حدث في يكنعام........ الطاعون بقلم سفيان الجنيدي
تاريخ النشر : 2021-03-15
حدث في يكنعام........ الطاعون

بقلم: سفيان الجنيدي 

الحمدلله إنها إنقضت ع خير، لولا لطف الله كان راحت القرية واللي فيها، والله الطاعون أخذ حقه من القرية و زيادة، لا حول ولا قوة إلا بالله، فقدنا ثلاثة من خيرة ابناء العيلة، غير الحلال والموسم اللي خرب ، شهرين وإحنا مهجرين، مشردين وغايبين عن بيوتنا ، أيام صعبة الله لا يعيدها و لا يفرجيها لعدو أو محب ، يا حاج خالد هذا عمي داود جاي هيئته زعلان، وجهه ما بتفسر ولونه مخطوف، الله يستر والله جيته وراها اخبار ما بتسر ، الله يعيذنا من اللايذات ، هلا عمي كيفك ؟! من الله بخير، الحمدلله ع كل شئ، خير يا حج، والله مبين ع وجهك الهم ، الله يبعد عنا كل هم وغم. والله يا حاج خالد مصيبة لا كانت لا ع البال و لا ع الخاطر، أقلقتني ، خير شو صار؟! آه ، تنهد الحاج داود ونفخ بعضا من غلوائه مع سحب دخانه الكريه، وأطرق : لا حول ولا قوة إلا بالله، مش عارف شو أحكي، يعني بعد كل هالمصايب اللي نزلت علينا مثل زخ المطر، الموسم انضرب، و الطاعون اللي حصد خيرة اهلنا وحبايبنا وأجى ع الزرع والضرع و شهرين وإحنا مهجرين و مشردين عن بيوتنا وعن أحبابنا، يعني موت وخراب بيوت وبهدلة، ويا ريت لو وقفت الامور عند هذا الحد، قاطعه الحاج خالد، الله يصبرنا و يجعلها آخر المصايب، والله يا حاج خالد ما ظنيت إنها آخر المصايب، كله بهون عن عملة الحاج فايز، خير شو عمل الحاج فايز؟! بعد ما رجعنا من نزوحنا عن القرية - تنذكر وما تنعاد – بتفاجئ إنه فايز بايع البيت ومهاجر ع حيفا، وحد الله يا عمي، شو بتحكي! بايع البيت! لمين بايعه! ومتى باعه و وين عيالك هسا! تركتهم بديوان العيلة لحد ما نشوف شو بدنا نعمل بهالمصيبة ! والله يا عمي ماني مستوعب أي إشي، كيف باع البيت ومتى ولمين! يا أبن الحلال، حاولت افتح الباب ما قدرت، المغلاق مبدل، وانا بحاول أني افتح الباب ، مر علي ابو فلاح السعايدة ، خير يا حجي. بشوفك بتفتح بالباب، الظاهر ما عندك خبر؟ خبر شو ! والله يا حجي اخوك الحاج فايز باعني البيت قبل شهر ونص! يا رجل شو بتحكي، كيف باعك البيت؟و وين باعك البيت؟! والله هذا اللي صار، قابلته قبل شهر ونص بحيفا، وكان محتاج فلوس، عرض علي البيت إشتريته و دفعت له السعر اللي طلبه و فوقهم حبة مسك ، يا سيدي مبارك عليك البيت، بس ليه ما خبرتني بوقتها، والله انا بفكر انك بتعرف وخصوصا انه الحاج فايز أكد اكثر من مرة أنه هاي رغبتك، وبعدين يا حجي بعد ما تقطعنا و تشردنا من الطاعون ، وين كنت بدي الاقيك ، هو الواحد كان براسه عقل يفكر فيه، و ما تزعل مني يا حجي يعني هاي قصة عائلية بتحلها مع اخوك الحاج فايز.
 
والله يا عمي هذا موال ما حدا غناه قبل الحاج فايز، لا حول ولا قوة إلا بالله، الله يهديه ويصلح باله ، بعين الله يا حاج خالد، شدة و بتزول، والله يا حاج خالد ماني زعلان ع البيت مثل مانا زعلان على فايز اللي للأسف خسر كل إشي، دينه و دنياه وقيمته بين الناس، والأهم من ذلك أنه خسر نفسه.

