فرسان ونواطير بقلم السفير منجد صالح
تاريخ النشر : 2021-05-14
فرسان ونواطير   بقلم السفير منجد صالح


فرسان ونواطير

بقلم: السفير منجد صالح

يمتطي الفارس صهوة حصانه، يخرج من حيّ "متروس" ببيوت الصفيح، أو ربّما من فيلا بناها بعد عودته من ربوع العالم الجديد، أين عمل وأبدع وكوّن ثروة.

ذاق حلاوة الإغتراب، لكن النسيم الهابب من بحر عكا أحلى وأبهر. عكا التي قهرت جيش نابليون بونابرت.

"تجمّد" جيش نابليون بعدّته وعديده خارج أسوار عكا، كما تجمّد جيش هتلر على تخوم موسكو ولينينغراد، أمام أبطال الجيش الأحمر السوفييتي بقيادة الجنرال الفذ "جوكوف".

يمتطي الفارس صهوة مركبته ويقودها مُخترقا السحاب، مُخترقا طبقات الغيوم الجافة والماطرة.

 يُحلّق بها عاليا بعيدا في دنيا الأسرار والأنوار، بجانب النجوم والمُذنّبات والأقمار.

يهبط كالقدر "المستعجل" في مطارات ومحطات وحواري وبراري، يُراقب جلّاده ومُغتصب سنابل وحبّات قمحه، يلف ويدور ويدور ويلف ويلف معه القدر.

يستلّ قوسه ويُطلق سهما يخترق مسامات النسيم، ويخترق الصدر المُدرّع بالحديد وبالحقد وبالمداهنة.

ويختفي في ظلام الليل تحتضنه شذرات وقطرات ندى كروم التين والزيتون والعنب.

تُخبّئه "مقاثي" البطيخ والشمام والفقوس والخيار بين وريقات شجيراتها "المدّادة"، الأرض وزرعها تحنُّ عليه وتُدثّره بمقلات عيونها.

لكن لم ينتبه أحد إلى ناطور "المقثاة" المصنوع من ملابس بالية ملفوفة على هيكلٍ خشبيٍ على شكل "دُمية"، حتى يُخيف العصافير والطيور والحيوانات، ويحمي ثمر المقثاة من غاراتها.

الناطور منتصبٌ بلا حراك إلا من بعض الإهتزازات أمام هبوب الرياح، يهتز ويومئ برأسه الخشبي الملفوف بشملة من "خِرقٍ" متعددة الألوان، ويتحرّك "شقفة" واحدة، نصف دورة، نحو اليمين ونحو اليسار.

الفارس يتنقّل كالصقر من مقثاة إلى مقثاة، ومن كرم إلى كرم ومن بيت إلى بيت ومن مخبئ إلى مخبئ ومن حصن إلى حصن ومن قمر إلى قمر، والناطور يلفّ نصف دورة نحو اليمين ونحو اليسار.

ويمتطي فارسٌ خنجره ويمخرُ عباب البحر، البحر توأم البر، "فمن لا بحر له لا برّ له".

يُصادق الدلافين ويُلاحق الحيتان، الحيتان الغريبة الدخيلة، التي "بلعت" شواطئه وساحله ومياهه وهضابه وزعتر وميرامية جباله.

ويحتضن فارسٌ تاريخه وحضارته وعراقته وسرمديّته، وحجره في يده، في باب العامود والشيخ جرّاح وفي جنبات المسجد الأقصى وكنيسة القيامة.

يواجه بصدره العاري وبقبضات وسواعد يديه السمراء الحنطية رشاشات وقنابل جنود يوشع بن نون.

"نكون أو لا نكون!!".

نحن ورثة عبد القادر الحسيني وصلاح الدين.

يتنقّل الفرسان بين نباتات اليقطين، من رفح حتى جنين، بين أزهار الزنبق والأقحوان والرياحين.

 "يتحنّجلون" في الميدان، يتصدّون للطغيان والطوفان، في أرض الرسالات، في أرض الإسراء والمعراج، في القدس، قدس العهدة العُمريّة، قدس صلاح الدين، قدس الشباب الثائر المُرابط على أبواب المسجد الأقصى، وفي ساحات الأقصى، وأزقة القدس وحواري القدس.

يخوضون في درب الجُلجلة، كما خاضها ابننا عيسى المسيح عليه السلام، الفلسطيني الأوّل، وأوّل المُعذّبين، حين خذلوه ووشوا به، "هودا الأسخريوطي"، وصلبوه و"سرقوا" مجده.

قال تعالى: "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم"، صدق الله العظيم. 

فرسانٌ في القدس يمتطون النسمات الهابة من الغرب، من بحر يافا وحيفا.

وفرسانٌ في كلّ فلسطين.

توحّدت فلسطين وفرسانها حول القدس.

توحّدت البطولات في القدس وحول القدس.

توحّدت كروم العنب والتين والزيتون، وبيّارت البرتقال والليمون، ومزارع الموز والنخيل، ومقاثي الفراولة والورود.

توحّد البشر والشجر والزرع.

توحّد التاريخ مع الجغرافيا.

جغرافيا صغيرة وتاريخ كبير وعظيم.

وبقيت النواطير في المقاثي تومئ برأسها الملفوف بِخِرقٍ متعددة الألوان، وتتحرّك نصف دورة نحو اليمين ونحو اليسار.

كاتب ودبلوماسي فلسطيني