المواطن والدولة وحرية العقل والفكر بقلم د. محمد ناصر الخوالده
تاريخ النشر : 2021-04-18
المواطن والدولة وحرية العقل والفكر

بقلم: د. محمد ناصر الخوالده

لا شك بأن من أهم مظاهر المواطنة، هو حرية استخدام العقل والفكر . وبما أن المواطن يسعى إلى السعادة فهو ينظر إلى الدولة كمؤسسة وظيفتها أن تجعل هذه السعادة ممكنة، والمواطن يحكم على الدولة بمقدرتها على الاستجابة إلى الحاجات التي يستخرجها من التجربة التي يصادفها.

فالذي يتوقعه المواطن عن حق من الدولة أن تعمل حسابا لتجربته عند صنع سياستها، وان تعمل حسابا لها بالصورة التي يعبر هو وحده عن أهميتها.

ومن الواضح أنه إذا كان من الواجب عمل حساب لتجربة أي مواطن، فيجب أن يكون قادرا على أن يعلنها بحرية . فالحق بالتكلم عنها، والسعي بالاشتراك مع آخرين لترجمتها إلى الواقع.

هذا الحق شيء أساسي بالنسبة للحرية، ولكنه إذا أرغم في هذا المجال على الصمت والسكوت، فإنه يصبح مخلوقا أبكم غير واضح النطق، فبدون حرية العقل والفكر وحرية المشاركة يكون الإنسان محروما من وسائل حماية نفسه في نظامنا الاجتماعي . وقد يتكلم بخطأ وقد يشترك مع الآخرين لتحقيق أغراض يبغضها غالبية الناس، إلا أن إنكار حقه في عمل هذه الأشياء هو إنكار لسعادته، وبذلك يغدو هدفا في حد ذاته.

وهذه هي الصفة الأساسية لضلال السلطة , طالما تمنع حرية القول، فإننا نمنع الانتقاد وستكون الآراء التي تتفق مع أولئك الذين يمتلكون السلطة وسيؤخذ السكوت دليلا على الرضا، وقد أثبت التاريخ أن طريق الاستبداد يأتي دائما في طيات إنكار الحرية في هذا المجال.

أن إنكار حرية الفكر والمشاركة هو دائما وسيلة للمحافظة على بعض المصالح الخاصة , فجميع القيود على حرية التعبير بدعوى إثارة الفتنة أو الإساءة للوطن أو الزندقة , تتعارض مع سعادة المجتمع .فأي اعتداء على الحرية واستعمال العقل يقابل التصدي من قبل هؤلاء المصممين على درئه , وهو الضمان الوحيد الذي قد نملكه كمواطنين . فسر الحرية هو دائما في آخر الشجاعة على التصدي ضد الذين يستهترون في عقولنا , الذين يريدون منا فقط التنفيذ ولاستماع , والمباركة . فاءن أنجع وسيلة للفصل بين الصدق والزيف هي المناقشة العقلية الحرة , أي عملية تمييز عن طريق النقد الرشيد , حيث يجبر أولئك الذين يحملون الرأي الزائف على الدفاع عن موقفهم على أسس رشيدة , أما إذا كان الرأي كامل الصواب , فسوف لا يأتي أي مكسب على الإطلاق من منع التعبير , وحجز الحرية وعدم استعمال العقل يعرقل الابتكار ويقلل السعادة , ويساعد أولئك الذين يستفيدون منها على الانتفاع ببقائها , ولكن هذا يكون على حساب المجتمع في مجموعه .
وزيادة على ما سبق , لا تزال هناك مسألة الأشخاص الذين يجب أن تعهد إليهم مهمة اختيار ما يجب قمعه وتحريمه . فما هي الصفات التي يلزم أن تتوفر فيهم لهذه المهمة ؟ وما هي المعايير التي يستدلون منها على وجوب التحريم ؟
 
فمجرد الغيرة على سعادة المجتمع ليست بأية حال مؤهلا كافيا، وأغلب الأشخاص الذين قاموا بدور الرقابة كانوا يحوزون هذه الصفة، ومع ذلك تبت عدم صلاحيتهم التامة لمهمتهم، فأي شخص يتطوع من نفسه للقيام بهذا العمل يقتصر غالبا على أن يتخذ من ألمبادىء العليا للأخلاق مرشدا لرأيه الخاص عن الحقوق الأخلاقية، بينما لا يعقل بالطبع أن يقوم أي عاقل متبصر بدعوة المواطنين إلى استخدام سرير الملذات.

أما الرقيب الرسمي، فأنه عادة ما يفترض أن أي نقد كامل للأداء الوظيفي الحكومي أو للنظام الاجتماعي الموجود شيء خطير هدام .وهو بذلك يتسبب في تحويل ما قد يكون مطلبا خلاقا , إلا هجوم يضاعف عشر مرات من خطورته وتأثيره.