سرح الحاج خالد بخياله وبدأ يفكر في كلام عمه، فعلا إذا كان الرجل بلا مروءة و نخوة، فماذا يتبق من كبريائه و إعتداده بنفسه ؟! والإنسان أول ع آخر عبارة عن كلمات تجهر بها الحناجر بعد غيابه الأبدي المحتوم، فإما كلمات تعطر ذكرى زيارته الخاطفة للحياة، وإما تجهم و إمتعاظ من كائن مجرد ذكر إسمه ، يلوث اجواء الاخرين و يعكر صفوهم.

يعني يا حاج خالد عشنا بعض من التصرفات الصبيانية من فايز، بس عمرنا ما تخيلنا إنه يبيع البيت، يا رجل إذا ما فكر في وبولادي، كان لازم يأخذ خاطر لاخوانه اليتامى !
 
هل حدث ذلك فعلا ! ما زلت لا استطيع إدراك كيف يجرؤ امرؤ أن يبيع ذكرياته و عوالمه وحياته ؟! من أجل ماذا ؟! قليل من النقود والتي ستفنى في نهاية المطاف، أما من أجل إشباع رغبات تفقدك أهليتك و إنسانيتك! أما من أجل تحقيق طموح زائف، زائل مشين ! أما من أجل ....... ! ما زلت غير مدرك كيف لا تمنع المروءة الرجل الإبتعاد عن سفاسف الامور وصغائرها ! هل نسي الحاج فايز أصلنا و عاداتنا وتقاليدنا واخلاقنا ! لا أعرف ماذا ألم به ليفعل فعلته تلك النكراء، يا خسارة يا حج فايز كيف طاوعتك نفسك أن تبيع رائحة ابائك وذكرياتهم، هل كنت واع لما ستقترفه يداك؟ هل فكرت ولو للحظة بدلالة و مغزى البيت! هل وانت تبيعه كنت تعتقد أنك تبيع مادة صماء من الباطون والحديد؟ لقد تجنى عليك عقلك ، البيت مش شوية باطون وحديد، البيت عوالمك اللواتي أحببت والتي من أجلها ستعمل جاهدا لكي تستمر تلك العوالم في ألق و إزدهار و ستعمل المستحيل لكي يبقى ذياك الحب والتوحد في إزدياد و ألا يخبو البتة، البيت كينونتك وعوالمك السرية المقدسة التي تخفيها عن الاخرين، ملجأ يحميك ويفصلك عن المحيط الخارجي متى وكيف أردت، ذكرياتك مع ابيك وامك ومع ذاتك، آهاتك، ابتساماتك، إنكساراتك، تجاربك البريئة مع ما كنت تظنه الحب، شقاوتك واحلامك مع اخوتك ، براءة الطفولة ، أحلام و عنفوان الشباب، و محطات أخرى مجبولة بالتوحد مع المكان و الشخوص، ابناؤك وهم يتجاذبون السعادة من جميع أطراف الارض.

كل هذا لم يمنع الحاج فايز من خذلان نفسه وأخيه وعائلة اخيه واخوته اليتامى، فعلا الايام حبلى بالمفآجات ، صدق اللي قال بني آدم ما بعبي عينه إلا التراب، يعني الحاج فايز ما إتعظ بكل المصايب اللي حلت فينا، ما إتعظ من موت ابيه وأمه وخاله بيوم واحد، ما ظل حدا بطول و عرض البلاد إلا وتأثر بموتهم الثلاثة، وكله بهون عن ناصر الله يرحمه اللي ما تزوج ولم يعقب، شاب من خيرة شباب البلاد، ألم به المرض و هو في ريعان الشباب، بقي طريح الفراش لمدة شهر قبل أن تفيض روحه.

الطاعون يفتك بالقرية
كان موت الحاج عبدالله المحمود ( أبو فايز) و زوجته وأبن عمه و صهره ناصر أبو علي في تلك الليلة المشؤومة من ربيع ١٩٣٦ قد ترك جرحا مؤلما وأثرا بالغا لم تفتر حدته كلما لاحت ذكريات الفقراء الثلاثة على مخيلات وأفئدة رجالات ونساء العائلة و القرية أجمع، اولئك الذين عاصروا تلك الفاجعة والتي وصفوها بالحدث العائلي الأشد إيلاما عليهم منذ أن نبتوا في القرية و أستقروا فيها.

