توماس هاردي ( 1840 _ 1928 ) .. حياته ورواياته وشعره ترجمة : حماد صبح
تاريخ النشر : 2020-12-02
توماس هاردي ( 1840 _ 1928 ) .. حياته ورواياته وشعره ترجمة : حماد صبح 

*1872 _ 1896 : انصرافه لكتابة الروايات الذي انتهى براوية " جود المغمور " .
*1898 : ظهور أول دواوينه بعنوان " قصائد ويسكس " .
ولد توماس هاردي قريبا من دورشستر ؛ في تلك المنطقة الواقعة جنوب شرقي انجلترا التي قدر لها أن يجعل منها " ويسكس رواياته " ، والتحق بمدارسها حتى الخامسة عشرة عند التحاقه بمهندس معماري في دورشستر عمل معه ست سنوات . وسافر بعد ذلك إلى لندن في 1861 لإتمام دراسته ، وللعمل مهندسا معماريا . وتابع في تلك الأثناء تعلمه العام غير الرسمي بقراءته الذاتية العشوائية مع تنامي اهتمامه بالرواية وبالشعر . واعتزم بعد محاولات مبكرة لكتابة القصص القصيرة والشعر التركيز على كتابة الرواية . ورفض الناشرون في 1868 أول رواياته اتباعا لنصيحة من جورج مبريديث الذي نصحه بكتابة رواية أخرى ، فكتب رواية " أدوية ميئوس منها " ، ونشرها في 1871 باسم مجهول ، وأتبعها في العام التالي بأول رواية ناجحة هي " في ظلال شجرة الغابة الخضراء " باسم مجهول أيضا ، وبعدها بدأ حياته كاتبا روائيا بداية حسنة ، فهجر عمله مهندسا معماريا ، وكتب سلسلة روايات انتهت ب " جود المغمور " في 1896 إلا أن الاستقبال العدائي لها أعاده إلى الشعر ، فأصدر في أعوام 1903 _ 1908 " الحكام " وهي دراما ملحمية هامة حول حروب نابليون في ثلاثة أجزاء ، وبعدها غلبت عليه كتابة الشعر الغنائي . وتبين روايات هاردي التي تجري أحداثها في " ويسكس " ذات السمة الريفية السائدة قوى الطبيعة خارج الإنسان وداخله ؛ تلك القوى التي تتوحد لتصوغ المصير البشري ، وفي خلفية أحداث الروايات أثر ثقافي خالد فيه نصب قديمة مثل ستوننج أو مدرج روماني قديم يذكرنا بالماضي البشري ، ويقدم لنا شخصيات خاضعة لرحمة عواطفها الذاتية أو تلقى انعتاقها المؤقت في أغاني العمل الريفي القديم أو في الاستجمام في الريف . وشخصيات هاردي ليست سيدة مصيرها ، وإنما هي تحت رحمة القوى التي لا تبالي بها والمهيمنة على سلوكها وعلاقاتها في ما بينها إلا أن تلك الشخصيات قادرة مع ذلك على تحقيق كرامتها بقوة صبرها وبطولتها المتمثلة في القوة البسيطة لذاتيتها . اهتم الروائيون المتميزون في العصر الفيكتوري مثل ديكنز وثاكري بسلوك الناس ومشكلاتهم في وسطهم الاجتماعي ، ووصفوه وصفا مفصلا على حين آثر هاردي المضي مباشرة إلى جزئيات السلوك البشري مكتفيا بالحد الأدنى من التفصيل الاجتماعي السائد . ومعظم رواياته مأساوية ، وإن كانت " في ظلال شجرة الغابة الخضراء " ذات خاصية غنائية ريفية لا وجود لها في رواياته الأخرى ، ولكن حتى في هذه الرواية لا تتم النهاية السارة إلا عند انتهاء الرواية بزواج البطل والبطلة ، ولا تمضي أبعد من هذا الزواج ، ولذلك يكون المتن الروائي قد أوحى مسبقا بالسخريات المريرة التي تستطيعها الحياة رغم كل ما في المتن من لحظات مرح وبهاء جذاب . 

