رواية الخرزة منذر مفلح
تاريخ النشر : 2020-12-05
رواية الخرزة
بقلم - منذر مفلح

من جمالية الأدب التعدد والتنوع في شكل وطريقة تقديمه، فعندما يجمع الواقع/السيرة من الفانتازيا، والواقع مع الرمز، وعندما يكون أكثر من سارد بالتأكيد سيكون هناك إثارة في العمل الأديب، وسيعطيه جمالية تحبب القارئ فيه، وإذا أضفنا، أن العمل أنجز من أسير فلسطيني "منذر خلف" ومن داخل جداران السجن، نتأكد أننا أمام عمل روائي يستحق التوقف عنده، حيث أن يرتقي أدبيا ليكون نموذج من أدب السجون، لما فيه من محطات متعلقة بأحداث حقيقية جرت للسارد.

غالبا ما يلجأ السارد إلى وسيلة أدبية تخفف من وطئ الشدة والألم الكامن في الأحداث، وهذا اللجوء يجب أن يكون دقيقا ومنسجما (ومقنعا) للمتلقي، وإلا كان له مردود سلبي، يستخدم السارد "الخرزة" كعامل/وسيلة أدبية يلجأ إله للتخفيف من قسوة الأحداث، فكانت فاتحة الرواية بهذا الشكل: "مسبحة والدك، أو التي كانت لوالدك، قرأت عليها الحجة عيشة بعض التمائم، والأحراز السحرية، على كل خرزة منها، وجعلت في كل خرزة مصيرا، وعقدت عليه حتى لا يصيب والدك مكروه" ص7، هذه الفاتحة تأخذنا إلى التراث وإلى طريقة تعامل المجتمع مع القدرات الخفيفة/الكلمة وما تحمله من قوة، وبما أن الحديث متعلق بالجدة، أي بالزمن الماضي الذي مورس فيها هذا العمل، سيجد القارئ انسجام وتوافق بين زمن الفعل ومن قام به.

واللافت أن هذه الفاتحة كانت حاضرة في غالبية فصول الرواية، حيث يستخدمها السارد وهو يروي الأحداث، بصرف النظر عن الشخص الذي يتحدث عنه، فعلى سبيل المثل، يستخدمها عندما يتحدث عن "نصر": "أخرج نصر الخرزة من مخبئها السري، علقها في سقف البرش، كي ترسم له خط سير ذاكرته، ساعة جديدة ابتكرها، وحيلة ابتدعها ولجأ إليها بعد أن أرهقته ذاكرته بإلحاحها" ص17، من خلال هذا المقطع يتأكد لنا أن السارد يحسن توظيف "الخرزة" في النص، فيجعلها وسيلة (منطقية) يلجأ إليها للأسير "نصر" القابع بين جداران السجن، ليتخلص من قسوة السجن، وكي يكون (متزنا) في واقع غير متزن، والجميل في هذا التوظيف أنه يتناسب وحالة السجين، الذي لا يرى منطقيا في بقاءه معتقلا رغم عادلة قضيته، وكأن حالة عدم (العقلانية) ـ السجن ـ جعلته يلجأ إلى شيء غير (عقلاني)، فهو يتصرف بشكل متماثل مع الظرف/الحالة التي يعيشها ويتناسب معها.

وهناك استخدام متعلق "بشخصيات" المطاردين من قبل قوات الاحتلال: "...أذكر أنهم كانوا جزءا من اللقاء في منزل مسعودة حين انفرط عقد المسبحة فوزعت علينا المصائر كلا مرهون مصيره بخرزته، لينقسم كل من كان هناك بين أسير وشهيد" ص 89، فهذه الفقرة متعلقة بالأحداث وبالشخصيات وما جرى لها، وهذا ما يجعلنا نقول: أن السارد أحسن توظيف "الخرزة" في النص الروائي، بحيث لم يقحمها في السرد، بل جاءت بطريقة سلسة وجميلة، وتخدم سرد الأحداث.
