بقلم - د. سامي عطا
هو الامام الفقيه محمد بن إدريس بت العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف ، ويجتمع مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في عبد مناف بن قصي( ) . ولد الشافعي بغزة بفلسطين سنة خمسين ومائة من الهجرة ، وهو العام الذي توفي فيه الإمام أبو حنيفة ( ) ، مات أبوه إدريس شابا ، فنشأ محمد يتيما في حجر أمه ، فتحولت به إلى محتده وهو ابن عامين ، فنشأ بمكة ، وأقبل على الرمي ، حتى فاق فيه الأقران ، وصار يصيب من عشرة أسهم تسعة ، ثم أقبل على العربية والشرع ، فبرع في ذلك ، وتقدم ، ثم حُبب إليه الفقه ، فساد أهل زمانه ( ) .
والشافعي - رحمه الله - أحد أعلام الأمة الكبار، ونبلائها العظام، وأئمتها المتبوعين، ورموزها الفذة، ومبدعيها الكبار، ويكفيه فضلًا - رحمه الله - تأليفه لرسالته الشهيرة، وما احتوته من سبق وتميز في صياغة معالم أصول الفقه، ومصادر الاستدلال، وحجية السنة والإجماع، وقوانين الاستنباط، وضوابط القياس والاجتهاد إضافة لأثرها العظيم في تأسيس منهجية عمل العقل المسلم، وتبصيره بطرق تحصيل المعرفة، وتحصينه من سيطرة المناهج الوافدة.ومن الملاحظ أن الشافعي نال النصيب الأكبر من اهتمام الحداثيين ونقدهم، في حالة تثير التساؤل، وتلفت النظر من كثرة التتابع والتكرار، والتشابه في الأفكار لدرجة التقليد والاجترار، بحيث يندر - تقريبًا - أن نجد واحدًا منهم لم يتعرض للشافعي بصورة أو بأخرى، فضلًا عن الكتب المستقلة التي ألفت عنه وتوالي النصوص في نقده نقدًا لاذعًا، وتحميله ما يصفونه بسجن العقل الإسلامي وتكبيله،ومنعه من الانطلاق بحرية تامة. ومن أبرز الشخصيات التي يمكن إدراجها في عداد هذا الاتجاه الحداثي، وإن اختلفت مشاربهم ومذاهبهم الفلسفية: محمد أركون، وأدونيس، ومحمد عابد الجابري، وحسن حنفي، والطيب تيزيني، ومحمد شحرور، ونصر أبو زيد، وجورج طرابيشي، وعبد المجيد الشرفي، وهشام جعيط، والصادق نيهوم، ومحمد سعيد العشماوي، وعبد الجواد يس، وعلي مبروك، وزكريا أوزون . وقد عد الإمام أحمد شيخَه الإمام الشافعي - رحمة الله عليهما – مجدد المائة الثانية من الهجرة) )، واعترف بفضله على كل طالب علم ( ) فقال : ( ما أحد مسَّ محبرة ولا قلمًا إلا وللشافعي في عنقه مِنَّة ) ( ) كما اعترف بفضله عليه شخصيًا، وعلى أصحاب الحديث عمومًا.. قال المحدث الكبير أحمد محمد شاكر، أحد الداعين للاجتهاد، واتباع الدليل ونبذ التعصب المذهبي، وقد أثنى على الشافعي ثناء كبيرًا في مقدمة تحقيقه للرسالة، فقال : ( إني أعتقد - غير غالٍ ولا مسرف - أن هذا الرجل لم يظهر مثله في علماء الإسلام في فقه الكتاب والسنة ونفوذ النظر فيهما، ودقة الاستنباط، مع قوة العارضة، ونور البصيرة، والإبداع في إقامة الحجة، وإفحام مٌناظِره، فصيح اللسان، ناصع البيان، في الذروة العليا من البلاغة ؟؟ ) ( ) وينفي الشيخ أحمد شاكر أن يكون كلامه هذا عن الشافعي صادرًا عن تقليد، أو عصبية مشابهة لما نشأ عليه أكثر أهل العلم منذ قرون كثيرة سابقة على عصره، مؤكدا على أنه يبحث ويتبع الدليل الصحيح حيثما وُجد، ومما يؤكد انتفاء أي وجه للتعصب لديه، أنه نشأ في طلب العلم وتفقه على مذهب أبي حنيفة، ونال شهادة العالمية من الأزهر الشريف حنفيًا، كما ولي القضاء لسنين طويلة يحكم بمذهب الشافعية . ( )