وتستكشف روايته التالية تلك السخريات بترتيب للصدفة يبدو تقريبا " حاقدا " بهدف التوكيد على التباين بين رغبة الإنسان وطموحه من ناحية ، وما يخبئه القدر للشخصيات من ناحية أخرى ، بيد أن هذا القدر ليس قوة خارجية بالكامل ؛ لأن حاجات هذه الشخصيات النابعة من طبيعتها الخاصة تسوقها في الحياة قدر ما يسوقها أي شيء خارجها ؛ فرواية " تِس دبرفيل " التي صدرت في 1891 قصة فتاة ذكية وحساسة وابنة لأسرة فقيرة ؛ تنساق إلى جريمة قتل ، ومن ثم إلى عقوبة الإعدام شنقا عبر سلسلة من الأحداث والملابسات الساخرة سخرية مريرة إلى درجة يراها فيها كثير من القراء أقوى روايات هاردي قتامة وكآبة في حين أن قراء آخرين قد يرون أن البطل في رواية " جود المغمور " التي تصور بقوة شخصا ريفيا طموحا قاده إلى دماره وقوعه في فخ ذكائه وحساسيته . وينفي هاردي أنه متشائم ، ويسمي نفسه جانحا إلى التحسين ؛ أي يؤمن بأن العالم يمكن أن يكون خيرا مما هو عليه بفضل جهد الإنسان إلا أنه لا توجد عنده سوى علامة صغيرة على هذا الجنوح للتحسين سواء في أهم رواياته أم في شعره الغنائي . ويمكننا أن نجد في قصائده الكثير من توجهاته وأفكاره ، والكثير من مواقفه المفضلة لديه الدالة على تشاؤمه . فعدد من قصائده عبارة عن حكايات شعرية تصور " حماقة " القدر ، والمصادفة المأساوية أو المستهزئة بالإنسان إلا أن قصائده الجياد تتجاوز هذا المزاج لتقدم في صرامة هادفة وشعور حزين متزن اتزانا حسنا بعض نواحى الألم الإنساني أو الفقد أو الإحباط أو الندم مرتبة دائما في موقف محكم يتحقق تحققا تاما . وتبين قصيدة " حدث "هاردي في حالة شكاة متميزة مما في قدر الإنسان من سخرية في عالم تحكمه الصدفة العشوائية إلا أن قصيدة مثل قصيدة " النزهة " ( واحدة من عدة قصائد كتبها عقب وفاة زوجته الأولى في 1912 ) تقدم في قوة جلية تجسيدا متينا للشعور بالفقد . ونرى ذات القوة في قصيدة " موعد لم يتم " ، وفي قصيدة " إنها تسمع العاصفة " تتحقق بضرب من الكمال اللفظي والوجداني . ويتسم شعر هاردي غالبا ، حاله في هذا حال نثره ، بسمة التعلم الذاتي ، وكلاهما ، شعره ونثره ، قد يكون غريبا أو متكلفا أو تنقصه الرشاقة أو الإتقان إلا أنهما في نماذجهما الممتازة يتصفان بأصالة تغري بالإعجاب بهما ، فمثلا ائتلاف الانفعال المعطى مع الذكريات العينية الخاصة في قصيدة " أنغام محايدة " مؤثر لما فيه من إقناع استثنائي ، وسبب هذا الإقناع تأدية الإيقاعات والقوافي فيها تأدية توحي بنوع من النبر يرن في نفس الشاعر . (خذ مثلا السقوط الصامت المثير في قوله : " سقطوا من شجرة الدردار فكانوا رماديين " ) ، ( تستعمل الإنجليزية لفظة واحدة لشجرة الدردار وللرماد هي ash . المترجم ) ، وفي ذات الوقت سنجده يستعمل كلمات عتيقة حوشية أو شعرية أو تعبيرا مثل " بذلك " ، أو " جناح " إذا وافقت حركة القصيدة ، وحمته من التوقف والتنقيب عن كلمة أرشق وآنق ، والنتيجة اكتساب القصيدة تأثيرا نابعا من العفوية لا الصنعة . وغالبا ما يمنح استعمالُ هاردي للقصيدة الغنائية القصصية شعره ميزة أساسية تبين أن هذه الحادثة أو هذا الموقف يدلان على موضوعات عميقة كثيرة الوقوع في تجارب الإنسان رغم خصوصيتهما الواضحة . وأحيانا ينقل هدوء الإيقاع وسكون القوافي في شعر هاردي عاطفة عميقة إلا أنها متزنة مثلما نرى في قصيدة " درَمَر هُج " التي يعبر فيها تعبيرا حادا مؤثرا عن شعور جندي إنجليزي بسيط ووري ثرى أرض قصية ستطلع نبتا مختلفا كل الاختلاف عن كل نبت يعرفه الناس في إنجلترا . وفي " في زمن تحطيم الأمم " ينقل لنا في وضوح صارم ذات الوعي بعمل الطبيعة الذي يتواصل على حاله رغم الجوائح التي تجترمها حماقة الإنسان في كل جديد من أفعاله . إن الحزن في نفس هاردي ، وعجزه عن الإيمان بإمكان حكم إله كريم خير للعالم ، وإحساسه بالخراب والإحباط القائمين في حياة الناس ، وسخريته اللجاء اللحاء حين تواجهه القضايا الأخلاقية والما وراء طبيعية ؛ كلها جزء من مزاج الناس العام في نهاية العصر الفيكتوري ، ونستطيع أن نلقى ما يشبهه في إنتاج أ . إي . هوسمان . وهناك مثال أبكر على تشاؤم العصر الفيكتوري في ترجمة إدوارد فيتزجيرالد ل " رباعيات عمر الخيام " التي نشرت وهاردي في التاسعة عشرة إلا أن موضوعات هاردي ومواقفه لا يمكن ربطها بسهولة بالأفكار العلمية والفلسفية المحدثة ( نظرية دارون في النشوء ، مثلا ) وهو ما نلقاه في نماذج عديدة من أدب آخر القرن التاسع عشر . وقد كان المزاج الشعري الأثير لدى الشاعرين تنيسون وأرنولد من اللون الحزين ( خذ مثلا قصيدة تنيسون " اكسر ! اكسر ! اكسر ! " ، وقصيدة أرنولد " شاطئ دوفر " ) ، غير أن هذا المزاج الحزين ليس مزاج هاردي ، فلا وجود في قصائده لإيقاعات الحزن العِذاب المشفقة على الذات التي نلقاها في العصر الفيكتوري ؛ تلك الإيقاعات الغالية ( من الغلو ) في جهامتها وصرامتها كأنما شحذها طول النظر إلى أسوأ ما في الحياة . وهذه الجدية التي ترقى أحيانا إلى مستوى الصرامة ،إضافة إلى أصالته اللفظية والعاطفية ، وإبائه الدائم للخضوع للنمط الشعري السائد ، وسعيه الدؤوب وراء صوت شعري خاص به ؛ كلها مجتمعة أعانت على صعود سمعته الشعرية صعودا متواصلا في الزمن الحالي إلى حد أنه لا يعد فيه روائيا متميزا فحسب ، بل شاعرا إنجليزيا عظيما أيضا .

من قصيدة " طائر الدُج " :
اتكأت على باب غيضة
والصقيع يتساقط ،
والشتاء يوحش آخر النهار ،
وأعواد اللبلاب المتشابكة
تشرئب إلى الأعلى
مثل أوتار قيثار حطيم ،
وكل الناس الذين كانوا يحومون في المكان
لاذوا بمنازلهم للاستدفاء بنيرانها .
*عن " مقتطفات نورتون المختارة من الأدب الإنجليزي " .