تعدد الرواة
تعدد الأصوات في العمل الأدبي يشير إلى قدرة السارد على (تحرير) الشخصيات/النص الأديب من سيطرته، لكن في عمل يجمع بين السيرة والأدب ومتعلق بمرحلة/بحالة مقاومين مطلوبين ـ أحياء أو أموات ـ لقوات الاحتلال، سيكون من الصعب تميزها، ومع هذا، استطاع السارد أن يخلق هذا التعدد من خلال تنوع رواة الأحداث، فأحيانا يسرد بضمير الأنا، وأخرى بضمير الراوي: "وحيدا يمتطي ذاكرته، يضاجعها كأنثى شبقة، يمتطيها حد التهتك، ما كان يخفف حدة الوطء هي الخرزة التي داعبت مخيلته وواقعه، داعبت ذاكرته واقترحت الأوقات حلوها ومرها، جميلها وبشعها.. إنها الخيط الذي ربط كل الحكايات والأسرار، ليعقدها بعضها بعضا، هي المصير الذي وزعته مسعودة عندما وزعت خرزات المسبحة على الجميع، فقد كانت سر مسعودة، وسر حياته ، لتعاود تركيب حكايته من جديد.
أسمي نصر مولود في عام 1967 في آخر شهر منه، وهو عام النكسة والحرب على فلسطين والعرب" ص56 و57، بهذه التقنية استطاع السارد أن يقنع القارئ أن هناك أكثر من راو للأحداث، وأيضا جعلته يشعر بأن هناك فرق في وتيرة السرد، حيث يجد أصوات مختلفة، فاللغة التي استخدمها السارد مغايرة تماما لتلك التي تحدث بها "نصر"، وهذا ما يشير إلا أن السارد أحسن استخدام الفروق (اللغوية) بين طريقة سرده وطريقة سرد الشخصيات.
الحدث الواقعي والخيال الاجتماعي
أضافة أفكار العامة عن أحداث ماضية، ومغالاتهم في تقديم الحدث، مسألة ممتعة في الأدب، فهذا الأمر يبن قدرة العامة على خلق أدب شعبي خاص بهم، متجاوزين ما يقدمه الأدباء والكتاب الآخرين، وكأنهم بهذه المغلاة يؤكدون على أن الحكايات الشعبية جزء اساسي من ثقافتهم، ثقافة المجتمع، يقدم لنا السارد حدث عن شجرة (مقدسة": "...دخل ايهود قرية بيت دجن، في الشهر الأول ن عام 1968، ففزع أهالي القرية وهربوا كل باتجاه...في تلك الليالي حدث اشتباك مع قوة من الاحتلال....بدأ الجميع بالعودة ليكتشفوا معجزة لم يشهد لها مثيل من قبل، ...معجزة أرهبتهم وجعلتهم لا يقتربون من شجرة قائمة في القرية.. وحولوها إلى شجرة مقدسة يمنع الاقتراب منها أو لمسها خوفا وهالعا وتقديسا، فلقد وجدوا آثار دم يخرج من الشجرة ورائحة موت بعد عشرة ايام من الحادث، ...لم يخل الأمر من بعض الفضوليين الذين لم يصدقوا الرواية ولكنهم لم يكتشفوا سببا منطقيا للدم" ص69و70، يتداخل الحدث الواقعي مع (الخيال)، لكن حقيقة الدم الذي يخرج من الشجرة له دلالة بالإيمان، بالمعجزات، بالقدرات الخارقة التي يمكن أن يخلقها الأبطال، فنحن امام حدث واقعي أخذ بعدا شعبيا، وتجاوزه ليصل إلى الكرامات التي تعطى للخاصة من المؤمنين.