في تلك الليلة المشؤومة من ربيع ١٩٣٦ وبعد يوم شاق في ممارسة الاعمال اليومية هرع أفراد العائلة إلى بيت شيخ العائلة مصطفى ابو علي لمؤانسة و زيارة أحد رجالات العائلة وأشدهم إباء و شكيمة ونخوة و فروسية، ناصر أبو علي والذي ظل طريح الفراش لبضع أسابيع لآلام ألمت به وجعلته لا يقوى على الحراك بعد أن كان فارسا مهابا جسورا سمع بمآثره وعلو همته و شدة بأسه القاصي و الداني.

ناصر أبو علي ذلك الفتى الذي لما يبلغ بعد عامه السادس و العشرين، ذي العينين الحادتين، الغائرتين في جبينه، والوجه الطولي الرزين بالرغم من كثرة إبتسامه، وطوله الفارع وجسده المسكوب كقطعة فولاذ ، إلا أن إحدى اعظم سجاياه على الإطلاق بره بعائلته والتي من أجلها يقدم - بكل سعادة وثبور- روحه رخيصة دون مقابل أو تردد، فتيا جسورا مهابا محبوبا من كل ابناء القرية وجميع المناطق المجاورة، والأهم من ذلك كله أن القرية كانت آمنة لا يجرؤ كائن من كان الإقتراب من أفرادها وأراضيها و ممتلكاتها لوجود ناصر أبو علي وأبن عمه الحاج عبدالله المحمود ( أبو فايز).

تلك الليلة الأشد وطأة على أبناء القرية والتي غرست في وجدان أفراد العائلة صغيرهم وكبيرهم آحزانا وآلاما مات معاصروها ولم تمت ذكراها الشجية والتي تناقلتها الاجيال تلو الاجيال وأضحت ترنيمة ترتلها عقيلات و حرائر العائلة في الاتراح إلى يومنا هذا.

إغتصبت صيحات و صرخات قادمة من بيت مصطفى أبو علي سكون الليل و طمأنينته و وداعته ، ناصر مات، يا ويلي عليك يا ناصر، يا ذلنا بعدك يا ناصر، ناصر مات يا ناس .... ناصر مات .
أفزعت الصيحات ليل القرية الآمنة وأقضت مضاجع ساكني القرية، وكان الخبر أشد وطأة على الحاجة أم فايز والتي كانت تمرض زوجها وأبن عمها الحاج عبدالله المحمود والذي بدوره كان عليلا قعيد الفراش منذ أسابيع خلت.

أسرعت الحاجة أم فايز إلى بيت أبيها لتقف على صدق ما ترامى إلى مسامعها و إغتصب سلامها الداخلي و طمأنينتها ، أخذت تهرول وهي مفزوعة، مصدومة ومصعوقة حيث أنها لم تحضر نفسها لألم الفراق والاشتياق، كان بخير و لم تبدو عليه أعراض الموت، يا ربي معقول انه ناصر مات! بدأت بالهرولة وكانت كلما هرولت أكثر أحست بتباعد المسافات وعدم إنقضائها بالرغم من أن بيت أبيها يقع في ناصية الطريق و لا يبعد عن بيتها سوى بضع مئات من الامتار، وكانت كلما إقتربت من مصدر الصوت خارت قواها وتملكها اليقين أكثر من صحت ما ترامى إلى مسامعها وأقض مضجعها وسلبها هدوئها وسكينتها.

بعد رحلة شاقة مليئة بالهواجس والتخمينات والأمل من عدم صدق الصيحات والصرخات ، وصلت بيت أبيها بعد أن إسترجعت شريط ذكرياتها مع شقيقها ناصر، تؤام روحها وأحب أشقائها إليها وأقربهم إلى فؤادها، ناصر تؤام الطفولة وأجمل ما في حياتها، وصلت و بالكاد تسطيع سيقانها أن يحملانها، مشدوهة، شاحبة اللون و مشوشة الافكار.
 