وممن كتب عن الشافعي ومناقبه قديمًا : ( ابن أبي حاتم، والحاكم، والخطيب البغدادي، والبيهقي، وعبد القاهر البغدادي، والجويني، وابن أبي شهبة، والرازي، والسبكي، وابن حجر العسقلاني، أما في العصر الحديث فقد كتب كثيرون عن الشافعي مثل: مصطفى عبد الرازق، ومحمد أبو زهرة، وعبد الغني الدقر، فضلا عن الدراسات المتعددة حول منهج الشافعي، وآرائه في علوم الإسلام المختلفة من عقيدة، وفقه، وأصول، ولغة، وغير ذلك( ( )
كذلك مدح الجاحظ المعتزلي لُغةَ الشافعي، وبيانه، وحسن تأليفه، فقال ( نظرت في كتب هؤلاء النَّبِغة الذين نبغوا، فلم أر أحسن تأليفًا من المطلبي، كأن فاه نظم دُرًّا إلى دُر ) ( )
وقد عرض الزمخشري المعتزلي كذلك في تفسيره الكشاف لقول الشافعي – رحمه الله - في تفسير قوله تعالى : ( ذلك أدنى ألا تعولوا ) ( النساء : 3) بأن المراد : ( أن لا تكثر عيالكم ) وبعد أن وجه الزمخشري قول الشافعي هذا عقب عليه بتعقيب مهم، فقال : ( وكلام مثله - أي الشافعي – من أعلام العلم، وأئمة الشرع، ورؤوس المجتهدين، حقيقي بالحمل على الصحة والسداد... وكان أعلى كعبًا، وأطول باعًا في علم كلام العرب ، من أن يخفى عليه مثل هذا) ( )
وثمة عبارات عديدة لنفر من الأئمة المتقدمين تبرز هذا الملمح من جوانب تميز الشافعي، ومن ذلك قول أبي عبيد القاسم بن سلام: : ( ما رأيت رجلًا أعقل من الشافعي ( ) ( وقال يونس بن عبد الأعلى: ( ما رأيت أحد أعقل من الشافعي ولو جمعت عقول أمة فجعلت في عقل الشافعي لوسعهم عقله ( ) ( وقال الإمام أحمد لمن لامه على الجلوس للشافعي وهو شاب، وترك الشيوخ الكبار: ( إن فاتك عقل هذا الفتى أخاف أن لا تجده إلى يوم القيامة، ما رأيت أفقه في كتاب الله من هذا الفتى القرشي) ( )
قارن أقوال هؤلاء العلماء بقول شحرور المغرور عن الإمام الشافعي – عملا بوصية مؤسسة راند ورئيستها اليهودية النمساوية : (شيريل بينارد في تقريرها الاستخباراتي- الإسلام الديمقراطي المدني )( ) فهو كثيرًا ما يدندن ويقول: “إن مشكلتنا تكمن في كتاب من مئتي صفحة – يعني به (كتاب الرسالة) للإمام الشافعي إذا تجاوزناها؛ فإن مشكلتنا كلها مع التراث ستحل تلقائيا”، ثم يقول: ( أنا كافر بما جاء به محمد بن إدريس الشافعي)( ) ويظن شحرور أن الشريعة الإسلامية هي منتج علم أصول الفقه الذي دونه الإمام الشافعي - رحمه الله - ، وأننا إذا كسرنا هذا المنهج الأصولي وتجاوزناه، واستعضنا عنه منهجًا معرفيًا آخر نقرأ من خلاله نصوص الوحي والكتاب: ستنتهي مشكلتنا المعرفية مع الشريعة، لأن المنتج الشرعي والفقهي سيختلف تماما باختلاف منهج الاستنباط القياسي الذي أتى به الإمام الشافعي ، وأن التجديد في الفقه الإسلامي سيتحصل بما يتناسب مع تطور المجتمعات والحضارات البشرية. ولم يتفطن شحرور إلى الخطأ المنهجي الكبير الذي وقع به؛ إذ لم يدرك أن الشريعة الإسلامية كانت قائمة طوال أكثر من قرن من الزمان في جيل الصحابة والتابعين، قبل أن يولد الشافعي نفسه، ولم يزد الشافعي على أن استخرج من منهج الصحابة والسلف في التعامل مع النصوص الشرعية قواعد الاجتهاد الموجودة في أذهانهم، ودوّنها لتكون ضابطًا لفهم فروع الشريعة وفق المنهج الاجتهادي لدى الصحابة