا في صدر "الجلسة" إلى جانب والده وعمّه، اللذين سبق ان عاشا في ربوع فنزويلا، في العالم الجديد، عمل كلاهما في تجارة الألبسة ونجحا وكوّنا ثروة هي أساس العمارتين ذوات الثمان طوابق، بنياهما في وسط مدينة رام الله، تُدرّان عليهما وعلى العائلة مبلغا محترما من المال سنويّا، كريع أجرة المحال التجاريّة والشقق السكنية.

بدأت تهلُّ وتطلُّ سدور المناسف وصحونه، تتراقص في أيدي شباب من الورد بعمر الزهور، مبتسمين ومُنتشين ومرحّبين بالأقارب والأصدقاء والضيوف، يسود الإنسجام والوئام جنبات الخيمة المبنيّة بصورة طارئة وكأن الحضور ما هم إلا أفراد عائلة واحدة مُتحابّة مُتراصّة، يعرف بعضهم بعضا منذ سنوات وسنوات.

-        تفضّل تفضّل يا أبا النصر، هتف والد ثابت الذي يُجاور أبي النصر منذ وصوله "العريشة"، وعم ثابت إلى يساره. "أرجوك تناول المنسف قبل أن يبرد، فالمنسف يؤكل من باب "الطنجرة".

-        شكرا بارك الله فيك، لكن لننتظر قليلا حتى يحصل جميع الحاضرين على وجباتهم من المنسف، أجاب أبو النصر وهو يبتسم.

-        "ولا يهمّك يا رجل"، أنت توكّل على الله، فقدرك كبير عندنا. والشباب يعملون بسرعة، فخلال دقائق ستكون كافة الطاولات مغطّاة بسدور المناسف، أردف والد ثابت وهو يضحك ويُمرّر أصابعه على "السبحة" الطويلة التي جلبها من مكّة المُكرّمة أثناء أدائه مناسك الحجّ السنة الماضية.

المنسف لذيذ. معروف عن أهل الجنوب في فلسطين، في محافظة الخليل، براعتهم في عمل المنسف بالجميد البلدي الأصلي، وقطع لحم الخروف أو الجدي الكبيرة، لكن والحق يقال، فان هذا المنسف، منسف العقيقة، منسف وسط فلسطين، في محافظة رام الله والبيرة، لا يقلّ بل ربما يُضاهي منسف الجنوب طهواً وطعماً ونكهةً ولذةً وكرماً.

بعد الغداء الشهي وخلال توزيع القهوة والبقلاوة بدأت جوقة المُنشدين، فرقة المُولد، بالشدو جماعة بالأناشيد الدينية والتراثية المعهودة في مثل هذه المُناسبات السعيدة. وأخذ الجمع بالإستمتاع والتمايل على ترديد النغمات والأغنيات والأناشيد. قصيدة البردة وقصائد مديح نبويّة أخرى: "رقّت عيناي شوقا والطيبة ذرفت عشقا

فأتيت إلى حبيبي فاهدأ يا قلب ورفقا

صلّي على محمد ...".

استمر الإحتفال بوتيرة مُتصاعدة، واستمرّت النسمات، التي اشتدّت قوّة هبوبها على التلّة، وعلى الفيلا البيضاء حديثة البناء، تهزّ "شادر" الخيمة المشقوق.

وكانت قمّة الذروة، عندما خرج ثابت اللطيف من باب الفيلا إلى بهو الخيمة، يُزيّن ذراعيه وحضنه التوأمين، محمد وكرمل، المُحتفى بهما بالعقيقة والمولد.