ورغم أن الحدث كان في عام 1968، إلا أن ذاكرة الناس استمرت متعلقة بالأفكار التي صغت عنه وحوله: "استمرت أسطورة الشجرة حتى العام 2003، ليكتشف أهل القرية مرة أخرى سرا من أسرارها لينقسموا على إثره بين ذهب باتجاه تأكيد قدسية الشجرة، وبين من يؤكد انها مجرد حوادث لا أكثر ولا حكمة من خلفها أو أية قدسية لها.
اكتشفوا أن الشجرة محفورة من الأعلى إلى أسفل في جذعها العريض، بشكل محكم ومغلق بشكل جيد، وقد عثروا بداخلها على جثمان هيكل لشخص مجهول" ص137، التباعد بين عدد الصفحات ـ ستون صفحة ـ التي تحدثت عن الشجرة، يتماثل مع تناول العامة لموضوع الشجرة، فالبعد الزمني عند العامة انعكس على تباعد صفحات الرواية، وكأن السارد يقول: "أنا جزءا من تلك العامة وانتمي إليها".
وبهذا يكون السارد قد قدم حدث واقعي/خيالي، وعلى المتلقي أن يفكر هل ما زال عصر الكرامات حاضرا؟ أم أن ما جرى مجرد تخيل شعبي للحدث؟.
الواقع الرمز
من جمالية الرواية الجمع بين الواقع والرمز، فهناك مزج جميل وسلسل قدمه السارد، اعطا الرواية جمالية أدبية، يحدثنا "أحمد"، احد المناضلين الاسرى في السجن بقوله: "...أثناء بحثي عما استخدمه في الكتابة على الجدران، وجدت غطاء لعبلة تونا، تستخدم بكثرة في السجون، فعالجتها كي أستخدمها، مع احتكاكها بالجدران انهارت طبقات الطلاء، ليظهر كل ما كتب، ليسرد الجدار تاريخا للسجون وللنضال، للشاعر السياسي في كل مرحلة....قرأت:
"الثورة مستمرة ووجدت لتنتصر 1968، عائشة
"لن أرتد حتى ...1970...، حريزات
"أما فلسطين وإما النار جيلا بعد جيل، 1973، عدنان"
الحرية أو الموت 1976، صابر"
عاشت فلسطين حرة عربية، 1978، إسحاق"
"لن يسقط خيار البندقية والتحرير، 1980، حداد"
"المؤامرة لن تمر، 1982، أبو أمل
... "الانتفاضة مستمرة حتى تحقيق الثوابت، 1988، فيصل"
يسقط أوسلو والحرية للأسرى، 1995، سامر"
"عاشت الانتفاضة، الحرية للأقصى والمجد للشهداء، 2001، ناصر"
"يسقط فلان وفلان، 2007، فلان"
عاش الرئيس،2012، فلان بن فلان" ص116و117، بهذا الشكل استطاع السارد أن يدمج الرمز " سقوط الطلاء عن جدران الزنزانة، ليظهر مجموعة من الفقرات تبين مسار القضية الفلسطينية، فالكتابة على جداران السجن جزء من المسيرة النضالية، وهذا يشير إلى استمرار المأساة الفلسطينية واستمرار النضال الوطني، وبهذا يكون السارد قد جمع بين رمزية الطلاء، الذي يخفي تاريخ النضال الفلسطيني، وبين تثبيت التاريخ والواقع الذي يعيشه.
وهناك حدث في غاية الدقة قدمه السارد يجمع بين الواقعية والرمز: "...لتأتي كميل رسالة أن جدته أم حلمي تريده لأمر مهم.
نستقبلها... مدت يدها وأخرجت من صدرها مظروفا قديما وهي تقول:
ـ هذه أمانتكم آن أوانها...ثم تودعنا راحله.
