الركود الفكري بين هامشية العلماء وانشطارية التخصصات بقلم الدكتور محمد بنيعيش
تاريخ النشر : 2021-05-10
الركود الفكري بين هامشية العلماء وانشطارية التخصصات

بقلم: الدكتور محمد بنيعيش

إن الإعاقة في تحصيل التطور المنهجي والمعرفي والترويض الفكري لدى أصحاب الجامعات والمؤسسات العليا ذات التخصصات في العلوم الإسلامية بالدرجة الأولى قد يكون سببها في الغالب علميا ونفسيا سلوكيا محضا ،وأيضا سياسيا واجتماعيا في آن واحد.

إذ الأستاذ الباحث في العلوم الشرعية سواء على مستوى الفقه أو العقيدة والتصوف حينما لا يجد ميدانا أو مناخا مهيئا يمارس ويختبر فيه محصلاته العلمية فإنه لا محالة سيؤدي به الحال إلى الانكماش وتضييع ملكة العلم والقدرة على تشحيذ الذهن في بابها، ومن ثم فلا ينتظر منه طائل في هذا المجال أو ذاك.

أ‌)      التهميش الوظيفي للعلم والعلماء وطفو الحثالات في الساحات:

فعلى مستوى الفقه مثلا، وهو ما يقتضيه من اجتهادات ونوازل ويتطلب حلولا وفتاوى علمية موضوعية قائمة على التدبر والتفكر، نجده على العكس من ذلك يعرف تهميشا في باب التعامل العام وعلى جل مستوياته ، اللهم إلا ما كان من جانب الفقه التعبدي وبصورة انشطارية وآلية سردية. إذ أن جل الاهتمام لا يكون إلا بفقه العبادات، وعلى الأخص فقه الصلاة ثم الصوم وموسميا الحج، أما الزكاة فلا تكاد تجد بها اهتماما بالغا ومستحثا إلا في بعض الحالات بإيعاز سياسي ظرفي أو عند وجود ضرورة لدى بعض أصحاب الأموال ممن قد تصحو ضمائرهم بين الفينة والأخرى.

ومع هذا فإن التطفل قد ضرب أطنابه في هذا المجال، وأصبح وسيلة للخلاف بين العوام وأشباه العلماء، وخاصة في المساجد حيث التضارب قائم بين من يسمون بأتباع المذهب المالكي مثلا والمذهب الشافعي أو الحنفي  والحنبلي إضافة إلى الظاهري الذي بدأ يفرض نفسه بشذوذاته وتشدداته، وكل هذا ناتج عن الخلل والضعف العلمي الذي عرفه التوجيه الجامعي في كثير من جوانبه لدى المؤطرين في جامعات عريقة قد تحسب على العلوم الشرعية خاصة، إضافة إلى تسرب مذاهب ضيقة الفكر و محرفة المعنى من الخارج ،إما عن طريق السعودية أو باكستان وإيران وغير ذلك كالوهابية وفروعها في فكر الجماعات المختلفة ،والتي من أهم ركائزها إسقاط المذهبيات وتبديلها بالمبعثرات والحشويات والإسقاطات، وشحذ النعرات وإذكاء الخلافات وهلم جرا!!!

فتجد الصراع محتدما حول القبض والسدل والجهر والسر والجلوس والانصراف والرفع والخفض وحكم الشعير والقيمة في زكاة الفطر ورؤية الهلال بين الزيادة والنقصان  وهكذا دواليك، وحينئذ تلتقي علل الجامعات مع علل الجماعات ويسري إذاك المرض العضال وتبطل حكمة الشريعة في العبادة والوحدة والاتصال، كما يلغى حكم العقل والقلب في التدبر وإدراك الواجب من الجائز والمحال!.

وعند هذا الوضع البطالي ينكمش الفقه وينقبض العلماء، لأن العامة أو الجمهور قد أصبحت لهم الكلمة الفصل في أهم أركان الإسلام وفروعها، فمن سينقذ من يا ترى ومن سيوجه من !!!؟ والكل يظن في نفسه أنه الداعية وأنه أفقه من مالك والشافعي، بل قد يصرحون بغير حياء وكتقليد غوغائي لأبي حنيفة بالقول: هم رجال ونحن رجال!

