"رواية ثلوج منتصف الليل"للروائي بكر السباتين و مفهوم واسع للمقاومة
تاريخ النشر : 2020-12-03
"رواية ثلوج منتصف الليل"للروائي بكر السباتين و مفهوم واسع للمقاومة
صورة للكاتب


بقلم - جعفر العقيلي
"رواية ثلوج منتصف الليل"للروائي بكر السباتين و مفهوم واسع للمقاومة

تقوم الرواية على طرح مفهوم واسع لـ"المقاومة" من حيث إنها ضرورة ملحة لتحقيق الإنسان لذاته، والتصدي لمختلف أشكال الظلم والاستبداد، سواء أكان سياسياً أم اجتماعياً أم فكرياً أم إنسانياً التي تقف حائلاً دون تقدمه ونجاحه وسعادته.

وقد تنوعت الطرائق التي سلكتها شخصيات الرواية في "مقاومتها"، فبعضها مثل: إبراهيم الصافي وزوج أخته عبد الجبار حاربا على الجبهة خلال اجتياح بيروت، وعادا يحملان عار الهزيمة والخسارة، حيث ظل إبراهيم الصافي ثابتاً على مواقفه النضالية رغم ما كان يعانيه من طعن في رجولته التي فقدها بشظية غادرة في أثناء المواجهات على جبهة القتال، فيما اتخذ عبد الجبار طريق التردد في موجهة الظلم، وإختيار المنطقة الوسط دائماً.

أما الشخصيات التي تمثل الجيل اللاحق للصافي وعبد الجبار، فقد قاومت واقعها الموسوم بالهزيمة من خلال التصدي لظلم خليل الجيباوي، الذي يتعاون مع العدو الصهيوني والأمريكي في سبيل تحقيق مزيد من الثورة والجاه، ويبدو أنه ورث هذه الخصال أباً عن جد، فقد كان جده "مدعوماً من قبل الدرك إبان الحكم التركي ليافا، بل تزوج واستملك الأراضي الشاسعة بالقوة. كان متغطرساً لا يؤمن جانبه" وكذلك تعاون مع الانتداب البريطاني، وحين سقطت فلسطين في يد الصهاينة خرج الجيباوي مع من خرجوا آخذاً معه ثروته التي بدأ بها بناء كيانه المشبوه والمشوه, محاولاً أن يبني مجداً مصطنعاً ووجهاً مشرقاً يطل به العالم، فما كان منه إلا أن أخذ يتصيد شباباً مبدعين (الرسام ماهر عبد الجبار، الكاتب حامد البغدادي، والشاعر القادم من مصر محروس) مستغلاً نقاط ضعفهم تارة، وحاجاتهم المادية حيث كان يغريهم بالمال ويعدهم بأسباب الشهرة تارة أخرى، ليسرق نتاجهم وإبداعاتهم وينسبها لنفسه.

في هذه الرواية يقدم السباتين مزجاً واقعياً بين المجتمع المدني والمجتمع العسكري مصوراً روح النضال في كلا المجتمعين معاً. وعبر عبورها من سرد لآخر تطرح الرواية العديد من التساؤلات السياسية والاجتماعية الشائكة؛ عن الحرب وجدواها. وعن القتل ونهاياته، وعن المكان وما يربط به من مفاهيم، وعن العلاقات بين الأفراد ببعضهم بعضاً، وعن علاقاتهم بما يحيط بهم .. متلمسة تأثيرات الحرب التي خلقت مفاهيم جديدة وعلاقات جديدة ونظرة مغايرة إلى الثقافة والإبداع والحياة والموت والمستقبل.. والرواية هنا لا تقدم ذاكرة للحرب بل تقدم تأثير الحرب على ذاكرة الإنسان وأحلامه ورؤاه.

وهي تصور كذلك التغيرات الاجتماعية وفق رؤية تاريخية، مؤشرة على ما صنعته الحرب من تشوهات (نفسية تارة وجسدية أخرى) للشخصيات التي عاينتها وخاضت غمارها، أو تلك التي لم تعاينها وجهاً لوجه، لكنها تأثرت بنتائجها، وفي الحالتين ظلت روح المقاومة تتأجج في دواخلها، وهي تروم تغير حاضرها لخلق مستقبل أفضل، وأكثر عدلاً وتسامحاً واستقامة.

ويتخذ الصراع في الرواية مستويات عدة تلتف حول بعضها بعضاً لتشكل دوامات صغرى، ثم أكبر فأكبر، وترتبط معاً وفق مبدأ السبب والنتيجة، وكأنما هي أشبه بالدوائر المتشكلة من قذف حجر يرج سكون الماء وطمأنينته. وأولى الدوائر هي تلك التي تبدأ بصراع الإنسان الداخلي؛ الإنسان العربي الذي عرف حكايا ما قبل النكبة 1948، ثم نكسة 1967، ثم اجتياح بيروت واشتعال الحرب فيها، ثم الغزو الأمريكي للعراق .. متوالية من الحروب التي شكلت وعيه واستقرت في اللاوعي لترسم ملامح حياته (الشخصية) وفقها. وهو ما يتجلى في شخصية إبراهيم الصافي الذي فقد قدرته على الإنجاب، وظل يعاني من الانشطار النفسي، فهو يعرف أنه لا يستطيع تحقيق حلم زوجته "نبيلة" بطفل، وفي الوقت نفسه لا يستطيع مصارحتها بالحقيقة التي يعرفها، وكأنما هو بذلك يحافظ على آخر معاقل رجولته، التي يعرف جيداً أنها موتورة، كحال أمته، لاجئاً في الكثير من مفاصل حياته إلى حكاية جده الذي قضى على الضباع في القرية، وحكايا أمه "فاطمة" التي زوجت زوجها من ابنة المختار عندما لاحظت تعلّقه بها، فما كان إلا أن اشتعلت المواجهات بين الصافي وعمه المختار لتنتهي باختفاء الصافي في ظروف غامضة.