بعد إنقضاء بضع سويعات من القهر والالم والأحزان وهي ترى جثة أخيها مسجاة أمامها لا حراك و لا حياة فيها، عادت إلى بيتها لتنبأ زوجها بالحدث الجلل، أجهزت عليها الفاجعة،حاولت جاهدة أن تتبين الطريق ولكن بلا جدوى.

بعد عدة محاولات من التيه ، وصلت بعد عناء بيتها وهي مكلومة بجرح إخترق فؤادها وأتى على روحها وترك فيها ألما ، حنقا و شرخا والذي سيؤدي إلى حتفها فيما تبق لها من أنفاس في الحياة.
تسللت إلى البيت وتهادت إلى سرير زوجها والافكار تحرمها طمأنينتها و تغتصب إتزانها، والله ماني عارفة كيف بدي أخبر الحج عبدالله، كيف سأخبره بهذا الخطب الجلل وهو الذي ما ينفك يقول أحب ناصر لانه يذكرني بشبابي.

إقتربت منه وشرعت تكلمه بصوت جهيش وظلت تكلمه بعض الوقت ولا يرتد إلى مسامعها إلا صدى صوتها الحسير، كانت تنظر إليه و لا يتراى لها إلا جثة ناصر ، حاولت مرارا و تكرارا إيقاضه إلا أن جميع محاولاتها باءت بالفشل، ما كان للتو هاجسا أصبح حقيقية، أيقنت أن زوجها قد فارق الحياة، لم تتحمل فكرة الإبتعاد عن أحبتها، ظلت تبكي إلى أن فاضت روحها كمدا وحزنا على أحب شخصين على قلبها، شقيقها و زوجها.

انا و بعدي الطوفان
خير يا حج خالد، بشوفك سرحت، بشو بتفكر؟ يعني بشو بدي اسرح يا حجي؟ عملة الحاج فايز مشينة و مخزية، الله يغفر له؟ وين يا مسهل ، بشوفك بتلبس يا حج!

والله يا حج خالد بدي اروح اشوف العيال، قبل ما أمر عليك، مريت على جدي مصطفى ابو علي وخبرته عن اللي صار، وأذن لنا الإقامة في الديوان لحد ما الله يفرجها.
وين يا ابن الحلال رحت و تركتنا، بعدين شو صار معك، متى بدنا نروح عبيتنا؟

إسمعي هالكلمتين وما بدي أحكي كثير، اللي صار أنه فايز، قاطعته الحاجة فاطمة: أيوه يعني الموضوع إله علاقة بأخوك فايز، الله يستر، والله يا داود بدون ما تزعل، أخوك ما بيجي من وراه إلا الهم والغم و المصايب، خير شو عامل فايز؟ مش خير ، فايز بايع الدار وصفينا بالشارع! بايع البيت ، حسبنا الله ونعم الوكيل، شو هذا اخوك ما بخاف الله؟ حكيت ما بدي كثر كلام، خليها ببالك إنه بيظل أخوي وعم اولادك، واللي بعيبه بعيبنا، منشان هيك ما بدي ولا أي إنسان يعرف بهذا الموضوع.

يعني أخوك ما نسي إني رفضته واخترتك إنت؟ أعادت الحاجة فاطمة شريط ذكرياتها ، الله يرحمك عمي أبو فايز، يا الله كيف الايام بتمشي بسرعة والله تقول مبارح أجى الحجي يطلب إيدي . في صيف ١٩٢٦ قرر الحاح عبدالله المحمود أن يزوج إبنيه فايز و داود، قرر الحاج عبدالله المحمود أن يصاهر عشيرة السعايدة والتي آوت و أحتضنت جدهم الاكبر علي الزين والذي جاءهم برفقة أمه في مطلع القرن السابع عشر إلا أنهما لم يفصحا عن قبيلتهما و بلدهما الاصليين.

كانت الحاجة فاطمة من عائلة ميسورة الحال، جدها السادس تزوج من إمراة من اريحا، فجاء كثير من نسله داكني البشرة بعض الشئ، إلا أن الحاجة فاطمة كانت بيضاء البشرة، على درجة عالية من الجمال، ممشوقة القوام، طموحة، ذات ذكاء متقد تزداد حدته و لا تخبو، على قدرة فائقة على الغوص في كنه الاخرين و سبر أعماقهم وتحليل شخصياتهم ، حباها الله سرعة بديهة وفراسة أورثتها لمعظم ابنائها.