الكرام، وليس لإعادة إنتاجها من جديد. وكان لعلم أصول الفقه المستَنِد في قواعده على اللغة العربية دور كبير في ضبط حركة الاجتهاد، وحماية الشريعة الإسلامية من تحريف المبطلين والمتسلقين أمثال شحرور الذي يرى أن أزمة الأمة المعاصرة هي أزمة التمحور حول النص، وأن الحل يكمن في إعادة قراءة النص قراءة معاصرة، وحتى يصل إلى هذه القراءة المعاصرة لا بد من نسف قواعد أصول الفقه التي تشكل حجر عثرة أمام رؤيته، متوهمًا أن الشريعة؛ هي وليدة القواعد الأصولية التي وضعها الإمام الشافعي. ونكرر القول بأن الشريعة سابقة في الوجود والتطبيق على منهج أصول الفقه، وليست متولدة منه كما يظن شحرور، فالمنهج الأصولي يكمن دوره في فهم الشريعة ، وليس هو المنتج لأحكامها، فإن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يصلون ويصومون ويحجون ويزكون ويتزوجون ويبيعون ممتثلين في كل ذلك أحكام الشريعة الإسلامية، ولم يدون علم أصول الفقه بعد. ( ) ويستمر المهندس شحرور في بث حقده وسمومه على الإمام الشافعي وغيره ويقول : ( وسبب انهيار هذه الأمة أنها تقرأ الكتاب بعيون الشافعي ، وابن كثير ، والقرطبي ، وابن عباس ، وسنة الخلفاء الراشدين ، أنا أرفض أن أقف تحت أقدامهم، صحابة كانوا أم تابعين، راشدين أم غير راشدين. ودخولي إلى الجنة أو النار لا علاقة له بهم. وإني أحتج على ما يلي : ففي القرن السابع الميلادي إبان البعثة المحمدية كان هناك مجموعة من الناس وقفوا مع الرسول (ص) ونصروه وعززوه، ونحن نجلهم ونقدرهم، ولكن إن تحول هؤلاء الناس في القرن العشرين من ناس عاشوا مع الرسول (ص) إلى أصنام، فتحول أبو بكر إلى صنم اسمه أبو بكر؟! وعمر إلى صنم اسمه عمر؟! فهذا مرفوض تماماً. ومن صفات الإسلام هو تحطيم الأصنام. فعلينا أن نحطم أبو بكر الصنم ، وعمر الصنم ، وعثمان الصنم وعلي الصنم،( ) لنحولهم إلى الإنسان أبو بكر ، والإنسان عمر ، والإنسان عثمان والإنسان علي. وعلينا أن لا نعيش تحت أقدامهم. وإذا قرأتم كتاب الرسالة للشافعي، فهو دائماً يقول ( حدثني بعض من أثق في كلامه) ولم يعترض عليه أحد، ويقول (ذكر أهل المغازي أن النبي قال لا وصية لوارث) وأهل المغازي يا سادة هم الحكواتية الذين يروون القصص والأساطير، فهنيئاً لكم بهذا الإمام. ؟؟ وتساءل هنا: ( وبكل وقاحة مشبها نفسه بالإمام الشافعي ؟؟!! ) هل تقبلون مني أن أقول في مؤلفاتي: حدثني بعض من أثق بكلامه، ثم أجعل من كلامهم هذا مسلمات وأبني عليها فقه؟؟؟! أجيبوني. ( )
حقد الحداثيين الأسود على السنة وعلى الشافعي ؟! :
من مسالك التيارات الحداثية التي توظفها لخدمة الفكر الغربي المستورد: العمل من داخل المنظومة الفقهية للوصول إلى نتائج محدَّدة سلفا، وهي طريقة التفافية لإبعاد الشريعة عن الحياة العامة، ليقتصر دورها على إسباغ مسحة شرعية على أهواء الناس درءا للحرج الذي يسببه لهم الوعي الإسلامي العام.
يقول د. علي حرب: (فنحن نجد أن حسن حنفي الفيلسوف الناقد الهادم بعقله لكل شيء ، والساعي في الوقت نفسه إلى إعادة بنائه وتأسيسه ، يقدم نفسه بوصفه فقيها من فقهاء المسلمين يجدد لهم دينهم ( ) ... وهكذا فإن الانخراط في سلك الفقهاء بلمسة عصرانية هي أولى خطوات التنوير لتفجير الإسلام وتلغيمه من الداخل حسب تعبير علي حرب نفسه.
