"التصوير الفوتوغرافي والتشكيل الحروفي: جوليان بروتون نموذجا"
تاريخ النشر : 2020-12-12
"التصوير الفوتوغرافي والتشكيل الحروفي: جوليان بروتون نموذجا"
صورة الكاتب


"التصوير الفوتوغرافي والتشكيل الحروفي: جوليان بروتون نموذجا"

بقلم - د. شكري عزيز  - تونس

يعتبر الحرف العربي نسق تكويني جمالي  متموضع في مدلوله وشكله، وإن هذه الصيغة في البروز بين التعيين في المعنى والدلالة وبين الظهور الشكلي، إنما تعد من مقومات تطور وتنوع أشكال الكتابة للحرف العربي في حد ذاته، والتي يمكن إرجاعها إلى البحث عن مكنون جماليات الحرف و رمزيته، وأغراضه، كما من تأثير ثقافة أو ثقافات  على منهج تطور الحرف فتتوسع دائرة حضوره ليأخذ خصوصية المكان والزمان.




فإن تنوع الخطوط ، كالخط الديواني، النسخي، القيرواني، الكوفي ... الخ، من الدلائل عن ثراء الثقافة العربية الإسلامية، لتتنوع التشكيلات الحروفية عبر انغماس الفنان في مدلول الحرف في حد ذاته كبنية وكشكل، ومنه إلى التوليد في معناه الشامل.  وهو ما يمكن التعبير عنه بولادة وظهور الحروفية العربية من آلية كتابة الحرف وتعبيراته إلى تعبيرية التشكيل بالحرف، وهو ما جعل من هذا الأخير رمزا تشكيليا اختلفت مقارباته وتعييناته بحسب مقاربة وتعبيرية الفنان في حد ذاته، ليتأكد بروز وتموقع الحرف العربي في البناء الحروفي  كفن من الفنون الإسلامية.

 يعتبر تعدد إشكالات بحث الفنان العربي والمسلم في توظيف بنية الحرف في العمل الفني سواء في مجال التصوير أو النحت،  من المقومات التي يمنحها امتزاج بنية الحرف في حد ذاته بنوع من الروحانية والتي تقبل بمستويات ومقاربات مختلفة حسب توجه كل فنان. 




 إن هذه التمضهرات الروحانية في الخط شكلا وممارسة، يمكن أن تعطي صفة اللامتناهي في التجربة الحروفية بحيث " تصبح كل مظاهر الفن الإسلامي هي تعبير عن اللا نهائي كقيمة جمالية في الفن وقيمة من القيم الكونية الكبرى وتصبح كل مظاهر الجمال في الفن الإسلامي في كل الخامات والأشكال وعلى كل المنتجات هي تذكير بنفس المعنى القيمي نحو الوعي باللانهاية"[1]. فبنفس السياق تحمل الحروفية كتيار فني، إلى الموازنة الكمية والنوعية، لتنفتح على طرائق ووسائط فنية معاصرة يمكن لها أن تسهم في تطوير التجربة الحروفية وتنفتح بدورها على جدليات جمالية وفلسفية تعطي لها مجالا أوسع للقراءة والتقبل فالفهم والتأويل.

إن تبدل آليات التعبير بالحرف ضمن منهج الانفتاح على وسائط فنية معاصرة، يمكن أن تمنحه بعدا رمزيا جديدا وتخرجه من إطاره الضيق والمعهود، ليفتح سجال متجدد عبر تضمين مفاهيم تشكيلية تكسبه صفة التجدد والانفتاح.



في هذا الإطار وفي التعبير عن تبدل الآليات والطرائق في علاقتها بالحروفية ضمن إطارها الفني والتشكيلي، إنما هو كقراءة لخصوصية الجذب في الحروفية بين التقوقع في نفس الإشكالات والطروحات التشكيلية سواء من ناحية المضمون أو الممارسة وبين محاولات التخلص من الأطر الكلاسيكية  والتزويقية والبحث عن التجديد والخلق والإبداع في معناه العميق، كبحث عن التفرد وبسط خصوصية الممارسة الفنية في نواحيها الفكرية والتعبيرية.