فلو أخذت كل واحد تقريبا من هؤلاء الذين عينوا في عمل من هذا النوع لوجدت أن اندماجهم فيه كان يجعلهم بالضرورة غير لائقين لمهمتهم . وذلك لأنه يحولهم إلى رجال يرون الخطأ في أعمال يرى الإنسان العادي بدون أدنى شك أنها تشتمل على تجربة يجب عليه أن يتعرف إليها.

فما هي المقاييس التي يجب أن يطبقوها ؟ أنهم يقومون , على وجه العموم، بتحريم المطبوعات على اساس أنها فاسدة أو خطيرة، إلا انه لم يتوصل أي إنسان للآن إلى تعريف فعال للفساد ولو حتى للأغراض القانونية.

ولوطبقنا المعايير القانونية للفساد تطبيقا صارما، لأدى ذلك إلى تحريم تداول جزء كبير جدا من الأدب العالمي، وكذلك ( أدب الجيب , أي الملكية الخاصة ) ويصبح المجتمع متساوي لأن المخصص والمصروف لأي موظف أو عامل سيطرح نفسه علينا وهنا سينكشف أولئك المنتفعين الذين يشمئزون من المناقشة الصريحة في هذا المجال، لأنهم مسؤؤلون عن مجموعة من الآلام التي لا مبرر لها.

فالقمع , قبل كل شيء لم يكن أبدا أسلوبا للإقناع الدائم، فهو يحط بالجماهير إلى التلبد الكامل في الشئون السياسية، فأغلب الناس الذين يحرم عليهم التفكير حسب ما تعلمه لهم تجربتهم، يتوقفون فورا عن التفكير كلية، والناس الذين يتوقفون عن التفكير يتوقفون بالمثل عن أن يكونوا مواطنين بالمعنى الصحيح.

ولكنهم يتحولون إلى مجرد مخلوقات قاصرة تتلقى الأوامر وتطيعها بدون تمحيض من أي نوع . ولسوف يحيط قصورهم هذا تصرفات السلطة بذلك الرونق الزائف عن الثقة الذي يخلط بين السكوت والرضى، والحكومة التي لا تنتقد من أساسها لا يمكن أن تعرف حقيقة المشاعر التي تثيرها تصرفاتها بين رعاياها, وفي النهاية تفشل في إرضائهم.

إن افضل دليل على صفة الدولة هو بالدرجة التي تستطيع بها أن تبيح حرية نقدها , وذلك لأن هذا يتضمن ايقاضا للرأي العام , ورغبة في معالجة المظالم , وهو ما يساعد الدولة
على كسب ولاء مواطنيها . ومن المؤكد غالبا أن حرية القول تؤدي دائما إلى تلطيف يزيل ضرورة النقد الدائم ( أو المشاغبة ) ولكنه من المؤكد أيضا أن تحريم هذه الحرية لا يؤدي إلا إلى زيادة خطر التهييج . والحكومات العاقلة يمكنها دائما أن تتعلم من نقد معارضيها أو الرأي العام للشارع أكثر بكثير مما تستطيع أن تأمل في اكتشافه من مديح أصدقائها , ولكنها تمهد السبيل إلى انهيارها عندما تعمل على خنق الانتقاد .

وباعتقادي أن هناك فرقا بين حرية التعبير المكتوب , وحرية التعبير بالقول , ففي الحالة الأولى يحاول أي شخص إدانة الأوضاع القائمة عن طريق الإقناع الفردي , وهو يسعى بواسطة الحجج التي يؤمن بوجاهتها إلى التأثير في عقول أولئك الذين يقرءون ما يكتبه , ولكن الكلام في الاجتماعات يثير مشاكل أخرى مختلفة , وكل من يعرف حالة أي حشد كبير حين يقع تحت تسلط خطيب قدير , لا يشك في مقدرته , المعتمدة على خلق الشغب إذا هو أراد ذلك ولست أعتقد أنه من الواجب ترك الحكومة تحت رحمة أي خطيب , عندما يحاول استغلال أي شكوى أو مظلمة . فمن الواضح أن الدولة لها الحق في الحماية ضد ذلك النوع من القول الذي يؤدي حتما إلى الفهم الخاطئ أي إلى الشغب . 

