ثالوث الأزمات في مواجهة بوادر الانتعاش بقلم غازي أبو نحل
تاريخ النشر : 2021-04-07
ثالوث الأزمات في مواجهة بوادر الانتعاش  بقلم غازي أبو نحل


ثالوث الأزمات في مواجهة بوادر الإنتعاش

بقلم: غازي أبو نحل

يسعى الإقتصاد للتخلص من ثالوث الأزمات العالمية، المشكَّل من وباء كورونا وحدّة الركود الإقتصادي وتزايد اعباء الديون، ويعمل جاهداً للعودة إلى مسار التعافي رغم الندوب التي أصيب بها خلال العام 2020.

ماذا عن هذه العودة؟ وهل سيشهد العالم إنفراجاً في العملية الإقتصادية بعد أشهر من التوتر والانعزالية والحمائية والانسياق وراء دعاوى الشعبوية؟

من الملاحظ أن بوادر تعافي إقتصادي عالمي قد بدأت في الظهور، وسط إعتماد حُزَم تحفيز مالي في كبرى الاقتصادات حول العالم، وبعدما كانت توقعات النمو العالمي تتوقف عند حدود 5.5% للعام الجاري، ها هو صندوق النقد الدولي يميل إلى تحديث توقعاته إيجاباً خلال شهر نيسان/ ابريل الجاري، ليعكس واقعاً متجدداً أكثر تفاؤلاً. أما وكالة فيتش للتصنيفات الإئتمانية، فقد رفعت توقعاتها للنمو العالمي من 5.3% في شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي إلى 6.1%، وذلك في تقريرها الأخير عن آفاق الإقتصاد العالمي الصادر في الرابع والعشرين من شهر آذار/مارس الماضي، أي أعلى بنسبة 2.5% عما كان عليه عام 2019. وتتوقع الوكالة نمو الناتج المحلي الأميركي بنسبة 6.2% مقابل 4.5% في التوقعات السابقة، والصين عند 8.4% من 8.0% ومنطقة اليورو دون تغيير عند 4.7% على أن يبلغ النمو في الأسواق الناشئة، بإستثناء الصين، 6.0% إرتفاعاً من 5.0% في توقعات كانون الأول/ديسمبر الماضي.

الدافع الرئيسي لمراجعة التوقعات هو حزمة التحفيز المالي التي فاقت التوقعات، والتي تم تمريرها مؤخراً في الولايات المتحدة الأميركية بقيمة 1.9 تريليون دولار أميركي، وحُزَم التيسير المالي في المملكة المتحدة وايطاليا واليابان وألمانيا والهند، كما الإستعدادات التي يجريها صندوق الإنتعاش الأوروبي لتوفير دفعة كبيرة لنمو منطقة اليورو في المستقبل القريب، علماً أن الصين هي الإقتصاد الوحيد الذي بدأ تطبيع إعدادات سياسة الإقتصاد الكلي، إذ يتم تقليص العجز المالي وتباطؤ نمو الإئتمان مع نضوج الإنتعاش الإقتصادي فيها.

من الإقتصاد العالمي، إلى الإقتصاد الأول في العالم، حيث شهدت الساحة الأميركية تغيراً في قيادتها ورجوعاً حميداً إلى المسارات الدولية متعددة الأطراف، فعادت لإتفاقية باريس للتغير المناخي بعد غياب طويل، وقدمت مساعدة مالية لمنظمة الصحة العالمية بعد إنقطاع، ومهّدت الطريق لتولية قيادة إفريقية إدارة منظمة التجارة العالمية بعد فترة من الجمود دون قرار.

ومع التغيير الإيجابي في الأداء العام، تشير التقديرات إلى إحتمالات أن يشهد الإقتصاد الأميركي نمواً بنسبة 6.5%على الأقل مع نهاية العام الجاري، بفضل توسع مظلة التطعيم ضد كوفيد_19، وما يعنيه ذلك من عودة الحياة والأنشطة الاقتصادية الى طبيعتها في الولايات المتحدة وكذلك بفضل سياسات الحزم التحفيزية للاقتصاد الأميركي التي اطلقتها ادارة بايدن مطلع العام الجاري .