ولكن رجال باللحى المكثفة والطبع الصلف والجراءة بغير علم، لا رجال بالفهم والفقه والتقوى والسلوك، واحترام قدسية العلوم الشرعية واجتناب الافتاء بغير علم، كما يروي الشافعي نفسه عن أستاذه الإمام مالك رحمهما الله تعالى: "إني شهدت مالكا وقد سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري"[1]

فإذا كان المسلمون ومنهم المغاربة قد اقتصروا من العلوم الشرعية على فقه العبادات كممارسة يومية وأيضا في بعض الأجزاء من فقه المناكحات أو ما يصطلح عليه حديثا بفقه الأحوال الشخصية أو مدونة الأسرة،مع السعي إلى بتره أو إقباره من طرف كثير من الأحزاب العلمانية وجمعياتها المزيفة وأيضا بتواطؤ مع بعض المسمون زعما بالفقهاء، فإنه سيكون مآل هذا العلم الشرعي نفسه هو الانقباض والنسيان والتلاشي، وذلك لسببين رئيسيين:

الأول: إقصاء المذهبية الرسمية للمجتمع من التطبيق على مستوى المساجد والمعاهد.

الثاني: غياب أهل الاجتهاد والوعي بالأحكام ودقة الفتوى في التوجيه والضبط الاجتماعي.

 إذ أن هؤلاء الأخيرين هم الذين لهم الحق بحكم التخصص في تقرير هل هذا المذهب أو ذاك قابل للمسايرة الاجتماعية أم أنه يحتاج إلى تعديل وأخذ ما هو أولى أو ما هو مشهور، وما هو ضروري من غيره... إلخ.

ثانيا: الانشطارية العلمية وسلبياتها على تواصل المتخصصين

ولكن أهل الاجتهاد قد انتقصوا أو افتقدوا بشكل ملفت في الكليات والجامعات العلمية الأكاديمية،كما أن أهل التقليد قد تقلص عددهم وحضورهم في الجوامع والمعاهد رغم محاولات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية مثلا في المغرب وبعض الغيورين من أصحاب المعاهد المعتدلة سد هذه الثغرة على سبيل المراهنة التاريخية و السياسية ولكن بدون جدوى تستحق الاهتمام وتنعش الأمل في النفوس وتعم بها الفائدة، وذلك لانقطاع سند العلم من جهة كما تحدث عنه ابن خلدون، ولانقطاع المدد المادي للعلم والآفاق المستقبلية لتطبيقه سواء على المستوى الاجتماعي الذي يسوده الجهل والتخلف الفكري والسلوكي، إضافة إلى ضعف الوازع الديني ونقص الورع والتقوى في أوساطه بسبب وسائل الإعلام المضللة من مرئية ومسموعة ومكتوبة مدعمة، حتى قد بدأت الجراءة تصل إلى مستوى الطعن في المعاني القرآنية والأحاديث النبوية وخاصة صحيح البخاري ،باعتباره أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، وذلك بتجريح جامعه وتكذيب نصوصه لأنها مخالفة لأهواء الشواذ من الرجال والنساء على حد سواء، وبسبب أيضا التجهيل والتهميش المقصود للعلماء المستنيرين والغيورين، والتضييق على أهل العلم الجادين في جراياتهم وفي مكانتهم النفسية لدى الجمهور عن طريق الاستدراج وتشويه الصورة الحقيقية للعالم الصالح ودور الفقيه في المجتمع كما سبق وبينا.

