تجليات التناص..وتمازج الأجناس في قصة"صمعة بغل" بقلم: محمد المحسن
تاريخ النشر : 2020-10-14
تجليات التناص..وتمازج الأجناس في قصة"صمعة بغل" بقلم: محمد المحسن


تجليات التناص..وتمازج الأجناس في قصة"صمعة بغل" للشاعرة والقاصة التونسية منجية حاجي

من المعروف أن القصة القصيرة جدا تتميز عن غيرها من الأجناس السردية، بالتكثيف، والإضمار، والتراكب، وفعلية الجملة، والتسريع، وقصر الحجم، والإرباك، والإدهاش، والصورة الومضة، وتنويع الاستهلال والجسد والاختتام. وعلى الرغم من حجمها القصير جدا، فإنها تطرح أسئلة كبيرة وعميقة، هي أسئلة جوهرية مفيدة تتعلق بالذات، والواقع، والكتابة.
القصة القصيرة جدًا هي فن الدهشة، و الطرق الهامس على أبواب القلب و الذهن عن طريق استثارة التأمل الفلسفي الشاعري الجميل، و السعي نحو قوس قزح التماسًا لبهاء ألوانه، و عزفًا لأوتار قيثارة سومر الموغلة في الِقدم . … تلتقي القصة القصيرة جدًا و القصيدة إذًًا فى مسعاهما النهائي كونهما تعبران عن موسيقى الضياء و التوغل داخل المعنى الإنساني العميق، بيد أن القصة القصيرة جدًا هى _ بشكل أكثر إلحاحًا _تطمح الى تفجير الوعي و السعي للاكتشاف سواء عن طريق المغامرات الذهنية المتمثلة فى الأفكار و المشاعر العارضة و التىي تنبثق فجأة و تطرأ كلمحات صوفية نادرة، أو تلك المنغمسة فى عمق الحياة العادية عن طريق النبش فى زوايا الحياة العادية المهملة أو المسكوت عنها، أو تلك التي نمر عليها سراعًا لا نأبه بها.
وإذن؟
يجب البحث عن المغزي في النص القصصي، بمعني أن يكون لديك شيء لتقوله، يقول (خوسيه) القاص العالمي: (الكتابة هي الكتابة، لغة وكي تكون قادراً علي أن تكتب، فكل ما تحتاجه أن يكون لديك شيء تقوله)، وفي رحلة البحث عن قصة اعتاد (وت بيرنت) أن يقول لتلاميذه في جامعة كولومبيا: (لا أعتقد أن بإمكانكم كتابة قصة جيدة، دون ان يكون بداخلكم قصة جيدة، وأفضل أن يكون لديكم شيء تقولونه دون بناء فني، علي ان يكون لديكم بناء فني دون شيء تقولونه)، صحيح أن المقصد النبيل ليس كافياً بمفرده ليصنع قصة جميلة دون رواء الفن الجميل، لكنه أيضًا الدافع الأولي الذي لا غني عنه لإيقاد أولي شموع الطريق النابه إلي شهد الكلمات، بمعني أنه لن يكون لهذا العطاء الكبير في كتابة القصة اعتبار قيمي بدون الإيمان بغائية الأدب وكونه قيمة جمالية إضافة لقيمته الاجتماعية، أي إمتاع وانتفاع، وغاية ومتعة، وقضايا وأسلوب فني، وقالب وفكرة، وشكل فنى ومضمون.
وقصة-منجية حاجي-الموسومة ب"عصمة بغل"ومن أول قراءة، تلقي بنا هذه -اللوحة القصصية-في الحمم البركانية لسؤال جذري حول ماهية الشكل القصصي.تنهض التشذيرات ذات الحمولة الميتاقصصية المبثوثة هنا وهناك عبر مدارية القصص بمهمة تنبيه القارئ إلى هذا الكمين المنفجر في كل السياق.
مثل جهاز إنذار يبث استشعارا مستديما بخطر محدق.ومثل بوصلة ترتب للقارئ أفق انتظاره حتى لا تلتبس عليه المواقع والخرائط الجمالية للنص.
تقوم الآلية الميتاقصصية بتوجيه إدراكنا إلى أننا إزاء -قصة-تأخذ شكل الرمزية في تناص واضع مع "كليلة ودمنة" فمن ضرب المحال استقرار الشكل القصصي في القصة على نمط قار،والقاصة منجية حاجي-"خبيرة استراتيجية" في جعل القصة ذات بناء دواليبي ،متشجرة المسالك ،ذات تنضيدات سردية لمفترضات حكائية متعددة،كما لو أنها رحم إخصابي لتوالد ايجابي جواني ،يضاعف ويعدد الشكل القصصي بصيغة مغايرة للمألوف،تجعله يفيض عن ذاته بغنوصية نادرة.