إلا انه ليس من حق الحكومة أن تفترض أن الشغب وشيك الوقوع , فيجب أن تقدم الدليل على ذلك إلى سلطة مستقلة , وهذا الدليل أن يثبت أن الأقوال التي تعتبرها الحكومة خارجة , كانت في الوقت والظروف التي قيلت فيها محسوبة ومدبرة لخلق التحريض , كما أن منعها يجب ألا يكون منعا تحريميا باتا . فهي يجب أن لا تمنع اجتماعا قبل انعقاده، على أساس أن الخطيب يحتمل أن يعظ هناك بالفتنة : فلا يجب أن تحاول الإدانة بالفتنة بدعوى أن هذه الأقوال ربما تسببت في مناسبة أخرى في إثارة الشغب .
فإذا أمكن إثبات أن خطبة ما كان لها اتجاه مباشر إلى إثارة الشغب في الحال , فحينئذ فقط يمكن تبرير عقاب المتهم , وهنا يمكن القول بان أية مجموعة عشوائية من الآراء الشعبية , أقدر على تحقيق العدل في أمثال هذه القضايا من قاض منفرد عادة ما يقوم بالحكم بالعقاب رغم وضوح انهيار دعوى الاتهام . ولا يعني أننا سنستطيع الاطمئنان إلى حكمة تصرف الدفاع , ولكن هذا قد يقلل من فرصة التصرفات الظالمة عما لو كان الأمر في يد أشخاص يشغلون مناصب رسمية من أي نوع , فمهما كان حسن نيتهم , فهم لا يستطيعون تفادي الإجابة الغريزية لرأي السلطة التنفيذية .

فكل دولة تحوي عددا لا يحصى من الرجال الذين يرون في الأفكار الجديدة تهديدا بهدم الاستقرار الاجتماعي , وقد يصلون إلى مناصب وزراء , وهم حينئذ يصبحون قادرين تماما على التفكير بأن هناك مجتمعا من الفوضويين الذين يصورهم توليستوي في قصصه , على وشك القيام بمؤامرة ما.

فكل دولة تحتوي على رجال جعجاعين متحذلقين يدعون التكلم باسم الأخلاق , وهؤلاء يحاولون استغلال جهاز الدولة في محاولة فرض مبادئهم كمستوى رسمي للسلوك بين الشعب , وهم يهتمون بالتجانس والتصفيق وعندهم كل شيء تمام وكل ذلك من اجل مصلحتهم الخاصة , وكل نجاح يحوزونه أنما يدفعهم لمضاعفة مجهوداتهم فهم يرون في كل ما يخرج عن عرفهم فضيحة شائنة , وهم يسرفون في استنكاره والشكاية منه وفي كل مرة يكتشفون حادثا غير عادي من التصرف المريب نراهم يهرعون إلى التشريع يستنهضونه للعمل , فهم ممتلئون بشعور لا حد له بأنهم مبعوثون برسالة مقدسة وهم الرجال الذين يجدون في " الصراحة " وسائل إفساد عقل المجتمع , وفي الحقيقة أنهم يتناقضون مع جو الحرية العقلية أكثر بأفعالهم فهم يفتقرون إلى احترام الهيئة الشخصية البشرية , وهم عاجزون تماما عن رؤية أن الناس الذين تختلف ظروف حياتهم يختلفون بالمثل في تفكيرهم , وأنه لا محل للمستويات المطلقة في مدنية واسعة التباين مثل تلك التي نعيش فيها اليوم , ومن الصعب تقدير عظمة الثمن الذي يدفعه الكثيرون في كل مرة ينجح مثل هؤلاء فيها , انهم نوع حديث من قضاة التفتيش , لا يعرفون التسامح ولا الرحمة , يحللون لأنفسهم كل وسيلة ممكنة طالما أمكن بها الحصول على هدفهم , فهم مغرورون إلى درجة تفوق الوصف , خطرون يتميزون دائما بالنشاط , ولما كان أصدقاء الحرية يغطون في النوم في أغلب الأحيان , فليس من النادر أن يلقى تيقظ هؤلاء القوم الدائم مكافأته , هؤلاء وخاصة في المجتمع السائر في بداياته الديمقراطية إنما يمثلون أخطارا هائلة على الحرية يجب أن ندفعها عن أن أنفسنا بكل ما نملك من جهد وحيلة أنهم يسعون إلى تشكيل الناس في صورتهم الخاصة أنهم خطر ماحق في أي مجتمع ديموقراطي أو في الطريق إليها , وذلك لأن نسبة الغيورين على الحرية هناك عادة ما تكون ضئيلة.

فالاستبداد يفيض بسهولة من تراكم التعقيدات التافهة , ولذلك فمن الضروري التأكد من أن كل منها له ضرورة اجتماعية لا تنكر قبل السماح بإدخاله في نسيج القانون.

ولذا يجب عدم السماح بالفرصة لممارسة أية سلطة، إلا إذا كان تطبيقها يعمل على إطلاق الناس من الشباك التي تقيدهم. فهذا هو الثمن الواجب دفعه لشراء تلك الفرصة، ويجب أن ندقق في تمحيض كل اقتراح يطلب منا التنازل عن الحرية.

فيجب أن لا ننسى أيضا أن أعداءها لا يعترفون أبدا بأنهم يعتدون عليها