غربة الدهر
تاريخ النشر : 2020-12-31
غربة الدهر


غربة الدهر

بقلم: يافا المناصرة

على عتبة السبعين من عمرها، تحدق بذاكرة حطَّ عليها الصدأ، تسترجع تفاصيل متجذرة في الذاكرة والوجدان، تعتصرها العبرات على رحيل عزيزها، فَقْدٌ ما هو إلا غربة أبدية ستحيا بها أبد الدهر.

سنون عجاف على قلبها منذ أن فقدت وحيدها ، أكثر من ٣٠ عاما على استشهاد نجلها أحمد في أحداث الانتفاضة الاولى ، تذرف دموعها وهي تقلب صوره بين يديها المجعدتين ، وقالت " قبل أن يصلني خبر استشهاده ، شعرت بقلبي أن أمر جلل قد أصابه ، خرجت أصرخ بشكل هيستري وأبحث عنه بين الشبان ، استوقفت أحد الشبان سألته وأخبرني بأمر استشهاده ، ثم لم أعي شيئا)

(كان يبلغ ١٦ ربيعا عندما ارتقى بثلاث رصاصات ، استقرت احداها في قلبه ، صحوت على وقع التكبير ،أمام المشفى ، كان محمولا على الاكتاف ، كنت قوية لدرجة الرعب ، سرت مع المشيعين ، أزغرد وأهلل والشباب الغاضبين حولي يهللون ويكَّبرون).
ووصفت ابنها الشهيد بالشجاع منذ نعومة أظفاره وقوة البأس وحب مساعدة الآخرين ونجدتهم ولا تفارق الابتسامة محياه، كان مثالاً للابن البار والخلوق.
(تظاهر الفلسطينيون من كافة التيارات السياسية ، وكانت المظاهرات تنطلق ويزداد حماس الشباب والشابات على وقع الاغاني الوطنية الشعبية، وكنت أحاول منعه بشتى الطرق من المشاركة وفي كل مرة محاولاتي تفشل ، وفي كل مرة يقول لي قلبي يريد يا أمي)
 
تساءل الجميع تعجباً من صلابتها وقوتها ،وتردد إنني احمد الله سبحانه الذي شرفني بهذه المنزلة منزلة أم الشهيد ، عندما ينفض الجموع من حولها كانت تبكي بحرارة ، وتقول (نار الفراق , فراق ولدي الذي ربيته وترعرع أمامي كالنبت يكبر يوما بعد يوم، فاليوم جاؤوا به يحملونه غارقا في دمائه , فهل شعرتم بخفقان قلبي في هذه اللحظة , هل شعرتم بنزع روحي من جسدي في هذه اللحظة)
انحنى الظهر ، وشحَّ البصر ،فبعد استشهاده أصبح كلّ شيءٍ بطيئاً، أصبحت الدقائق والساعات حارقة، وأصبحت تكتوي في ثوانيها، وهرم العمر حزنا على فقديها.

ليس هناك كلمة يمكن لها أن تصف الشهيد ولكن قد تتجرأ بعض الكلمات لتحاول وصفه، فهو شمعة تحترق ليحيا الآخرون وهو إنسان يجعل من عظامه جسراً ليعبر الآخرون إلى الحرية، وهو الشمس التي تشرق إن حلّ ظلام الحرمان والاضطهاد..