حين يقابلها المرء ليس بإستطاعته إلا أن يجلها و يوقرها لأنفتها وعنفوانها و صبرها و عزمها و إرادتها و طموحها، هي أفضل مثال على نساء فلسطين اللائي انجبن العز والإباء و ينجبن وعد الله، رجال لا يهمهم من خذلهم، آخر الاشاوس المدافعين عن شرف الامة و كرامتها.

إسمعي يا فاطمة يا بنت اخوي، انا و الله حاب ازوجك لواحد من ولادي، فايز او داود، وإلك حرية الاختيار، إختاري أي واحد منهم، فايز بكري وعمره ٢٢ سنة، و داود وعمره ٢٠ سنة.
أكيد انه المثل الشعبي " إذا بدك تحيره خيره" ما بنطبق بحالتي، أصلا فايز ما ممكن إتخذه حليلا، لكن داود رجل طيب، وديع، مسالم، مع إنه سريع الغضب بس برضه بسرعة بستعيد وداعته و هدوءه، دماثة خلقه و بساطته و إبتسامته التي لا تفارق محياه جعلته محبوبا مرغوبا أينما حل و أرتحل، أسمر بعض الشئ، ندي الكف على علة الفقر والتي لم تفارقه قط في حياته، ممشوق القوام، مشاء يجد سعادته و حريته في المشي، وعلى نقيضه فايز بعينيه الزرقاوين الحادتين، الطموح، الحسود، اللجوج، دقيق الملاحظة، المغامر، متوسط الطول وأبيض البشرة، فيه بعض من لؤم لم يجعله يهنأ يوما في حياته، رائد فلسفة خاصة به، أنا.... وبعدي الطوفان، براغماتي بعيد كل البعد عن فطرة الانسان القويم، لا يأبه كثيرا للعادات و الموروثات القبلية.

أهم إشي يا بنت يا فاطمة إنك تظلك حذرة من فايز، هذا لئيم و ما بينسى . صدقت هواجس الحاجة فاطمة، فكانت أبغض النساء إلى قلبه بعد أن رفضته بل أنه أورث بغضها و عداوتها لابنائه من بعده.

يعني كل إشي توقعته منك يا فايز، وعارف إنه قلبك اسود و ما تحبنا الخير ومصلحتك قبل كل شئ، بس إنك تبيع البيت و ترميني و اخوك و اولادي و اخوانك اليتامى بالشارع، هذا اللي ما كان يخطر ع بال حتى إبليس، حسبنا الله ونعم الوكيل.
 
توالت الايام و لعبة القط والفأر تزداد ضراوة بين النقيضين، تتشابك الايادي عند إلتقائها وتزداد القلوب بغضا و تنافرا وريبة وتوجسا.
 
و تستمر الحياة دون أن يرفع أيا منهما الراية البيضاء للاخر، و تتوالى الايام واكثر دعاء الحاجة فاطمة، الله يكافينا شرك يا فايز.
النزوح داود، داود، ابو الحسن، هلا جدي كيفك شو أخبارك، هلا بالحج خالد ، تفضلوا والله زارتنا البركة.

شو بدي احكي يابا يا داود، انت لازم تبني بيت باسرع وقت ممكن، الله كريم يا حجي.

قلي قديش معك مصاري، والله يا جدي ما في ولا قرش، مش مشكلة ، هاي رجال العيلة بقرضوك وبتعمر و لما يصير معك مصاري بتسدهم.
الله يبارك فيك و فيهم والله يقدرني ع السداد.
 
وبالنسبة لفايز، وين هذا إختفى، ومتى آخر مرة شفتوه فيها؟ أجاب الحاج خالد، والله يا حجي أنا آخر مرة شفته فيها كان قبل ما نترك القرية بيوم، كنا في الديوان وبنستقبل المعزيين، كان واقف بجنبي بوقت ما أجى راشد ابن عمي محمد وخبرنا عن الحلال اللي فطس و نفق.
 