كان الظرف يحتوى على كل ما جمعناه منذ أكثر من سبع سنوات، ذلك الظرف الذي سلمه لها كميل أمانة ليلة الاعتقال في العام 1994، ففضفضناه لنجد فيه ملفاتنا القدية ومعلوماتنا القديمة، وثلاث رصاصات من نوع 9ملم. صمتنا مذهولين أمام مفاجأة أمانة ام حلمي التي اختصرت سبع سنوات، فاتقفنا على عجل أن أمانة أم حلمي هي إشارة الثورة، وأن أم حلمي تمثل مراج الشعب، بأنه وكما كان يردد فادي
"حي على الثورة يا رجال
حي على البارود بأيدينا
وما نرضى بالاحتلال"
وزعنا الرصاصات الثلاث فيما بيننا، واحدة لكل منا، واتفقنا على أن هذه الرصاصات ستكون الرصاصات الثلاث الأولى التي سنطلقها ضد الاحتلال، لتندلع الثورة من جديد،.. فانطلق كل منا إلى مفترق طرق، كميل إلى مفرق بيت فرورك شرق نابلس، وفادي إلى الشارع الالتفافي القريب من تل الجنوب الغربي من مدينة نابلس، وأنا إلى الشارع الاستيطاني الممتد ما بين "شافي شمرون" حومش إلى الجنوب المدينة بالقرب من قرية برقة" ص131و132، فهنا الحدث واقعي تماما، لكن (رمزية) الجدة والرصاصات الثلاث وتوزيعها على ثلاثة مقاتلين يحمل بين ثنياه الرمز، حتى لو كان الحدث واقعي، فكلنا يعلم أن رقم ثلاث يحمل القدسية/الكمال، وبما أنه تكرر في الرصاصات وفي الرجال فإن هذا يعطي قدسية للانتفاضة واكتمالها، وبما أن الأشخاص حقيقيون فقد منحوا صفة الكمال من خلال رمزية الرقم ثلاثة.
ويمكننا أن نتوقف عند رمزية الجدة، التي تمثل الأصالة والامتداد للماضي، فكان تقديمها للأمانة بمثابة دعوة للرجل الثلاثة أن يتقدموا ليكملوا ما فعله اجدادهم من تحدي ومواجهة المحتلين.
وإذا ما ربطنا بين طلاء جداران السجن الذي أزاله أحمد وقرأ لنا ما يخفي من تاريخ نضالي وبين أمانة كميل عند جدته، نتأكد أن هناك رابط بينهما، وأقد جاء دون وعي من السارد، وهذا ما يجعل هذا الجمع والتزاوج بين الرمز الواقع في غاية الجمال.
السجن
الرواية صادرة من السجن وكتب فيه، لهذا نجده جاثما فيها، وبالتأكيد سيتناوله السارد كمكان غير سوي، مكان قبيح ومؤلم، لهذا يحاول الإفلات منه: "في السجن نضع كل يوم ألف خطة وخطة للهرب كي يبقى الأمل طازجا، فالحلم إن لم يكن ذو نكهة قابلة للتذوق فسد تماما" ص25، تصريح واضح لا لبس فيه، وكأن واقع السجن القاسي لم يترك مجالا عند السارد ليستخدم لغة آخر، أو أسلوب/شكل أدبي يبعده عن المباشرة، فالواقع القاسي يحتاج إلى ما يماثله من لغة (جافة) وشكل (جامد).
كما أنه يشكل خليط عمري غير متزن: "السجن هو المكان الذي تضطر فيه للتعامل مع الفوارق العمرية، فقد يجتمع فيه جيلين بل ثلاثة أجيال وبما أكثر.
كيف يمكن الموائمة بين أسير في الخمسين، أمضى عشرين عاما في السجن وطفل قادم إليك بكل انطلاقته" ص39، أيضا نجد لغة صيحة ومباشرة، ومع ألمها إلا أن (الحميمية) التي يتحدث فيها السارد، والدهشة في السؤال، تأخذ المتلقي إلى التفكير والتوقف عند واقع الأسرى والخليط العمري الذي يفرض عليهم.