وبحسب البيانات الصادرة عن وزارة التجارة الأميركية، شهد الربع الأخير من العام الماضي نموًا نسبته 4.3% في الاقتصاد الأميركي مقارنة بمعدل النمو المسجل في الربع الأخير من عام 2019 .وجاء في بيان صادر عن وزارة التجارة الأميركية أن مستوى النمو الاقتصادي المتحقق في الولايات المتحدة خلال الربع الأخير من 2020 فاق متوسط معدلات النمو المسجلة في الأرباع الثلاثة السابقة عليه وكان بنسبة 4.3%. وأرجع بيان وزارة التجارة الأميركية سبب تباطؤ معدلات النمو الربع في الاقتصاد الأميركي الى أثر سياسات الإغلاق على التجارة وأوضاع الاقتصاد بشكل عام في مواجهة جانحة كوفيد_19 وهو ما أدى إلى انكماش الاقتصاد الأمريكي بنسبة 3.5% خلال العام الماضي، بعد  نمو كانت نسبته 2.2% خلال عام 2019.

في الوقت الذي يتوقع فيه صانعو السياسات في مجلس الإحتياطي قفزةً في الإنفاق ونمواً في الإقتصاد خلال الأشهر المقبلة، صرح رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي جيروم باول ان اقتصاد الولايات المتحدة تحسن كثيرًا، ناسبًا الفضل للكونجرس والبنك المركزي كليهما في تقديم دعم لم يسبق له مثیل، لكنه حذر في الوقت نفسه من أن التعافي ما زال بعيدًا عن أن يکون کاملًا، وتابع "التعافي سار بخطى أسرع مما كان متوقعًا بشكل عام ويبدو أنه يزداد قوة، مضيفًا أن إنفاق الأسر وقطاع الإسكان أظهر تعافياً أكثر اكتمالًا. لكن قطاعات الاقتصاد الأكثر تضررًا من عودة ظهور الفيروس وتباعد اجتماعي أكبر تبقى ضعيفة ومعدل البطالة ما زال مرتفعًا عند 6.2%". ومضی قائلًا "التعافي بعيد عن أن يكون كاملًا، ولهذا فإننا في مجلس الإحتياطي الاتحادي سنواصل تزويد الاقتصاد بالدعم الذي يحتاجه أيا كانت الفترة التي يستغرقها" مشددًا على استخدام "كامل نطاق الأدوات التي لدينا لدعم الاقتصاد والمساعدة في ضمان أن التعافي من هذه الفترة الصعبة سيكون متينا قدر الإمكان".

اذا كان الاقتصاد الأول في العالم، يسعى بكل امكاناته وحُزمِه للعودة إلى سكة النمو، فإن الإقتصاد الثاني بات متأكداً من بلوغ هذه الغاية بعد قضائه بشكل شبه كامل على الوباء، حيث صرح رئيس الوزراء الصيني أن ثاني إقتصاد في العالم يطمح لأن يتجاوز عتبة الـ6% نمواً لهذا العام، مضيفاً أن "الصين ستواصل مواجهة العديد من المخاطر والتحديات في مجال التنمية، لكن الأسس الإقتصادية التي ستدعم النمو الطويل الأمد لم تتغيّر".

القارة العجوز التي عانت من هذه الجائحة كثيراً، سيتأخر تعافيها الإقتصادي حتى النصف الثاني من العام، على رغم تعزيز خطة التعافي التي اقرها الإتحاد الأوروبي العام الماضي وتبلغ قيمتها 750 مليار يورو، وذلك بسبب موجة الوباء الثالثة من جهة وتأخر عمليات التلقيح من جهة ثانية.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قال "أن إستجابة الإتحاد الأوروبي كانت على مستوى التحدي اثر الموجة الوبائية الأولى في ربيع 2020، لكن يجب بلا شك أن نعزز الإستجابة في أعقاب الموجتين الثانية والثالثة" وقارن ماكرون سياسات التعافي بين الولايات المتحدة وأوروبا قائلاً "إن قوة الرد الأميركي والخطة التي اعلنها الرئيس بايدن والكونغرس في الربع الأخير من شهر آذار/مارس تضعنا أمام مسؤولية تاريخية".

تدل المؤشرات أن منطقة اليورو ستحقق نمواً خلال العام الجاري يصل إلى نحو 3% وإن الجزء الأكبر من الإنتعاش سيجري إعتباراً من الربع الثالث من العام، وإنها في الإجمال، لن تستعيد ناتجها المحلي الإجمالي السابق للأزمة قبل النصف الثاني من العام 2022، بتأخر عام كامل عن الولايات المتحدة الأميركية.

إذا كانت الاقتصادات العالمية في طريقها للخروج من الأزمة وتحقيق النمو، فإن أزمة إنسانية تبدو معدلات استمرارها وتفاقمها أكبر من آمال التغلب عليها في المستقبل القريب... أنها أزمة الفقر مترافقةً  مع إتساع الفجوة  الإقتصادية.