هلا براشد كيفك ؟ الحمدالله من الله بخير. مال وجهك مخطوف ، خير شو في؟ والله يا حج أخبار ما بتسر، مات اكثر من خمس روس حلال في بيوت مختلفة في القرية وعلى مسافات متباعدة.
أسرع الحاج خالد إلى الماشية وأخذ يحدق و يتأمل فيها ، تفحص أجسادها و شرع يستقصي عن حالاتها، هل أصابها أي مكروه! هل تعرضت لأي حادث! هل كانت تشكو من أي عارض! أصابت الحيرة و الدهشة الحاج خالد، واخذ يضرب اخماسا بأسداس، إذا لم تتعرض الماشية لاي حادث او مرض قد يكون السبب في موتها! إذا كيف نفقت! وهل يوجد أي علاقة بين موت ابناء العائلة و الماشية!

لم يرجع الحاج خالد من ليلته تلك إلى ديوان العزاء، و رجع إلى بيته مشغول البال والافكار والتخمينات تتجاذبه تارة يمينا و تارة تطبق على عقله ليزداد إندهاش و حيرة وتشتت، إستغرق بالتفكير إلى أن فتح الله عليه ، و رب العزة هذا وباء أصاب القرية وإن لم نتداركه باقصى سرعة ليفتك بكل من في القرية من إنسان و زرع وحيوان.
 
أسرع الحاج خالد إلى الديوان فزعا، مشدوها، مخطوف اللون : يا جماعة الخير إذكروا الله، أعلم أنكم ما زلتم مصدومين، مكلومين من فاجعة فقدان ثلاثة من خيرة أبناء العيلة، إلا أن الامر جلل، والمسألة حياة او موت، والله يا جماعة الخير ، إن الموت محدق بنا وأراه أقرب إلى أحدكم من أرنبة أنفه، اعيروني إنتباهكم و مسامعكم رحمكم الله، قد تنامى إلى مسامعكم خبر موت بعض من ماشيتنا تزامنا مع موت ابنائنا الثلاثة، وبعد أن فكرت جليا بهذا الامر، ألقي في روعي أن موت ابنائنا و الماشية كان بسبب وباء أخاله إن صدق حدسي وباء الطاعون ، جاء كلام الحاج خالد عليهم كالصاعقة وازدادوا ذهولا وإندهاش على أحزانهم التي اطبقت عليهم ، إسترسل الحاج خالد ، يجب أن نتدارك الامر باقصى سرعة، يجب أن نخلي القرية على وجه السرعة وأن نفر إلى القرى والمغارات المتاخمة للقرية، وخلوا ببالكم يجب أن نتحاشى إستمرارية البقاء في جماعات.

رحمكم الله أخرجوا من ساعتكم هذه وأحملوا ما إستطعتم من مؤونة تكفيكم لبعض شهور ، عسى الله أن يرفع عنا هذا البلاء سريعا، أسرعوا ولا تباطؤا ، وأنا بدوري سوف اخرج أنادي في القرية لانبه كل غافل.

دب الرعب في القرية ولم يعد احد قادرا على إستنطاق عقله وإعماله ، هرع سكان القرية مذعورين، مشوشين التفكير، على غير هدى إلى القرى و الجبال و المغارات المتاخمة . حملوا اوعيتهم وماشيتهم و مؤونة تكفيهم لبعض شهور.

أضحت القرية " يكنعام " بين ليلة و ضحاها خاوية على عروشها، الموت يرصدها من كل جنباتها، إلا أنها ظلت - كعادتها - وفية لابنائها واسرارهم و رائحتهم ، تقف على قارعة الطريق تنتظر - دون ملل - عودتهم إلى احضانها.

الهامش
يكنعام الاسم العربي الكنعاني لقرية قيرة وقامون المغتصبة، تقع على بعد ٢٣ كيلومتر من الجنوب الشرقي لميناء حيفا وفي الطرف الشمالي الشرقي لجبال الكامل. استوت على اراض فاق تقديرها ١٤٠٠٠ دونم. تتميز بخصوبة اراضيها وكثرة الينابيع الطبيعية إضافة الى المغارات والتي صنفتها منظمة اليونسكو بعد نكبة ١٩٤٨ مواقع ومزارات تاريخية و اثرية.