إن محاولة تقفي بواطن التعبير والإبداع في التجربة الحروفية عبر تغير آليات  التشكيل، تتوجه إلى تحديد أهمية تدخل وحضور الوسائط الفنية وخاصة منها التكنولوجية أو الرقمية كوسائط معاصرة، ومدى منحها للفنان رؤى تشكيلية وتعبيرية جديدة، يمكن أن تحمٌل بدلالات ومعاني تحطٌم حدود الأطر المادية المعهودة  للأثر الفني. من هذا الإطار يمكن استحضار تجربة المصور الفوتوغرافي الفرنسي، "جوليان بريتون[2]"، الذي اعتمد في تجربته الحروفية على تقنية التصوير الفوتوغرافي، واعتمد الحرف العربي في تكوينات وتركيبات حروفية عبر عنصر الحركة وتسجيلها بالضوء. هذه التجربة التي يمكن أن تتفرع في قراءتها إلى عنصرين، عنصر يهتم بدراسة الأبعاد التقنية في عملية التشكيل الحروفي بما في ذلك الوسائط المعتمدة، وعنصر يهتم بالمفاهيم والطرح التشكيلي الذي يمكن أن ينعكس في هذه التجربة لقيامها وانفتاحها على جملة من المفاهيم  منها الأدائية، وجدلية البناء والتشكيل عبر الحركة ومشهدية الظهور والمعاينة البصرية، ومنها إلى انفتاح القراءة على المكان وفي الزمان.

إن تجربة جوليان بريتون، وفي اعتماده مبدأ التشكيل الحروفي في الفضاء المفتوح، عبر عنصر الحركة، والذي يعد كتجربة أدائية زمنية، إنما تتفعل وتبرز تكويناتها ونتائجها من خلال عنصر تسجيل الكتابة في شكلها وبنيتها الحركية عبر آلية التصوير الفوتوغرافي، وهو يعد تسجيل لقيمة ضوئية متحركة ومتنقلة في الفضاء لترسم أبعادها وملامحها وشكلها بالضوء كوسيط وبعدسة آلة التصوير الفوتوغرافي كتسجيل وإبراز لنتاج هذه الحركة داخل الفضاء.

إن هذا التعامل مع رمزية الحضور الضوئي والحركي داخل الفضاء، إنما هو كمسار بنائي تتأسس عبره تشكلات اللا مرئي من خلال التسجيل اللحضوي للفعل عبر التصوير الفوتوغرافي " إذ تسجل ما تمت رؤيته فالصورة الفوتوغرافية تسند دائما بطبيعتها أصلا إلى ما لم تتم رؤيته، إنها تعزل فترة زمنية مأخوذة في ديمومتها وتحافظ عليها".[3]

فهذه التجربة الأدائية الحروفية، والتي تتنصل من المحمل المادي ومن الأدوات المعهودة في الممارسة التشكيلية كالريشة والأصباغ وغيرها من الأدوات والمواد، إنما تطرح جدالا تشكيليا وجماليا جديد، ليصبح الفضاء في أبعاده الفيزيائية هو محمل الأثر الفني، ولتصبح الحركة ضمن أدائية الفنان هي مكون ومنتج للأثر برقابة ومتابعة ذهنية وعقلية تحدد أبعاد الحرف وتراكبه ضمن قراءة محسوسة من الداخل نحو الخارج. 




وإن تدخل عنصر التصوير الفوتوغرافي، كمستقطب ضوئي، يمكن اعتباره المحمل الثاني للأثر الفني وكعنصر تسجيل وباث للتجربة في نتاجها التركيبي الحروفي، وبها تبرز ملامح وهيأة المسار الحركي داخل الفضاء. ومن هذا الإطار تبرز قيمة الموائمة والسجال بين التكوينات الحروفية والفضاء الذي ترتسم فيه، كخطاب وتفاعل ثنائي مباشر، يثير في نفس الوقت تفصيلات المكان ومكوناته وكذلك في تموضع التكوينات الحروفية عليه  بتأسيس خطاب بصري محمول بتقنية التصوير الفوتوغرافي وتسجيلات حدوثية الفعل الإنشائي.

إن التركيبات الحروفية الضوئية  التي أنشأها جوليان بروتون قد اتخذت من الحرف العربي وخصوصياته محور نشوء هيأتها ومن انسيابية حركة الجسد داخل الفضاء تأثيث لأبعاد الأثر الفني، ليكون محملا بأبعاد زمانية مكانية، فيستحوذ عليها الحرف ويتشكل بها بصريا، فيكون بذلك تضمين لقسم من أقسام الجمال المحسوس كما أورده أبو حامد الغزالي في قوله: "الجمال المرئي في المدركات المنظورة، ويستتبعه للذة بصرية من خلال العين والنظر"[4]. وهو ما يمكن التعبير عنه بالجدال الذي تمنحه هذه الممارسة بين المقاربة الحسية للتكوينات الحروفية بما هي تكوينات حركية إيحائية  في أولها وغير مادية وملموسة كتشبيه بحركات الإشارة، وبين بروزها العيني الذي تحققه المعاينة التقنية لمسار الإنشاء والتجربة الفردية، من خلال تقنية التصوير الفوتوغرافي  والتي تسجل هذا التحديد لمسار التجربة.