فإذا كانت الشريعة قد جاءت مثلا بتحريم الخمر في مقابل تيار علماني يعتبرها جزءأً من ثقافة الحداثة، فإن التحايل على إباحتها شرعا أمر حاوله كثيرون فجاءوا باجتهادات وتكلفات مضحكة..نجد هذا التصور الفاسد مثلا عند التونسي محمد الطالبي ( ) الذي يدافع عن حِلّيّة الخمر ويجادل عنها، ويسرد الطالبي في معرض دفاعه عن حِلِّية الخمر حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ناوليني الخُمرة من المسجد، قلت: إني حائض. قال: إن حيضتك ليست في يدك ( ) .يعمد الطالبي إلى الحديث فيفهم ”الخُمرة” بضم الخاء وهي الثوب أو سجادة الصلاة، على أنها الخَمرة بفتح الخاء!؟
وهذا فهم عجيب غريب ينِم عن ضحالة في الثقافة الشرعية ، وفقر فظيع في اللغة العربية، بل كان يكفي أن يطالع أيسر شرح للحديث، أو يتأمل بعض ألفاظ الحديث التي فسرت الخُمرة بالثوب، بل كان يكفي أي شخص عاقل أن يتأمل سياق الحديث، ليدرك أن لا علاقة للخمر بالمسجد ولا بالحيض! وكذلك فعل شحرور ... فقال : ( لذلك جاء حكم الخمر نهيا ، وليس تحريما وكذلك الأمر مع كل مواد المخدرات بغض النظر عن كيفية أخذها بالفم ، أم بالحقن ، أم بالشم ؟؟!! ( هيرويين – كوكايين—حشيش الخ ) فهذه كلها تندرج تحت بند الخمر ، بالإضافة إلى المشروبات الكحولية ؟؟!! ) وهذا ما يفرح السكارى والحشاشين ؟؟ وكان قد قال قبلها بأسطر :( فلو أن جنديا أصيب في ساحة المعركة بطلقات نارية حيث لا أجهزة تخدير ولا غرق عمليات أيجوز أن نسقيه الكحول حتى يسكر فنستخرجها ؟؟ ) ( ) يا حرام .. هذا جيش مساطيل !! لا توجد معه مستلزمات القتال بل مستلزمات المساطيل ..
قال فقيه العصر أستاذي أبو زهرة – رحمه الله - : ( إن الخمر محرم لعينه ، فلا يباح إلا للضرورة ، وليس منها التداوي ، لأن الخمر لا تتعين طريقا للعلاج ، لأن هناك غيرها من الدواء الطاهر يفي بالغرض المطلوب ، وما قال طبيب منذ نشأ الطب إلى اليوم إن في الخمر فائدة طبية لا توجد في غيرها ) ( ) لذا لا يجوز مطلقا التداوي بها ، لقول الرسول – صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ) ( ) ولذلك يحرم التداوي بالخمر باتفاق المذاهب الأربعة ، الحنفية ( ) والمالكية ( ) والشافعية ( ) ، والحنابلة ( ) . ؟!
فلا غرابة إذن أن يتسلَّح هؤلاء بتوظيف مصطلحات من داخل التراث الإسلامي، فيما يشبه التنازع مع الفقهاء التقليديين على مراكز النفوذ والسلطة ، ومحاولة لسحب بساط الشرعية من تحت أرجلهم... وهو ما يدعو إليه شحرور بقوله : ( علينا أن نسحب القرآن - قبل أن يفوت الأوان - من أيدي السادة الوعاظ المعروفين بالعلماء الأفاضل أو رجال الدين؛ فموقفهم من القرآن هو كموقف العامة تمامًا، وإن كان لهم دور فهو دور وعظي بحت) ( ) ونقول : إن سحبنا القرآن من أيدي الفقهاء وعلماء الدين فبأيدي من نضعه ؟؟ ألا يشبه هذا قول القائل : اسحبوا كتب الطب وأدواته من أيدي الأطباء ، واسحبوا البنادق من أيدي الجنود ، واسحبوا أدوات الهندسة من أيدي المهندسين وهكذا ؟؟!! أليس هذا كلام مأفون مُفلِت من أسوار مستشفى المجانين ؟؟!! ( )
وفي هذا الباب أيضا نجد تضخما كبيرا لفقه المقاصد والمصالح فلا تسمع من القوم إلا ”حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله”، دون انضباط أو تحديد للمرجعية التي تحدد لنا هذا المصلحة. فإذا كان فقه المقاصد تتويجا لقرون من التأليف والتقعيد الأصولي عند المسلمين، فإنه صار اليوم آلية اقتلعت من جذورها لتستعمل في صباغة واجهة العلمانية بصبغة شرعية.