وقفة على تخوم النّصّ:
يقول ابن المقفّع عن كتاب “كليلة ودمنة”: “ينبغي لمن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه التي وُضعت له، وإلى أيّ غاية جرى مؤلّفه فيه عندما نسبه إلى البهائم، وأضافه إلى غير مفصح، وغير ذلك من الأوضاع التي جعلها أمثالا. فإنّ قارئه متى لم يفعل ذلك لم يدر ما أريد بتلك المعاني، ولا أيّ ثمرة يجتني منها، ولا أيّ نتيجة تحصل له من مقدّمات ما تضمّنه هذا الكتاب. وإنّه إن كان غايته استتمامَ قراءته إلى آخره دون معرفة ما يقرأ منه، لم يعد عليه شيء يرجع إليه نفعُه..”(كليلة ودمنة: الطبعة الرّابعة 1934ص126-127).
وفي تقديم بَهنود بن سحوان عليّ بن الشّاه الفارسيّ لكتاب “كليلة ودمنة” ذكر السّبب الذي من أجله عمل بيدبا الفيلسوف الهنديّ رأس البراهمة لدبشليم ملك الهند كتابه هذا فبيّن أنّه “جعله على ألسن البهائم والطّيرصيانة لغرضه فيه من العوامّ، وضنّا بما ضمّنه عن الطَّغام (الأوغاد والأرذال)، وتنزيها للحكمة وفنونها، ومحاسنها وعيونها. إذ هي للفيلسوف مندوحة، ولخاطره مفتوحة، ولمحبّيها تثقيف، ولطالبيها تشريف.” (مقدّمة الكتاب ص65)
وإذن؟
الخبر إذا جنس أدبيّ سرديّ نما وترعرع في حضن الازدهار الأدبيّ العربيّ وفيء البيان السّرديّ..
وهو فنّ أدبيّ يتأسّس على ركيزتين هما السّند والمتن.
السّند هو سلسلة رواة تُسنَد إليهم مسؤوليّة نقل الخبر إلى الرّاوي الأخير الذي هو كاتب النّصّ. وقد اشترط العرب في سلسلة الأسانيد التّرابط الزّمنيّ والتّواصل العلائقيّ والاشتهار بالمصداقيّة أسوة بشروط سلامة الأسانيد في علم الأحاديث النّبويّة..
أمّا المتن وهو فحوى الخبر والحكاية المتناقَلة فيه فقد اتّسم باعتمادمكوّن السّرد والشّخصيّة والفضاء لبناء النّادرة المتّسمة بالحضور المتكرّر لسمة الهزل، واستحضار لافت للسّجع في لغتها النّثريّة، وقصر الحجم،والوظيفة الحجاجيّة للحكاية ذات الأسس السّرديّة الواقعيّة(الزمكانيّة والشّخصيّات والأحداث)..
وقد اتّفق النّقّاد العرب على أنّ حضور الهزل مكوّنا أُسّا في النّادرة ليس موظَّفا للتّسلية والمتعة الباديين في البنية السّطحيّة للخبر، بل ينطق وجوده العميق نصّيّا بدعوة إلى إعمال العقل والتّبصّر والتّمحيص الحجاجيّ لإدراك وظائفه التّعليميّة والتّربويّة ورؤاه الفكريّة النّقديّة الحجاجيّة بامتياز..
ربما نجد الكثير من كُتّاب القصة القصيرة جداً من استدل بالطيور والحيوانات كرموز دلائلية فنية ادبية تُحاكي الواقع الذي يعيشه في كافة المجالات كما كان ذلك سائداً في العصور القديمة عند السومريين والآشوريين والاكديين الذين كانوا يضعون صور الطيور ويريدون بها السرعة وصورة الأسد رمزاً للقوة ومن تتبع نصوص أُدباء الحداثة نلاحظ تأثير المثيولوجيا الرمزية القديمة وهيمنتها على كافة الفنون الأدبية في الشعر والرواية والقصة القصيرة والقصيرة جداً ومنها على سبيل المثال وليس الحصر:"صمعة بغل" للقاصة/الشاعرة منجية حاجي التي أدعو القارئات الفضليات والقراء الأفاضل الإطلاع عليها وفكفكة رموزها التي تترجم واقعنا العربي البائس الموغل في الدياجير،الظلم والظلام:
عصمة بغل
الأشجار السامقة تناجي علو السماء، المنزل كتلة في هذا الرحب الأخضر ذو المنحدات المترامية الأطراف وكلاب الحراسة يمشطون المكان.