أدت جائحة كوفيد_19 إلى تفاقم التفاوت الإقتصادي في جميع أنحاء العالم، حيث ذكرت منظمة "اوكسفام" التي تعمل في مجال الفقر والظلم على مستوى الكرة الأرضية، أنه في الفترة من 18 مارس/آذار إلى نهاية عام 2020، زادت ثروة المليارديرات العالمية بمقدار 3.9 تريليون دولار. وعلى النقيض من ذلك، ووفقًا لمنظمة العمل الدولية انخفضت ايرادات العمال في العالم بمقدار 3.7 تريليون دولار حيث فقد الملايين وظائفهم في جميع أنحاء العالم.

يشير "تقرير الثروة العالمية" لمصرف كريدي سويس، أن أغنى واحد في المئة  في العالم، الذين لديهم أكثر من مليون دولار، يمتلكون 44% من ثروة العالم. وتظهر بياناتهم أيضًا أن البالغين الذين تقل ثروتهم عن عشرة آلاف دولار أميركي يشكلون 56.6% من سكان العالم، لكنهم يمتلكون أقل من 2% من الثروة العالمية. ويشكل الأفراد الذين يمتلكون أصولًا تزيد قيمتها على مئة ألف دولار أقل من 11% من سكان العالم لكنهم يمتلكون نحو 83% من الثروة العالمية.

ووفقًا لمجلة «فوربس»، يمتلك أغنى 10 مليارديرات في العالم 801 مليار دولار من الثروة المجمدة، وهو مبلغ أكبر من إجمالي السلع والخدمات التي تنتجها معظم الدول على أساس سنوي وفقًا لصندوق النقد الدولي. ووفقًا لمنظمة «أوكسفام»، فإن فجوة الثروة بين المليارديرات العالميين والخمسين في سكان العالم الأفقر تتزايد باطراد. و بين عامي 2009 و 2018، انخفض عدد المليارديرات الذين احتاجوا إلى مساواة ثروة أفقر 50% في العالم من 380 مليارديرًا إلى 26 مليارديرًا فقط.

صحيح أن النمو الاقتصادي السريع في آسيا (خاصة الصين والهند) انتشل الكثير من الناس من براثن الفقر المدقع، لكن أغنى واحد في المئة في العالم حصدوا حصة أكبر بكثير من المكاسب الاقتصادية، وفقًا لتقرير عدم المساواة العالمي. وعلى الرغم من أن حصتها (حصة أغنى واحد في المئة) من الدخل العالمي نقد انخفضت إلى حد ما منذ الأزمة المالية في عام 2008، إلا أنها لا تزال أعلى بكثير من حصتها البالغة 16% في عام 1980.

لا يؤثر سوء توزيع ثروة الأمم في الدخل فقط، ولكن يتعداها حيث عدم المساواة تؤثر في تحديد صحة الدول، والسؤال هو: كيف يرتبط عدد المساواة بالصحة؟ تشير الأدلة المتزايدة من العلماء في جميع أنحاء العالم إلى أن العديد من مؤشرات الصحة مثل متوسط العمر المتوقع، ومعدل وفيات الرضع والسمنة وغيرها، يمكن ربطها بمستوى عدم المساواة الاقتصادية داخل مجموعة سكانية معيّنة. ويبدو أن زيادة عدم المساواة الاقتصادية تؤدي إلى نتائج صحية أسوأ. إن سوء الصحة والفقر يسيران جنبا إلى جنب، ولكن تظهر الأبحاث الوبائية أن المستويات المرتفعة من عدم المساواة تؤثر سلبًا في صحة حتى الأثرياء. ويرجع ذلك أساسًا، كما يؤكد الباحثون، إلى أن عدم المساواة يقلل من التماسك الاجتماعي، وهي ديناميكية تؤدي إلى مزيد من التوتر والخوف وانعدام الأمن للجميع، وقد عرف الاقتصاديون وخبراء الصحة منذ سنوات أن الأشخاص الذين يعيشون في المجتمعات الفقيرة يعيشون حياة أقصر، ويعيش فترة أطول في الدول ذات المستويات الأقل من عدم المساواة، وفقًا لبيانات منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي.

عودة العافية إلى إقتصاديات العالم نأمل أن تترافق مع تراجع معدلات الفقر وردم فجوة التفاوت الإقتصادي، بما يؤدي إلى مزيد من التعاون الدولي ونشدان الرخاء للبشرية والحفاظ على السلم والاستقرار.