فلا نستغرب إذن أن نجد مؤلفات تحمل عناوين تحاول تأسيس شكل جديد من أصول الفقه والاستدلال، منها: (نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي لمحمد شحرور) و (موافقات في قراءة النص الديني للمدلس عبدالمجيد الشرفي) و (من النص إلى الواقع محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه لحسن حنفي) وغيرها من الكتب…
هنا يظهر كم كان الإمام الشافعي عقبة أمام القفز على أصول الفقه باعتباره أول من دوّن في أصول الفقه ، وصاحب منهجية أصولية صارمة تقيّد القراءات المتفلتة للنص الشرعي، وتمنع التلاعب بدلالات الخطاب الشرعي ومقاصده، فكان لا بد أن يهاجَم الشافعي ويُرمى بالعظائم، ويتهم في دينه وأمانته، ويتداعى لذلك محمد أركون وأدونيس ( ) ومحمد شحرور ، وجورج طرابيشي ( ) وحسن حنفي ، ونصر حامد أبو زيد ، وعلي مبروك وغيرهم …
فهذا محمد أركون يتهم الشافعي بالتسبب في جمود العقل الإسلامي وسجنه تحت سلطة النص ( ) ، وهذه تهمة باطلة يعلمها كل من تتبع عمل الشافعي ، فهو لم يزد عن تقعيد العمل الأصولي وفق نفس المنهج الذي كان قبله ، ولم يوجد في رسالته أصل من الأصول إلا ويرجع إلى الكتاب والسنة وفتاوى الصحابة…
أما أدونيس في كتابه ”الثابت والمتحول” فينسب الشافعي إلى الجمود والعجز عن تأسيس معرفة جديدة ، والاكتفاء بإعادة إنتاج المعارف السابقة.
أما جورج طرابيشي فقد اتكأ على خلفيته النصرانية وغالى في التهجم على الشافعي إلى درجة تشبيه عمله الأصولي بما فعله بولس الرسول في الديانة المسيحية! ( ) وهذه فرية ساقطة لم يستطع طرابيشي أن يأتي عليها بدليل واحد، بل قصارى ما حاوله أن ينقل نقائص ديانته النصرانية ليسقطها على الإسلام.
وهذا حسن حنفي وتلميذه نصر حامد أبو زيد يتهمان الشافعي بالانحياز الإيديولوجي للعروبة ويختلقان فكرة تأثير الصراع الشعوبي على رسالة الشافعي ( ) ، ويقدم حنفي صورة الشافعي عند تلميذه أبوزيد بهذه الصورة التي تجمع أخطاء غريبة، فالشافعي عنده: (أموي، سلطوي، قرشي، عروبي، مناهض للعقل والاجتهاد، باحث عن عمل، وربما مرتزق يريد أن يقبض ثمن تأييده للأمويين ( ) .
وهذه والله فرية مضحكة، فما علاقة الشافعي بالأمويين! ولد الشافعي سنة 150 هـ، أي بعد 18 سنة من سقوط حكم الأمويين – رضي الله عنهم وأرضاهم - ! فأي علاقة تجمع بين الشافعي وبني أمية ، أم هو مجرد التعلق بفكرة العروبة التي اختلقها والجهل ، وتخرصات لا علاقة لها بالبحث العلمي الجاد؟! ليس الأمر غريبا عندما تقرأ لأستاذه حسن حنفي أن الشافعي تلميذ لأبي حنيفة ) ! ) مع أن الشافعي ولد في السنة التي توفي فيها أبو حنيفة - رحمه الله - ؟! حاول أبوزيد ترقيع هذه الفرية وادعى أنه لم يكن يقصد الأمويين بل العلويين وأن الأمر مجرد خطإ مطبعي!!
لكنه تناسى أن خطأه كان مزدوجا حين اتهم الشافعي بأنه: (الفقيه الوحيد من فقهاء عصره الذي تعاون مع الأمويين مختارا راضيا خاصة بعد وفاة أستاذه الإمام مالك بن أنس الذي كان له مع الأمويين موقف مشهود بسبب فتواه بفساد بيعة المُكره وطلاقه ( ) فإن فتوى الإمام مالك وما تبعها إنما كان في خلافة أبي جعفر المنصور العباسي ؟!.. أما محمد شحرور فيتهم الشافعي بزرع بذور التحريم في العقل العربي الإسلامي ( ) ، ويزعم علي مبروك أن الشافعي لم يطلب العلم ولا درس الفقه إلا من أجل الدنيا وتكسّب المال ( ) !