البغل هناك يتننق، يجوب الأزقة وهو
يلبس ربطة عنق في الساق اليسرى ويبتسم ، يعض على شفتيه ع باسنانه البيضاء وهو يردد، وأخيرا سأكون الحاكم للغابة فكم تمنيت أن البس جوربا اسود دون أن يلومني احد او يفرض علي لونه أو قياسه او... او... او....
كنت اعيش على التبن اليابس وأبيت في الخرائب وفي المغاور وتحت سفوح الجبال على بقايا الفتات.
افترش ظلي وأنام على المزابل تطاردني فزاعة الأسد ،لا أعرف من النوم الا قليله و من الطعام الا اقذره وحتى الصلاة اصليها خلسة لكي لا يقال اني من سلالة الانبياء فيدخلونني قسرا في سجون مظلمة وان انا رفعت راسي أمامهم تجلدني العصىُّ من كل صوب.
أما الآن فقد تغير الوضع مات الأسد وكل فصائله، فالملك لنا اذا والحكم لنا وكل أخضر هو ملك لنا ناخذه بالقوة ومن لا نرغب في وجوده بيننا ندفنه حيّا.
نعم انتهى زمن الترهيب وتنكيس الرأس وحمل الأثقال وجر العربات انا اليوم بغل راقي وابن حمار شهيد وحتى الجنة ملك لنا بحورياتها وطيبها وحليِّها هي ملك لنا حتى الجنة جنتنا لا يشاركنا من ليس من فصيلتنا.
فماذا بعد هذا؟.
هيا يا ابن العم نادي بأعلى نهيق وشهيق في كل الأرجاء ،ولمَّ شتات كل الفصائل واخبرهم انني انا اليوم ملك الغابة لا أحد سوايا
والحاضر يعلم الغائب ان الأسد النتن مات وانتهت العبودية واصبحنا احرارا هيا فكوا قيودكم وانتشروا في الأرض وافعلوا ما شئتم وقولوا نحن اليوم يحكمنا بغل لا يجادله احد.
نادى المنادي في كل الأرجاء مات الأسد واصبح البغل الملك يحكم بيننا بالعدل فانضموا اليه جميعكم علما وانه يخاف الله ويحكم بالشرع والعدل.
سرى الخبر كالنار في الهشيم وفتحت الجحور والزرائب وخرجت كل البهائم والبغال ليكون تجمعا كبيرا ياخذ له ألف حساب.
التفت بالبغل الفحل الاسود ذاك صاحب الذيل الطويل كل اصنافه من الأحمرة والبغال فكان يوما مشهودا رفعت فيه الرايات والاعلام بكل أطراف الغابة وكثر الشهيق والنهيق في كل مكان فكان يوما مشهودا.
وقال أحدهم :
صحيح ستكون ملكنا
قال بصوت اجش يملأه الخواء نعم انا الان الملك فاطيعوني.
ردد جميعهم مرحبا بك ملكا علينا
سنقف ورائك وندعمك
هز ذيله طربا ورقصوا وراءه كلهم،
وقال يجمعهم خلفه
نعم أنا اليوم ملككم فكونو ا نصرتي انتم واولادكم وتوابعكم سنأسّس مملكة نحكمها بما يرضي الله وسأكون عادلا بينكم، لا مكان للظلم بعد اليوم، الغابة ملك لنا باخضرها ويابسها ومائها وهوائها لا أحد يردعنا.
ردد ابن عمه البغل الابيض:
أيها الأصدقاء أعلنوا في الغابة ان البغل إسرائيل هو ملك الغابة وكل من لا يبايعه نحكم عليه بالموت، واساليبنا متعددة ومن لا يعرفها نشرحهها له.أعلموا ان محكمتنا عادلة وأننا نحكم بشرع الله.
التفت كل أجناس الأحمرة وتشاوروا فيما بينهم قال أحدهم في همس، ابعد الأسد وزئيره وبطشه وعظمته ننكس اما هيبته رؤوسنا يحكمنا بغل ابن حمار لا يعرف إلا تحريك ذيله عندما يهاجمه الذباب.
قال آخر حمارا ينهق ليجمعنا ويلم شتاتنا وننضوي تحت حكمه في امان خير من أسد يقيم المآدب على شرف صغارنا.
وبعد اخذ ورد اتفق الجميع على حكم البغل.
فكثرت الفوضى وافرغت السجون من كل الفصائل ونصبت محاكم على هواهم أماتت الأبرياء وسألت الدماء سقت الأعشاب فتيبست فضجت القبور تحت الحوافر لتكون مأدبة بغال على شرف الحمير..
(منجية حاجية)
لنا عودة إلى هذه اللوحة القصصية الموغلة في الإبداع عبر قراءة نقدية مستفيضة

محمد المحسن (ناقد تونسي)