لم تقتصر قسوة السجن كمكان فقط، بل كزمن، كوقت يجلد الأسرة في كل ثانية ودقيقة وساعة ويوم: "العدو الأساسي للأسير هو الفراغ والخوف من أن يملأ هذا الفراغ أوقاته ويسيطر على دماغه وهواجسه، لهذا نحاول أن نملأ هذا الفراغ، ولا نترك لحظة كي يسيطر علينا" ص92، مكاشفة صريحة لواقع الأسرى، وهذه اشارة من السارد إلى طريقة مواجهة واقع السجن، وثقل الوقت الذي يمتص الحياة من الأسرى.
ويحدثنا عن أثر السجن التدريجي على الأسير، خاصة عندما يكون محكوما لعدة مؤبدات، بمعنى آخر محكوم بأضعاف عمر الإنسان العادي، فهذه الأحكام تترك أثرا على الأسير، يوضح لنا السارد هذا الأمر بقوله: "..الطور الأول هو الإنكار، وبناء على تجربة السجن فإن مدة هذه المرحلة هي ما يقارب خمس سنوات، فمن يقضي حكما مشابها لا يتكرس في الغالب في عقله وذهنه نتيجة الإنكار.
والطور الثاني هو الاعتراف، ويضطر فيها الأسير للاعتراف بواقعه وواقع السجن والمشاركة فيه بفاعلية ووضع القوانين له والقواعد لحياته.
الطور الثالث هو التكيف، وهو ما يعني رضوخ الأسير لقانون السجن بعد أن يألف سجنه، يعاشره طويلا حتى يرسخ بذاكرته وبتفاصيل حياته، وهو ما يضطره بعد الافراج للبحث عن فترة زمنة فاصله ما بين عالم ما قبل وما بعد السجن" ص 93و94، وكأن السارد بهذا الفقرة يبين واقع المأساة التي يعانيها الأسرى في سجون الاحتلال، فطريقة تعامل المحتل مع الأسرى ممنهجة على تطويع/ترويض الأسرى، كما أن المدة الطويلة لها أثرها السلبي عليهم، وتترك فيهم مراض نفسيه، بحاجة إلى سنوات للتخلص منها.
ومع هذا الواقع نجد هناك مقاومة لهذا التطويع: "...بعد مرور السنوات الخمس الأولى وضعت خطة للمراوغة للتحايل مع بداية طور الاعتراف باستحالة قصر المدة الأسر على خمس سنوات.
لجأت لحيلة أقنع نفسي فيها بمدة الخمس سنوات، حين يسألني احد ما عن حكمي أرد:
ـ أنها خمس سنوات، وكل خمس سنوات أمددها لخمس جديدة، اليوم أنا في الخمس الرابعة ومتبقي خمستين" ص95، عبقرية الفلسطيني تجعله يستخدم أبسط الأشياء (ليتحرر) من واقعه، الفكرة التي طرحها السارد تمثل طريقا للتخلص من واقع وأثر السجن، وهذا الشكل من التفكير (يريح) الأسير، حتى مع اعترافه أنها طريق لا تقصر المدة، لكنها (احتيال) على (العقل) وعلى الزمن الطويل.
مأساة الأسرى
رغم البطولات والتضحيات الكثيرة التي قدمها الاسرى في سجون الاحتلال، إلا أنهم يبقوا بشرا، فهم يتشكلون من لحم ودم وروح، لهم همومهم وألمهم، وهذا الطرح الإنساني هو ما يميز أدب السجون، فالأسير ليس (سوبر مان) يستطيع ان يفعل وينتصر في كل معاركه، فهناك معاناة وألم وقسوة، يقدم لنا السارد شيئا من هذه المآسي في رواية "الخرزة": "ـ إن للرفيق السابق ابنة صغيرة اسمها سراب، لها من العمر خمس عشرة عاما، يشعر بكرهها له، وهي ترفض وجوده او حتى الاعتراف به، حالة من الجفاء القاتل بين مشاعره ومشاعر ابنته" ص 30، أحد مأساة الأسير فقدانه للحياة الأسرية السوية، فالسجن يترك هوة سحيقة بين الأب والأبناء وحتى الحياة الاجتماعية العادية، حيث المدة الطويلة تعمل على خلق فروقات في النهج والتفكير والمشاعر والسلوك.
