"الشبح وزيتونة التل العالي" بقلم بكر السباتين
تاريخ النشر : 2021-04-03
"الشبح وزيتونة التل العالي"

قصة قصيرة

بقلم: بكر السباتين

تنبلج صباحاتُهم محتفية بشمس لا تفيق بازغة إلاّ من خلال زيتونة التل العالي.. الشاهدة على من يستظل تحتها من القاصدين باب الله إلى حقولهم المحروثة للزرع أو إلى بحرهم الذي يألف إطلالاتهم في رحلات الصيد اليومية، والعائدين من المعارك المحمومة مع العصابات الصهيونية على حدود قراهم بملابسهم المتربة وبواريدهم المرفوعة على الأكتاف، وعرقهم المتفصد على جباههم الملوحة بشمس تألفهم في المكان منذ الزمن السحيق المطيب بالموروث الكنعاني ومواويله التي تخشع لها السنابل في المروج الممتدة في قلوب تأنف النسيان، حينما كان "بَعْلُ" يضيء مصابيح النهار و"عشتارُ" ترسل الأسرار مع الجداول إلى الآبار العتيقة.. وما لبثَتْ تلك الزيتونة الهرمة تعبق المكان ، وتظلل أبا الفضل في نوبات الحراسة على الحدود مع العدو المتربص بالربيع الذي يأنف اليباب.

وكأنها تبتسم دائماً وهي سامقة تفترش السماء بكل أنَفَةٍ وإباء، ما دام أبو الفضل ماثلاً أمامها ، والسلاحُ مُشرَعٌ باتجاه تلك النقطة..

وهذا المساء..!

أرخى الليلُ سدولَه على المكان ، وأسند أبو الفضل ظهره على حَنيَةِ ساق الزيتونة ، كمن يغرس رأسه في خاصرة أمه الدافئة.. مسنداً كعبَ السلاح على حذائه المعفر بتراب الأرض التي جاء ليحتضنها مدرجاً بدمائه ويتماهى معها إذ ظفر بالشهادة حتى يلحق بقافلة ضمت والده وشقيقه الأكبر..

وكان دائماً يتساءل كلما داهمته الهواجس والأفكار التي يخوض الشيطان في تفاصيلها:

ومن سيعيل الأسرة الكبيرة من بعدك بعدما فقدت الدار كبيرها وشقيقك الأكبر! أيها الأشم المغلوب على أمره! المصالح ستهمش سيرتك لو قتلتك رصاصة مباغتة.. وقد تتحول إلى عبء ثقيل لو داهم الصهاينة القتلة بيتكم وحرقوا الحقل والقلوب المكلومة!

أيها المأفون، أترك البندقية جانباً للمقطوعين من شجرة! هكذا تسوّى المسألة!".

لكن أبا الفضل لا يستجيب لنداء الخوف المتسلل إلى قلبه.. فيهز رأسه غضباً، ثم يعتصره بيدين مرتجفتين.. وتنتفخ أوداجه، ثم يحمر وجهه المُحتقن.. يشعر بضيق التنفس؛ فيثور، ويدور حول الزيتونة وعيناه شاخصتان في هالتها الخضراء المنتشرة في سماء جاء ليستأنس بندائها.. كعابد يبحث عن خلاص فيما قلبه يلهج بالدعاء إلى الله:

"لطفك يا رب..

ولكِ الله يا أم الفضل..

أنا هنا لحمايتكم..

لكم الله من بعدي والأيادي البيض! وإلا لأخذكن الصهاينة سبايا ذليلات!

يا للعار!"

يتهادى غضب أبي الفضل الجامح، ويستنهض الصهيل في أعماقة التي تضاربت فيها المشاعر، ثم يسترسل في حديثه مع نفسه:

"حينها سيكون للهزيمة طعم الموت المذل!

فَلِمَ لا أحظى به مطيباً بالكبرياء! فتطير روحي إلى الفردوس مع الطيور الخضر.. وقتذاك، أكون قد أوْدَعْتُ أهلي في جنة الوطن الذي يكابد مشقة الثبات بأهله الصامدين الصابرين..

آه يا وطني..

يا أمي..آه!

هذه الزيتونة تحرضني على الصمود وكأننا مغروسان في هذه الأرض الكنعانية وقد تمددت جذورنا في الأعماق دون توقف"

وانتظر أبو الفضل حتى يقترب ما لاح له من قلب الظلام.. تأهب بانتباه حتى تنجلي الرؤية عن الشبح القادم .

"أتراه ضابط الخفر ؟! أم… !؟".

كانت صليات الرصاص أسرع من تفكيره.. فقطعَ تفكيرُهُ الموتُ الذي أتاه على حين غرّة، ومات متأبطاً أرضاً جاء ليدافع عنها، وتقطع شريط الذكريات في رأسه المدرج بالدماء.. متأبطاً ساق الزيتونة المفجوعة بعمرها المديد، وحزنها الطويل ، ومال السلاح عن كعب حذائه الذي عفره الترابُ ، وظلَّ على حالهِ حتى بزوغ شمس الصباح ، وكأنها ترسِلُ إلى جسدِه المُخضّبُ بالدّماءِ الزكيةِ سَنَاها كي توقظه ، فلا من مجيب.. فانتشر ضوءُ النهار بعدها في الطرقات كي يوقظَ المارة :

"أبو الفضل مُضرَجٌ بدمائه".

وأخذت طيورُ الصباح تزفُّ روحَ أبي الفضل إلى السماء، بعيداً عن زحام المشيِّعين وهم يهتفون:

"لا اله إلاّ الله، شهيدنا حبيب الله"..

وكانت تلك الروح وهي تبتعد إلى العالم الآخر تودّع الزيتونة الهرمةِ بقلق شديدٍ سرعان ما تلاشى حينما سجدَ تحتها مقاتلٌ آخر.