إن هذا التمشي في الممارسة الحروفية لجوليان، محور عملية يتأسس من مفهوم الصورة في عمومها كحمل لعدة دلائل ومنفتحة على التأويل الجامع للمتناقضات، لما يمكن أن تتصف به صوره المنتجة بانفتاح على مفهوم الحرف، الشكل، المادة والفضاء، كمحاور للتشكيل عبر خلق جدال بينهم، لتبرز ملامحها في الشكل العام للأثر الفني المنتج،"فالشكل هو الصياغة الأساسية للجسم والمادة، بينهما الهيئة هي المفهوم العام للشكل يمثل نفسه ولا يمكن لأي عمل فني أن يبرز ما لم تكن ملامح وتفاصيل تشريحية قائمة للشكل، فالشكل واسطة نقل أو اتصال"[5].

إن تجربة جوليان بروتون، وإن كانت في ظاهرها ممارسة تقنية ضوئية لتركيبات حروفية عربية ممزوجة بعضها بحروف غربية كنوع من الهجانة بين الثقافات واللغات لتصبح في رمزيتها كلغة كونية، إلا أنها ممارسة محمّلة بالمعاني والدلالات الفكرية والفلسفية والجمالية والتي يمكن أن تقرئ خلف هذه التعيينات الظاهرية  والبصرية لميلاد الأثر الفني، وخصوصا في التعبير عن الحروفية والاشتغال عليها باليات وطرح مفهومي جديد يجاوز حدود الاشتغال على الحرف كتجريد أو غيره من المفاهيم الأخرى المعتمدة في العملية البنائية للعمل الحروفي. حيث أن هذا الظهور أو التشكل للعمل الحروفي في تجربة بروتون  يمكن اعتباره نسق تكويني حركي عبر تعبيرات الجسد من خلال الرقص، وهو ما يمكن وصفه بالنشوء من الداخل إلى الخارج وتأسيس لخطاب رمزي دلالي في الفضاء.

من خلال أدائية جسد بروتون، تتوسع دائرة القراءة والمعاينة لهذا النشاط الحركي في رمزية وشكل بروزه إلى معاينة آثار التصاهر مع إمكانات وخصوصية المكان، فيضحى الأثر الحروفي البصري والغير ملموس عنصرا  متفاعلا مع مادية  المكان في الزمان، وليتشكل  بخصوصية الفضاء المفتوح  كحامل للأثر الحروفي، وهو ما يحيل إلى التعبير عن منهج ودلائل التأثيث في الفضاء عينه ، والذي يمزج بين المرئي الملموس واللامرئي المحسوس فيصيرا كلاهما مرئيا محسوسا متجسدا وظاهرا في الصورة حيث"تملك الصورة الكثير من الجاذبية، وذلك بانغراسها في المتخيل الرمزي والاجتماعي للكائن، فهي قد تكون علامة ودليلا، غير أنها علامة ودليل يحملان في مظهر دلالتهما في مظهرهما، حتى وهي تستحضر الغائب وتعاضده، لذا، فإذا كانت اللغة قادرة على صياغة المرئي واستحضار اللامرئي مفهوميا، فإن قدرة الصورة تكمن بالأساس في تحويل المرئي واللامرئي إلى كيان محسوس"[6]

هذه الصور المنتجة للتجربة والممارسة الفنية، تحمل أبعاد المكان والزمان، وتحوّل اللامرئي مرئيا. فالحركة ونتاجها كأثر غير ملموس ماديا، يصبح مرئيا محسوسا عبر تسجيل حركة الضوء في الفضاء بالصورة، ليضحى اللامرئي مرئيا واقعا. هذا التبدل القيمي والمفهومي إنما يحيل إلى التعبير عن قيمة الصورة وإمكاناتها الدلالية، كما من قدرتها على استيعاب المكان والزمان بما يتخللهما من عناصر بنيوية، هي أساس العمل ومحور العملية التشكيلية،  وكما جاء في قول د. مخلوف حميد :" قوة الصورة لا تكمن في تنوع تشكيلها اللغوي، وإنما في تعدد مستويات دلالتها،  لقدرتها الفائقة على تجسيد وتمثيل (المرئي-الواقعي) و(الخيالي)، أي تجسيد الوهم والغياب"[7]. إنه المجال الذي تلعب فيه الصورة دورها المحوري في تضمين المعنى والدلالة في مفهومها الشامل، ولتكون أداة كشف للواقع ومواطن بروزه وتشكله كما من ظهوره فيما يقابله من عجز أو حدود للعين من تعيين لهذا الأخير.