وهذا لا يعني ان الجفاء هو السيد، لكن الحياة العادية التي تعيشها الاسرة والتي تختلف عن واقع الأسير في السجن، وعدم وجود حياة أسرية منذ النشأة الأولى للأبناء، تخلق فجرة بينهم.، فمشاعر الأبوة تبقى متقدة وحامية عند الآباء الأسرى، يحدثنا "رائد الشافعي" عن مشاعره كأب: "لم أكن أستطيع أن أحيا وأن أستمر بيومي دون أن ارى صورة ابتني، وأقرأ مرة تلو مرة الرسائل التي تصفهما، وتخبرني عن ضحكتها الأولى، طلمتها الأولى، خطواتها الأولى، صمتها، مرضها،، تفاصيل الوجوه، وحكاياتهما.. كنت لا أزال أمارس دوري في الحياة كأب لابنتي رغم فقدانها، كانت الصورة تعني استمرارهما في الحياة، اليوم فقدت الإحساس بالألم اللذيذ الذي كان يراودني بحسرتي عليهما" ص31و32، المشاعر الإنسانية هي التي تؤكد على إنسانية الأسير، فهذه الصورة تشير إلى أن هناك ناس/بشر من لحم ودم يتعرضوا للأذى في أجسادهم ونفسياتهم ومشاعرهم في واقع غير سوي، وجده الاحتلال لتعذيب هذه الأرواح والأجساد.
وهناك ألم متعلق بأم الأسير: "إن أم الأسير تتوق لحرية ابنها كما تتوق لجنينها في عملية ولادة متعسرة، لتتخلص من آلام الولادة الطويلة والمضنية التي قد تفقد الأم فيها حياتها" ص88، فألام ليس شخصي فحسب متعلق بأسير فقط، بل بأسرته، بأمه، بأولاده، بزوجته، بأصدقائه.
المرأة
المرأة كانت حاضرة في الأحداث الواقعية وفي مخيلته السارد، فهي الملاذ وقت الشدة: "دلال/ لحظة حب عابرة، سريعة اخترق روحي، أتمنى الأنثى كي أشعر بإنسانيتي، كي أحافظ على توازني النفسي، الذي يحاول السجان اقتلاعه من صدورنا وعقولنا، يحاول تحويلنا إلى وحوش ضارية،...أحتاج المرأة كي أشعر بالانتماء، لأختبر قدراتي على الحب، حيث يكون هناك ثمة امرأة، يتحول ليلي الموحش القاسي من ظلمة قاتلة إلى ضفائر حالكة السواد، أتقافز حولها كبهلوان في السيرك" ص37و38، اعتراف واضح وكامل بدور المرأة في حيالة الرجل، وتأكيد على أنها أحد التخفيف/الفرح التي يُلجأ إليها وقت الشدة، وإذا ما توقفنا عن الأفعال/الأدوار التي تقوم بها، سنجدها بهذا الشكل: "أشعر بإنسانيتي، كي أحافظ، أشعر بالانتماء، قدراتي على الحب، ضفائر حالكة، كبهلوان" في البادية طرح السارد أثارها النفسية الإيجابية عليه، ثم تحدث عن أثرها الجمالي "ضفائرها" بعدها انتقل إلى التقدم أكثر إلى الأمام ليكون (سلوكه) كبهلوان، وهذا التدرج والترتيب منطقي، نفسي، جمال، (سلوك/فعل)، ومن هنا تكمن أهمية حضور المرأة، حتى لوكان هذا الحضور في المخيلة، فما بالنا عندم تحضر في الواقع!.
أما كيف تناول المرأة على أرض الواقع: "...أم نصر التي ما زالت تنتظر منذ عشرات السنين طرقة للباب ليلا...أم عنان هي الأخرى أمست تنتظر أبو عنان بين نوبيتي اعتقال" ص97، وهذا ما يجعل المرأة كاملة وحتى مطلقة، فهي تمنح الراحلة النفسية للرجل والجمالية التي تنعكس على سلوكه، وأيضا تحافظ على مكانته وقت غيابه، وتبقى وفية له.