ولم يكن هؤلاء بدعا في هذا القدح المغرض في الشافعي، وهم في كل هذا تبع لأساتذتهم المستشرقين مثل جوزيف شاخت ( ) الذي شن هجوما باطلا على الشافعي في كتابه (بداية الفقه المحمدي).( ) فاتحاد هؤلاء الحداثيين في مهاجمة الإمام الشافعي مع تباعد أوطانهم وأزمانهم ، تدل على وحدة الموجه لهم .. وهي ( مؤسسة راند ) ؟؟
وقد ثار خلاف حول أول من صنف في أصول الفقه، وحاولت بعض المذاهب الفقهية مثل الأحناف، أو بعض الفرق مثل الشيعة أن تنسب ذلك الفضل لأئمتها ،( ) إلا أن الذي تشهد له الدلائل سبق الشافعي لذلك، وقد جزم الكثير من أهل العلم بهذه الأولية ( ( ، كذلك نقل الرازي الاتفاق على هذه الأولية، فقال: ( اتفق الناس على أن أول من صنف في هذا العلم هو الشافعي، وهو الذي رتب أبوابه وميز بعض أقسامه عن بعض، وشرح مراتبه في الضعف والقوة(( ) وهذه الأولية تضع الشافعي - كما يرى الرازي- في مصاف المبدعين الكبار، ممن أسسوا وابتكروا علومًا لم يسبقهم إليها أحد، ومن ثم فإن نسبة الشافعي إلى علم أصول الفقه كنسبة أرسطاطاليس الحكيم إلى علم المنطق، وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض ( ) ولهذا عبر بعض أهل العلم عن أولية الشافعية في هذا الباب بعبارات دقيقة.. تفرق ما بين إنشاء العلم كلية على غير أنموذج سابق، وما بين تجريده وتقعيده في مصنفات مستقلة، ومن نماذج ذلك قول ابن تيمية ( فَمَعْلُومٌ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ جَرَّدَ الكلام فِي أُصُولِ الْفِقْهِ هُوَ الشَّافِعِيُّ) ( ) ، وقال الشوكاني : ( أول من قعد قواعد علم أصول الفقه، وأصل أصوله هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي ( ( ) وقد لقيت الرسالة حفاوة بالغة من أهل العلم على تنوع مشاربهم ومدارسهم، ولم تقتصر الحفاوة على الفقهاء وأهل الرأي، بل شملت أيضًا أهل الحديث الذين كتب الشافعي الرسالة في الأصل بطلب من أحد نقادهم الكبار، وهو عبد الرحمن بن مهدي ( ) ، وقد فرحوا بالرسالة، وأكثروا من تداولها، وصار من ألقاب الشافعي المعروفة ناصر السنة ( ) ، وممن أشاد بالرسالة إمام أهل الحديث الأبرز أحمد بن حنبل ( ) ، وحينما سأله إسحاق بن راهويه أن يختار له من كتب الشافعي ما يدخل في حاجته، فقد اختار له الرسالة . ( )
أسباب نقد الاتجاه الحداثي للإمام الشافعي
ومن خلال تتبع ما كتبه أصحاب الاتجاه الحداثي عن الشافعي في كتاباتهم المختلفة يمكن أن نقف على مجموعة من الأسباب، أو الدوافع التي تفسر مبعث هذا الانتقاد الشديد للشافعي، وأصوله المنهجية، وآرائه في عدد من القضايا المهمة. وقد حاول الحداثيون تغليف هذا الهجوم بدعوى أن الشافعي بشر وليس معصومًا، ولا ضير مطلقًا في نقده ( ) ، وهو أمر صحيح في الجملة، لكن بشرط أن يكون النقد موضوعيًا، وقائمًا على أُسس ثابتة، وليس من قبيل التعسف، أو ليّ أعناق النصوص، أو نسبة كلام لقائل، وهو لم يصدر عنه لا تصريحًا ولا تلميحًا. .. والسبب الرئيس في ظني هو أن الشافعي يعد أبرز من شاد دعائم أسس منهجية راسخة، تضبط طريقة تفكير العقل المسلم، وطريقته في الاستدلال والتعامل مع النصوص واستنباط الأحكام، وكيفية فهم النص، وطريقة التعامل الصحيح معه، وضوابط تفسيره وتأويله، وقد استطاع الشافعي بعقليته الكلية الفذة أن يستنبط مجموعة ضوابط يستطيع الفقيه، إن استمسك بها، أن يقرب من الصواب ولا يباعده، كما حاول أن يصوغ قانونًا جامعًا يعرف به الصحيح من السقيم من الآراء ( ) وبإمكاننا القول : ( إن رسالة الشافعي لم تكن مجرد كتاب عادي، أو مصنف فقهي أو أصولي مشابه للمئات أو الآلاف من المصنفات الأخرى التي يزخر بها التراث الفقهي والأصولي، وإنما كانت حدثًا جديدًا، أدخل تفسير