كذلك الصراع الذي يعيشه عبد الجبار بين الحفاظ على ولده من بطش الجيباوي والتصريح بمواقفه من الجيباوي وأعوانه، وصراع ابنه ماهر بين الوقوف في وجه الجيباوي ومحاكمته قضائياً، وحبه لابنة الجيباوي التي يرى أن لا دخل لها بما صنعته يدا والدها، وصراع حامد البغدادي بين العودة إلى العراق التي ترفضها والدته، والبقاء في عمان تحت رحمة الجيباوي، وصراع محروس، وبين العودة إلى مصر والخوف من ثأر عائلي يهدده هناك..

وقد ظلت الشخصيات، رغم تنوع مصابها الذي الذي كان من الممكن أن يدفعها إلى العزلة والتراجع واجترار مآسيها، قادرة على المواجهة والرفض والدفاع عن حقها في الحرية والعيش بأمان واستقرار. وحتى تلك الشخصيات التي كانت قريبة من خط سير حياة الجيباوي ومعينة له لا تلبث أن تنقلب عليه، وتخطط للإيقاع به، حيث تقف وداد كنعان المحامية التي استترف الجيباوي جسدها بعدما أوهمها  بحبه لها ليتزوجها بعقد عرفي، ثم لا يلبث أن يمزقه، ويمزق معه كبرياءها وكرامتها ومستقبلها بأكمله، تواجه الجيباوي بشراسة يساندها في مساعيها كل من ذاق ظلم الجيباوي وجرب مرارته.

أما المحامي عصام مهنا، الرفيق الملازم للجابي منذ شبابه، حيث درسا معاً في موسكو، وانخرطا معاً في صفوف المافيا، فإنه يقدم على قتل الجيباوي في أول فرصة مواتية، بعد اكتشافه لملف تفصيلي عنه في خزنة الجيباوي يمكن أن يؤدي به، محاولاً إلصاق التهمة بوداد كنعان..

وهذا الصراع يؤشر على صراع أكبر بين المحتل الصهيوني في فلسطين، والأمريكي الداعم له والغازي للعراق من جهة، وأصحاب الأرض الذين شردوا من غير وجه حق، حاملين جراحاتهم على الأكف من جهة أخرى. وهو في إطاره الأشمل صراع بين قوى العولمة، والعالم الثالث الذي يناصرها عليه أعوان من الخونة والمرتشين والمدعين أمثال الجيباوي الذي يمثل رمزاً للفساد السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي.

ورغم تنوع خلفيات الشخصيات وتعددها واستقلالية كل منها عن الأخرى، إلا أنها تتوحد في سبيل تحقيق هدف مشترك هو زعزعة كيان الجيباوي المصطنع وهدمه، وهو الهدف الذي يشكل نقطة تماس ورابط أساسي يجمعها معاً، ويصعّد الأحداث، رغم ما يصيبها من تشعب، باتجاه واحد تم تحديده منذ بداية الرواية، حيث قاعة المحكمة التي تتعالى فيها الهاتفات المؤيدة لموقف ماهر عبد الجبار الذي يعترف بالاتفاق الذي عقده معه الجيباوي لسرقة أعماله الفنية ونسبتها له، ويكون هذا المسمار الأول الذي يدق في نعش الجيباوي، بعد ذلك، لا تضيف الأحداث التي تتوالى على مدار الرواية شيئاً جديداً، بل تعمق الحدث الرئيسي وتقدم تفاصيل جديدة عنه.

تضطرم في الرواية الاحداث المفاجئة والمدهشة، التي تقود الصراع إلى أوجه، وكذلك تسهم في وضوح الرؤية بما تطرحه من أبعاد فكرية تلتحم في بنية العمل الروائي وتشدد على فكرة التغيير. وتنتظم عناصر البناء الروائي، التي نقرأ من خلالها سلوك الشخصيات ورؤاها الفكرية، ضمن إطار المشهد الروائي القائم على الحوار، وعلى السرد الذي ينقله راو عالم يتم خلاله إحداث تراكم نفسي لعناصر القهر والظلم والاستبداد ضد الشخصيات، من الخارج والداخل معاً، والتحرك زمنياً من الماضي (عبر الاسترجاع والتذكر) إلى الحاضر، واستشراف المستقبل.

هذه الرواية، المنسوجة بلغة ظلت قادرة على حمل توتر الأحداث، وانفعالات الشخصيات، ودفع السرد للأمام، ترصد بعين روائي مقتدر، الواقع، وتدفعه بقوة لنبذ أسباب الضعف والهزيمة والجبن والتراجع، وهي رغم مشاهد الإحباط والأسى التي تغلل في ثناياها، لا تخلو من البهجة ولذت الانتصار، وتظل رغم تعقيدات الواقع العربي وما يشهده من حروب رواية تستشرف المستقبل من نافذة مفتوحة على الأمل والحلم بغد أفضل.