واقعية الرواية/كميل
العديد من الشخصيات والأحداث الواقعية تطرحها الرواية، وهذا يعود إلى أنها قدمت على شكل سيرة، فالسارد اعتمد تقديم سيرته من خلال عمل أدبي روائي، وهذا المزج بين والواقع والأدب هو الذي منح الرواية الحياة والوقوف أمام (زحمة النشر)، وأثبات حضورها كنص أدبي، وهذا ما يرفع مكانة الأدب الفلسطيني عامة وأدب السجون خاصة، ليرتقي إلى مصاف الآداب العالمية،: "حتى في السن، رغم إجراءاته، وأمنة كنا نعلم في أي ساعة يدخل كميل جولة تحقيق ومن هو المحقق وفي أي زنزانة يتعرض للتحقيق ومكان التعذيب، وشكله، وفي أي ساعة يكون مشبوحا في ساحة التحقيق في سجن الفارعة تحت الشمس" ص14، تركيز السارد على كميل رفقه في النضال وفي المعتقل، اشارة إلى المكانة التي يجدلها له، في تناوله بالعديد من فصول الرواية، وهذا يشير ويؤكد على واقعية سيرة الرواية: "كميل يقرأ ويكتب عشر ساعات يوميا، يقسم يومه على هذه المهمة" ص28، والسارد لا يكتفي بحضور كميل وهو في المعتقل، بل يأخذنا إلى مرحلة مواجهة الاحتلال: "قسم كبير من المقاتلين والأسلحة، فقد تتفق على إخراج قسم كبير من المقاتلين لضمان استمرار المعركة والقتال بعد الاجتياح، فالبلدة القديمة لا ينقصها سلاح ولا مقاتلين في الوقت الراهن، بقى كميل ويامن، آخرون ممن شاهدوا الموت يتراقص في أزقة البلدة" ص58، بهذا الوفاء يكون السارد قد أكد على مكانة رفيقه "كميل" وعلى أثره النفسي عليه.
وإذا ما توقفنا عند ما جاء في هذه الفقرة: "فالبلدة القديمة لا ينقصها سلاح ولا مقاتلين في الوقت الراهن" ، يمكننا تبيان العقلية التي يفكر بها المقاتل الفلسطيني، فرغم حجم القوة الكبيرة التي يمتلكها المحتل، وعدد الجنود اللذين أعدهم لاجتياح البلدة القديمة في نابلس، إلا أن المقاتل الفلسطيني يجد في بندقية (الكلاشنكوف) سلاح ردع ومواجهة، من هنا تكمن أهمية وجود الإيمان بالمواجهة، فهي تحول القلة إلى كثرة، والإعداد المتواضع إلى إعداد كثير، والتدريب البسيط إلى تدريب جاهز وكامل.
وأيضا تعلمنا على أن قرار المواجهة لم يكن مرتجلا أو مؤقتا، ، بل تم الاعداد له، لهذا تم التركيز على استمرار المواجهة وليس تحديدها بوقت الاجتياح فقط.
وهناك العديد من الشخصيات يتناول السارد: "ناظم": "ناظم عسعوس كان يمتلك تبويلا خاصاللرسائل" ص31.
و"جبريل": "جبريل بدوره يهجم كصاعقة ويختفي كبرق يهيم دون هدف، دون عنوان.. يبقى بعد لاشتباك طالبا أية قوات تأتي إلى المدينة ليلا كي يشتبك معهم بشراسته التي لا تتناسب مع مظهره الخارجي الودود المسالم" ص19.
و"إشراق" : "فإشراق عاش كل لحظة من أسره مشوقا لطفله الذي لم يره، اعتقل قبل أن يولد، لم يتسن له ملاطفته أو مداعبته، أن يعيش اللحظات مع ابنه وهو طفل، يربيه، ليختبر مشاعر الأبوة" ص52.