أما فيما يخص فقه المعاملات من تعامل كامل وشامل في مجال المناكحات والبيوع (الاقتصاديات) والجنايات وما يندرج ضمنه من قضاء وشهادات وبينات وحقوق وواجبات وحدود وتعزيرات وتكاليف وأهليات...إلخ. فإنه يكاد يكون مفقودا بالكلية في مجتمعنا بسبب اختيارات كثير من الحكام ومعهم الشعوب أيضا. لأنه "كما تكونوا يول عليكم" إضافة إلى تشطير الفقه والوظائف المنوطة به بين الكليات ذات الطابع الشرعي المحض وكليات حقوقية واقتصادية، مما سيؤدي إلى تمييز واضح ومفضوح بين اعتبارات هؤلاء وأولئك، من خريجي هذه الكليات أو تلك. وتكون النتيجة حينئذ أن كلا الطرفين لا هم فقهاء قضائيون ولا هم حقوقيون شرعيون. وإنما العلوم الملقنة بين الجانبين تكاد تمثل بترا من بتر ولثْما من لثْم، ومن ثم اختل ميزان الفهم والعدالة في البلاد وضاعت معه كثير من حقوق الله والعباد.

ومن هنا نتساءل كيف سيصبح الفقيه طبيب المجتمع وهو لا يعمل بفتواه في القضاء ولا في المؤسسات التجارية والمالية ولا في المعاملات العادية من مقتضيات الحياة الاجتماعية وضرورة تقنينها؟!!

كيف سيتطور فقه الأسرة أو الأحوال الشخصية مثلا، والذي تثار حوله المجادلات ويسعى الكثير إلى إسقاط أحكام شرعية راسخة من مكوناته وإقصائها بأقوال وأهواء بشرية ،لا هي عقلية سليمة ولا واقعية مستديمة ولا عادلة حكيمة. وحتى اللجان المعينة للنظر في بنود المدونات والقوانين قد تعطي لنا صورة واضحة لهذا الخلط والمزج والتنافر بين أعضائها ،وتؤكد العلل التي تحدثنا عنها حول مفهوم الفقيه ومكانته والحقوقي وانشطاريته الاجتماعية وغربية تصوراته...! إذ كيفما كانت النتيجة والصيغة المتفق عليها سابقا أو لاحقا فإنها لا بد وأن تأتي مشوبة بعلل تحتاج معها إلى تصحيح تلو الآخر حتى لا يبقى منها سوى الغلط والخطأ!

ومن هنا أيضا فكيف سيستقيم هذا الفقه وهو منشطر ومنفصل عن ضوابطه الشرعية في باب الحدود والجنايات وباب الضرورات والمقاصد والمصالح المرسلة والاستحسانات مما يعد أهم الآلات والقواعد الاجتهادية عند الفقيه والقاضي على حد سواء؟

لاشك أنه سيبقى فقها معطلا رغم أنه في الظاهر يبدو وكأن الدولة أو المجتمع قد يعتمدان بنوده وقواعده كقانون في التقاضي والتراضي وتبرير عمل بعض البنوك المالية مثلا والمسماة بالتشاركية وغيرها، لأن الفقه الإسلامي بعناصره مرتبط ببعضه ارتباطا قويا وبأسلوب رياضي حتمي لا يمكن حذف رقم ضروري في معادلته، وإلا انهار البناء وجاء الاستنتاج سلبيا وخاطئا.

 إذ المعادلة تقتضي أن يكون القضاء من جنس الفقه روحا ونصا، أما أن القضاء في واد والفقه في واد آخر والحكم في واد والمجتمع معطل ومحصور بين الوديان، فهذا مما لا تقبله عقول الصبيان والحيوان بله عقل الإنسان المتحضر والمتصدر للعمران!

ومن هنا فلا لوم على العلماء إذا لم ينتجوا ولا على القضاة إذا لم يحكموا بعدل، ولا على العوام أو الجمهور والمجتمع إذا لم يستقم ولم ينتظم، لأن الخلل قائم من علاقة الرؤوس بالأقدام وبين تسطير الأقلام وما يدور في الأفهام، فبات العلماء الصلحاء مقصيين وبطاليين بالقصد والتخطيط مع سبق الإصرار والترصد حسب اصطلاح الحقوقيين من المحامين، وبالتالي محاصرين بين مطرقة الحكام وسندان العوام فعلى من يقع يا ترى هذا الملام!؟

[1]  الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1 ص 33.