نصوص الأحكام من الكتاب والسنة في طور علمي محدد القواعد، منضبط
الموازين والقوانين، وحسبها أنها فتحت الآفاق ومهدت السبيل، حتى جاء
الكاتبون بعد الشافعي فتابعوا الطريق ) ( ) ولا شك أن مثل هذا الصنيع من الشافعي يتعارض بوضوح مع المناهج الحداثية في قراءة النصوص الدينية وتأويلها، ويمثل حجر عثرة أمام انتشارها وتأثر الشطر الأعظم من أبناء المسلمين بها. فالشافعي وضع ضوابط لفهم النصوص، وتلك المناهج تريد فهمًا مفتوحًا
متعددًا نسبيًا متغيرًا، وترفض أن يكون للنصوص معنى واحد ثابت، كما تدعو
لفتح الباب على مصراعيه لإعادة قراءتها وتأويلها، وما من نص عندهم إلا
وهو قابل لما لا يُحصى من التأويلات، فضلًا عن النظر إلى أدلة القرآن والسنة
بوصفها نصوصًا تاريخية، نزلت في لحظة معينة، متأثرة بظروف البيئة والواقع
الذي انبثقت منه، وليست وحيًا إلهيًا، متصفًا بالديمومة والاستمرار، وصالحًا
لكل زمان ومكان. وقد عبر بعضهم عن هذه النظرة للنصوص، وكيفية قراءتها وتأويلها بقوله: ( فالتأويل ضرورة للنص، ولا يوجد نص إلا ويمكن تأويله من أجل إيجاد الواقع الخاص به، لا يعني التأويل هنا بالضرورة إخراج النص عن معنى حقيقي إلى معنى مجازي لقرينة، بل هو وضع مضمون معاصر للنص، لأن النص قالب دون مضمون ) ( )
الهوامش
: الانتقاء في فضائل الأئمة الفقهاء : ص 66
- المرجع السابق ص 67.
- الذهبي ، سير أعلام النبلاء ج10: ص 6 .
- انظر البيهقي: معرفة السنن والآثار 1/208 ، وابن عساكر: تاريخ دمشق 51/ 339 ، والخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 2/ 60 ، والذهبي: سير أعلام النبلاء 10/ 46 ، ود. سلمان العودة مع الأئمة ص 128.
- انظر محمد أبو زهرة: الشافعي ص 147
- الذهبي: سير أعلام النبلاء: 10/ 47.
- أحمد محمد شاكر: مقدمة تحقيق الرسالة للشافعي ص 5
- أحمد محمد شاكر: مقدمة تحقيق الرسالة للشافعي ص 8.
- انظر على سبيل المثال: - د. محمد العقيل: منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ونافع الزوبعي: لغة الإمام الشافعي في مؤلفاته، وعبد الله المزم: منهج الإمام الشافعي في أصول الفقه، ود. أكرم القواسمي: المدخل إلى مذهب الإمام الشافعي، ود. أحمد وفاق: مقاصد الشريعة عند الإمام الشافعي . نقلا عن : موقف الاتجاه الحداثي من الإمام الشافعي - عرض ونقد -د. أحمد قوشتي عبد الرحيم ص 11-16
- ابن عساكر: تاريخ دمشق 51/ 339 ، وابن عدي: الكامل 1/ 206 ..
- الزمخشري: الكشاف : 1/ 468- 469. ، .
- الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 2: 65 ، والذهبي: سير أعلام النبلاء 10 : 15 . ، وابن حجر: تهذيب التهذيب 9 : 28 . .
- ابن عساكر: تاريخ دمشق 51: 302. ، والذهبي: سير أعلام النبلاء 10 : 15 . .
- -ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 7: 203 ، وأبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء 9 : 98 ، وابن
عساكر: تاريخ دمشق : 51: 331.
-
- من لقاء على قناة على قناة العربية : https://www.youtube.com/watch?v=-jbCwvb1AuQ
- انظر : الباحث عباس شريفة ، نقض منهجية القراءة المعاصرة عند محمد شحرور . ص4.