و"أمجد": "...إنه أمجد ـ أبو وطن ـ يحمل مسدسه من عيار 9ملم بعد أن استولى جبريل على البندقية، تنازل لع عنها عن طيب خاطر، بعد أن قررا الافتراق بعد الاشتباك حتى لا يقعا في ذات الكمين" ص20، ، و"يامن": "يامن يفتتح ليلته أكثر حذرا فلجأ إلى حارة الشيخ مسلم، أحد الضواحي الشرقية للبلدة القديمة... وكان يتساءل دائما:
"كم عدد الآليات؟
فيأتيه الرد:
"العدد عشرة ربما أقل أو أكثر، ولا يوجد طائرات.
ثم يؤكد في ثقة:
ـ غباش، يعني غبرة، أي عجوم يستهدفنا سيكون بعشرات الدبابات والدوريات وطائرة واحدة على الأقل.
وبعد صمت قصير، يضيف ممازحا:
ـ لن أقبل بأقل من ذلك، كرامتي تمنعني... أعملوا قدر الإمكان على تجنب حمل السلاح بين المدنيين، يكفي ما عانوه من مظاهر العنف والقهر" ص21و22.
و"عماد": "عماد في المخيم يقود اشتباكا، عماد على رأس قوة تنوي تنفيذ عملية في إحدى المعسكرات عماد في حيفا يرصد هدفا نوعيا، عماد في رام الله يلتقي بعض الأشخاص، يسلم أو يتسلم توجيهات معينة أو نقل سلاحا" ص 23.

و "رائد": "رائد الشافعي أبو فراس الذي يعاني من حكم لمدة ثلاثين عاما يقول:
ـ لم أكن استطيع أن أحيا وأن أستمر بيومي دون أن أرى صورة ابنتي، وأقرأ مرة تلو مرة الرسائل التي تصفهما، وتخبرني عن ضحكتها الأولى، كلمتها الأولى، خطواتها الأولى" ص31.
و"إياد": "إياد رفض أن يطلق عليه لقب استشهادي، لأنه رأى نفسه مقاتلا حين أدى استعداده لنفيذ عملية "اتمار" شرق المدينة، لم يطاب الشهادة فقط، بل كان كا ما يحتاجه المقاتل في المعركة تستمر خمس ساعات في مواجهة أعتى جيش، مقاتل وحيد يشتبك لمدة خمس ساعات" ص65.
"وفادي: "ارتدى فادي أثقل ما حصل عليه من ملابس شتوية، قبل لحظة الاشتباك، كي يستطيع جسده الصمود أمام برد الليل القارس ومواجهة الصقيع المتوقعة في هذه الليلة" ص18.
و حسام": "..حسام ينتهي مريضا بالصدمة، كيان يسوء وضعها الصحي، كانت الصدمات أكثف وأقوى من تحملها" ص62.
و "أم عسكر": "..أم عسكر التي كانت هي الأخرى تستقبلنا في منزلها، أنها أم الجميع، كيف استقبلت استشهاد أمجد ويامن في المستشفى، كيف احتضنتهما ووضعت رؤوسهما على حضنها لتمد عليهما وترثيهما أمام الجميع" ص89.
و"باسل: ". كان يكرر:
ـ أن الموت أخطأه مرات ومرات ليصيبه سهم الأسر، فمنذ أن اقتحم هو ورفيقه حمدي فندق ريجنسي في القدس واغتالا الوزير الصهيوني "رحبعام زئيفي" وهربا بمعاونة أبو أماني والموت يلاحقهم بشكل رصاصاتـ أو عبوات مفخخة، وسيارات" ص88.
، وأخرين، وهذه اشارة أخرى من السارد إلى أن سيرية الرواية وعلى واقعيتها.

الرواية من منشورات دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، فلسطين، الطبعة الأولى 2021.