وجبة
تاريخ النشر : 2020-12-26
وجبة
صورة الكاتب


بقلم: د. سامي الكيلاني
وجبة- قصة قصيرة

يتحرك حركات لا يريد لها أن تتوقف عساها تعطي جسده بعض الدفء في هذه الزنزانةالمكتظةأجواؤها بإبر من البرد الكانونيتخز كل عضو في جسمه، ويمارسها خشية أن ينام في هذا البرد الشديد على أرض الزنزانةالعارية. أمران أحلاهما مر، إن حرمت من النوم سينهار جسدك، وإن غفوت على هذهالأرضية الثلجية سوف تيبّس جسدك، فاختار الأولى لأن النوم والتعب يمكن تعويضهماعند الخروج المأمول من هذه الثلاجة. عزّى نفسه بأنه في حالة السيء وليس الأسوأ،إنه اليوم غير مقيّد اليدين خلف الظهر، وأنه غير مقيد للحائط كما كان الوضع قبليومين، نافذة من الإيجابية انفتحت له، فزاد من حركته وشعر بدفء جديد يدب كالنمل فيجسده.

كانت جولة التحقيقالأخيرة صعبة، توحش المحقق فيها أكثر من الجولات السابقة، فقد أعصابه إزاء فشله فيأخذ ما يريده، وفي نهايتها ضربه ضربة مفاجئة موجعة على ظهره وشتم شتيمة بالعبريةوخرج. جاء آخر وأخرجه من غرفة التحقيق ووضعه في هذه الزنزانة دون قيد بيديه وخرج. فكّر"لماذا فعل ذلك؟"، أسكت تساؤله ورد عليه "مهما كان السبب، كنمستعداً لما سيأتي بعد ذلك، معركتك الآن مع البرد، كل شيء في وقته"، وعاد إلىمعركته مع البرد.

تحرك بسرعة أكبر ليزيدمن حصاد الدفء، ولكنه شعر بتعب مفاجئ، انضمت المعدة الفارغة التي يعتصرهاالجوع إلى العناصر التي تستهدف هذا الجسد. لم يأكل منذ الأمس شيئاً. قبل ساعات جاءهأحد ضباط المخابرات الذين يحققون معه بصحن فيه بعض الطعام، وضعه أمامه ثم نظر فيوجهه بحركة مصطنعة "أنت؟! آسف، أنت لا يلزمك طعام" وأتبعها بضحكة ساخرةلئيمة ثم أخذ الصحن ومضى.

ترك كوة الزنزانة مفتوحة، ربما لغاية في نفس يعقوب، ياكوف المحقق السيء الصيت وليسالنبي يعقوب. مهما كان الأمر، فالكوة المفتوحة خير من المغلقة مهما كانت حاجةالنفس اللئيمة لياكوف. المعتقل الموجود في ممر زنازين التحقيق قبالته صامت ويجلسالقرفصاء مسنداً رأسه إلى كفيه، حاول التحدث معه أكثر من مرة لكنه بقي صامتاً،يبدو أنه غارق في القلق أو مكبلاً بخوف من "الذين يسمعون الهمسات" كمايعتقد أو كما جعلوه يعتقد بأنهم يرصدون حركته وأنفاسه. لمح بقايا طعام في صحن قريبمنه، فطلب منه أن يعطيه البقايا من بين قضبان الكوة التي بقيتمفتوحة، لكنه كان خائفاً، همس بصوت يكاد لا يسمع مستعيناً بإشارات من يديه وعينيه،"قد يعرفون ويضربونني"، كان فتى يعلو وجهه زغب لحية في طور النشوء، شجّعه"لن يعرفوا"، فتشجع الفتى وناوله البقايا قطعة قطعة من خلال القضبان بسرعةكالإنسان الآلي وهو يرتجف وعينه على طرف الممر.

شكره، وأكد له بأنهميكذبون، لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً من مخاوفه، إنهم مشغولون بالتحقيق مع غيرهماالآن، واختتم على عجل بكلمات تشجيعية.

جلس على الأرض الباردة،ووضع الوجبة التي وصلته في حضنه، تناولها لقمة لقمة بتلذذ وكأنها مائدة وافيةالكمال. قضم بقية الفلفل الأخضر الملاصقة لعنق الثمرة بعناية ليأتي عليها كاملة،كانت وجبة انتصار أكثر من كونها طعاماً، أكلها بشهية وتجشأ بصوت عالٍ. نظر إلى البقيةالتي سلمت منه، عنق الفلفل الأخضر وتجمع البذور البيضاء، ضحك في سره، تذكر وصاياوالدته "الولد الشاطر لا يبقي في صحنه شيئاً"، بوده أن تسمعه وهو يقول"هل أعجبتك؟ هل تعطيني شهادة ولد شاطر؟" ويحصل على شهادة منها بذلك.

نظر إلى الفتى الذي لميعد مقرفصاً كما كان وصار يتحرك حركة موضعية فرأى علامات من الانفراج على وجههالذي كان قبل قليل يقطر قلقاً وخوفاً، فبدأ هو الآخر يتحرك بالجري الموضعي ويستقبلفي جسده مزيداً من أمواج الدفء.