نحو اشتراكية انسانية فاعلة ومتطورة
تاريخ النشر : 2021-01-05
نحو اشتراكية انسانية فاعلة ومتطورة 
بقلم: الدكتور نزار محمود

عند الحديث عن الاشتراكية تتبادر الى الذهن، وعلى الفور، مسائل محددة، مثل: الملكية بأشكالها ومجالاتها، الكفاءة ومحفزات العمل، الدولة والحكومة  الاشتراكية، الدين، التربية والتعليم والمنظومات الأخلاقية، النقود، القوانين.

سأحاول تناول هذه المسائل واحدة تلو الأخرى في إطار سعي لطرح انموذج  اشتراكية إنسانية، فاعلة وعادلة؛

أولاً: مسألة الملكية ولعلها الجذر الأساس في موضوعنا، لما لها من تأثيرات مباشرة وغير مباشرة  على المسائل الاخرى ذات العلاقة التي سنتناولها.

فالملكية تحظى بحقوق تصرف شبه لا محدودة بالأشياء والأموال ووسائل الانتاج، وأشكال وحدود استخدامها والتصرف فيها. ومن أجل الحد من الاستخدامات الضارة لحقوق الملكية تجاه الآخرين وجدت قوانين، إلا أنها بقيت غير متشابهة في مضامينها وحدودها في المجتمعات المختلفة زماناً ومكاناً. من هنا جاءت ما تسمى بقوانين الاصلاحات الزراعية والحد من الملكيات الخاصة، لا بل وتحريمها أحياناً. وفي ذلك لعبت القوى الاجتماعية والسياسية والظروف الاقتصادية وتطورات مفاهيم الحياة واشتراطاتها دورها في صياغة قوانين الملكية شكلاً ومضموناً وحدوداً واستخدام.

هذه الاشكال والحدود للملكية لعبت دورها الأساسي في نشوء المجتمعات الطبقية وانعكست في أشكال الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، لا بل طبعت مفاهيم وأنماط ثقافية في المجتمعات المختلفة. كما أنها ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بمسألتي استغلال الإنسان للإنسان من خلال قضايا فائض القيمة وتوزيع
عوائد الانتاج وتثمير الثروة.

وكان التاريخ الإنساني قد عرف خلال رحلة تطوره أشكالاً من الادارات الاجتماعية والسياسية للبشر، لعبت فيها مسألة الملكية دورها بعد أن عبر الانسان مرحلة المشاعية الى مرحلة الاستحواذ والتملك، وساهمت، في عملية تأثير متبادل، في تشكيل الانظمة السياسية والاقتصادية وغيرها كما أشرنا اليه سابقاً. وتبعاً لذلك فقد شهد الانسان انظمة اسياد وعبيد، وانظمة اقطاعية، ورأسمالية واشتراكية، وراح يحلم بانظمة شيوعية ومشاعية جديدة
تختفي عندها الملكية الخاصة أو الفردية، وما يتأمل منها من عدل ومساواة وسعادة إنسانية.

لكن الإنسان، هو ذلك الإنسان، الذي لا يمكن الغاء " أناه" ولا ينبغي! وهو أمر قد عشناه ولا نزال.

فعندما تسلمت الأحزاب الشيوعية السلطة في عديد من بلدان العالم في بدايات القرن الماضي، وفي مقدمتها روسيا والصين، كان عليها أن تواجه المعضلة الأكبر في سعيها لبناء المجتمع الشيوعي، ألا وهي معضلة الملكية، في جانبيها الاقتصادي والاجتماعي. وكان من أجل التعامل معها قد توجب عليها التعامل المرحلي مع المقولة الشيوعية الشهيرة: من كل حسب طاقته، ولكل حسب حاجته... لتستعين مرحلياً بالمقولة: من كل حسب طاقته ولكل حسب انجازه... وهو ما دفع بتلك الانظمة كذلك الى الحديث عن مرحلة الاشتراكية باعتبارها مرحلة انتقالية الى الشيوعية، لا بل
والحديث عن الاشتراكية الواقعية. فكانت لا تزال هناك حاجات لبعض الملكيات الفردية والدولة والنقود وقوانين معينة.

غير أن تلك الأحلام لم تتحقق حيث اصطدمت بطبيعة الإنسان و " أناه" في محركاتها من دوافع ومحفزات...ولم تنجح كثير من أشكال الملكيات العامة وما سمي بالملكيات الاجتماعية والتعاونية لوسائل الانتاج والثروة في تحقيق الكفاءة والتنافسية الاقتصادية رغم صورة العدالة الاجتماعية.

من هنا فإننا لا نجد في نزع والغاء الملكية الفردية لوسائل الانتاج طريقاً صائباً في بناء حياتنا البشرية القائمة على العمل والابتكار والتنافس الإنساني في سبيل تحقيق هدفي الملكية الرشيدة: العائد المجزي والعدل الإنساني.

وعليه فإن الأساس هو الملكية الفردية والحرية في استخدامها وتثميرها في اطارات سياسية واقتصادية داعمة وراشدة، مراقبة ومصوبة عند الضرورة.

وفي ختام هذه الفقرة أذكر بأن للملكية الفردية أشكال كثيرة تساهمية وتحاصصية وتعاونية وغيرها.

ثانياً: كفاءة العمل ومحفزاته أشرت وأكرر أن ما ذكرته من مسائل بخصوص موضوعة المقال، وما أعمل على تبيانه من تداخلات وتفاعلات، مرتبط بعضها بالبعض الآخر، ولا يمكن التعامل مع أي منها بصورة منعزلة ومجردة.