- هذا الكلام عن الخلفاء الراشدين يؤكد أصوله الطائفية ..الاسماعيلية على وجه التحديد ؟!
- انظر لقاء شحرور مع منتدى الشرفة – الجزء الثالث – 25/2 ) 2010 م .
- د. علي حرب : نقد النص، ص: 30.
- محمد الطالبي: حداثي تونسي حصل على شهادة الدكتوراه من السوربون.
- صحيح مسلم : رقم 299
- شحرور : نحو أصول جديدة للفقه الاسلامي ، ص 141. أين هيئة مكافحة المخدرات ؟؟
- أبو زهرة : العقوبة ، ص 185.
- أخرجه البخاريُّ مُعَلَّقًا بصيغة الجزمِ قبل حديث 5614
- السرخسي : المبسوط : 9: 24.
- حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني : 1: 582.
- النووي : المجموع : 9: 51.
- ابن قدامة : ج9: 423-424.
- د. محمد شحرور ، الكتاب والقرآن قراءة معاصرة ، ص 205.
- انظر : د. شوقي أبو خليل ، قراءة علمية للقراءات المعاصرة ، ص 46.
- شاعر سوري علوي ؟
- كاتب سوري نصراني ؟
- انظر كتاب: تاريخية الفكر العربي، محمد أركون ص: 74.
- جورج طرابيشي، من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث ص: 219.
- كتاب نصر حامد أبوزيد : الامام الشافعي وتأسيس الإيديولوجيا الوسطية
- حوار الأجيال، حسن حنفي ص: 466.
- حسن حنفي، من النص إلى الواقع ص: 56، والغريب أنه جعل أبا حنيفة تلميذا لمالك!
- الإمام الشافعي، نصر حامد أبوزيد ص: 16
- نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي، محمد شحرور ص: 171.
- ما وراء تأسيس الأصول، علي مبروك ص: 110.
- جوزيف شاخت: (1902-1969) مستشرق ألماني وباحث في الدراسات العربية والإسلامية ومتخصص في الفقه الإسلامي .
- انظر : د. عبد الله الشتوي - الإمام الشافعي وعرقلة القراءة الحداثية للنص الشرعي
- انظر د. النشار: مناهج البحث عند مفكري الإسلام ص 80 وعلي الفاضل القائيني النجفي: علم الأصول تاريخًا وتطورًا ص 43 ، لكن من الملاحظ أن بعض الشيعة قد أقر للشافعي بالأولية، انظر محمد باقر الصدر:المعالم الجديدة للأصول ص 72 .
- ومن هؤلاء: الجويني، والغزالي، والزركشي، والقرافي، وابن خلدون، وابن تيمية، والشوكاني،
وأحمد شاكر، وغيرهم الكثير، انظر الغزالي: المنخول ص 610 ، ومقدمة الشيخ أحمد شاكر لتحقيق الرسالة ص 13 . وغيرها
- الرازي: مناقب الشافعي ، تحقيق الدكتور أحمد حجازي السقا ، ص: 153 .
- الرازي: مناقب الشافعي ص: 156
- ابن تيمية: مجموع الفتاوى : 20 : 203.
- الشوكاني: إرشاد الفحول ص 10
- انظر ابن عبد البر: الانتقاء في فضائل الأئمة الفقهاء ص 73 ، ومحمد أبو زهرة: الشافعي ص 147، 186 ، وأحمد شاكر: مقدمة تحقيق الرسالة ص11
- الذهبي: سير أعلام النبلاء ، 10: 204.
- انظر د. حاتم بن عارف الشريف: اختلاف المحدثين والأصوليين في منهج نقد السنة ص 5
- انظر ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 7: 204 انظر : أحمد قوشتي عبد الرحيم : موقف الاتجاه الحداثي من الامام الشافعي ، ص 18-21.
- انظر عبد المجيد الشرفي: لبنات ص 140 ، ونصر أبو زيد الإمام الشافعي ص 10 ، وزكريا
أوزون: جناية الشافعي ص 2.
- محمد أبو زهرة: الشافعي ص 348
- د. محمد أديب صالح: تفسير النصوص في الفقه الإسلامي ، 1: 98 .
- د. حسن حنفي: من العقيدة إلى الثورة : 1 375 . . وانظر : أحمد قوشتي عبد الرحيم : موقف الاتجاه الحداثي من الامام الشافعي ، ص 18-21. 51-53