إن جانب كفاءة العمل ومحفزاته يشمل كافة جوانب وأطراف ذلك العمل التخطيطي الذي يبدأ بفكرة العمل ومن ثم تصميمه ووضع برامج تنفيذه وتنظيمه وتحديد وتوفير قدرات واستعدادات انجازه الذهنية والنفسية والمهارية والعضلية، والذي ينتهي بمحفزاته من مادية ومعنوية. إن أطراف هذا العمل التشاركي يجب أن تربطهم علاقة تشعرهم وتربطهم بأهداف إنسانية لا تتجاوز على خصوصيات تميزهم وعطائهم من ناحية، ولا تسمح لأعضائها ظلم استغلال بعضهم البعض. وهنا تلعب قوانين وانظمة العمل الاشتراكية الانسانية المنطلقة من طبيعة الإنسان وطموحاته، من جهة، ومن حفظ حدود حقوقه وحرياته وجهوده والتزاماته تجاه
الآخرين من البشر كذلك، من ناحية أخرى.

ثالثاً: الدولة والحكومة الاشتراكية

بعيداً عن التحديدات التعريفية المختلفة لمفهوم الدولة، فإنني أعني بالدولة ولأغراض موضوعنا، بأنها الكيان السياسي والقانوني الذي يقوم على سلطات ثلاث هي التشريعية والقضائية والتنفيذية، التي تعمل على قضاء الحاجات الحياتية لمجموعة بشرية على أرض محددة وفي بيئة يسودها الأمن والسلام والعدل وفق دستور وعقد اجتماعي.

إن اشتراكية الدولة وحكومتها تقتضي في دستورها مواداً قانونية تنطلق من أن الإنسان في وجوده وكرامته ومواطنته المتساوية أمام القانون في ضوء مشاركته الإنسانية والتزاماته باعتباره الغاية الأسمى والوسيلة الأمضى في تشكيل وبناء تلك الدولة.

من هنا فالدولة الاشتراكية لا ينبغي أن تكون سيفاً على رقاب مواطنيها، وهي ليست صاحبة الفضل في عيشهم، ولا يحق لها استعبادهم أو استغلالهم أو ظلمهم، أو نهب ثرواتهم أو تبديدها. إنها مؤسسة مختارة ومكلفة من الشعب للقيام بخدمة شعبها ولتنظيم حقوق وواجبات مواطنيها الذين هم ليسوا رعايا أسيادها.

رابعاً: الدين الدين قضية روحية ليس لدولة أو حكومة أو مجتمع الحق في فرضها أو الإكراه فيها أو المحاسبة بموجبها طالما أنها لا تخل بالسلم والأمن الاجتماعي ولا تتجاوز على حريات وكرامة ومشاعر الآخرين.

إن الدولة الاشتراكية تنحى هذا المنحنى باعتبارها دولة مواطنة مدنية، طالما تنوع مواطنوها ديناً ومذهباً.

واذا كان لابد أن تشارك الدولة المواطنين روحياً فإن ذلك ينبغي أن يجري التعامل معه ايجابياً، من ناحية، والوقوف بحزم ضد كل ما يمكن أن يشكل جانباً سلبياً في تبنيه ومحاولة فرضه على الآخرين، من ناحية أخرى.

أما قضية تبني الالحاد في موضوعة الاشتراكية، فانها كانت قضية خاصة بالاشتراكية/ الشيوعية الماركسية اللينينية التي لا تمتلك حق فرض رؤيتها على فهم الآخرين.

خامساً: التربية والتعليم والمنظومات الأخلاقية

ان كل ما ذكر وسيذكر في مقالنا لا تسند بنيانه سوى تربية اشتراكية تصون "الأنا" وتزرع فيها محبة الخير للآخرين والتعاون معهم، واحترام القيم والحدود الاجتماعية والاخلاقية التي تكنس عن الطريق ما يظلم به الإنسان وينغص حياته.

أما التعليم القائم على الإيمان بأن الإنسان خلق ليعمر الأرض علماً وعملاً فإنه لن يتسنى له ذلك سوى من خلال الاكتشاف والاختراع والابداع، وبالتالي من خلال المعرفة الجديدة والمهارة المتطورة. ولعمري أن التعليم المتطور هو صمام أمان بناء الاشتراكية الانسانية وتطورها والحفاظ على وجودها.

سادساً: النقود وحيث أننا انطلقنا من أساسية الملكية الفردية في اشتراكيتنا الإنسانية، فإننا سنبقى بحاجة إلى وسيلة تقوم بوظائف النقود كوسيط للمبادلات ومقياساً للقيمة والمدفوعات المؤجلة ومستودعاً للقيمة.

لكن الذي يميز النقود الاشتراكية هو تساميها عن استغلال الآخرين ودخولها الطفيلية ومص دماء محتاجيها والتضارب والتلاعب بأقيامها والتزوير في إصدارها.

سابعاً: قوانين الاشتراكية الانسانية

وهذه هي مسك الختام في مقالنا. فالمجتمع الاشتراكي لا يقوم في طوباوية ولا يسبح في خيال، ولا يسمح له بترك الحبل على الغارب، كما يقال.

ليس هناك من مجتمع متحضر متقدم إلا وكانت قوانينه متطورة متحضرة. ولقد كان لنا في قصص التاريخ في ذلك عبر كثيرة.