عن بدايات الشعر المغربي المعاصر قراءة في كتاب "في الشعر المغربي المعاصر" لمحمد الميموني
تاريخ النشر : 2020-10-12
عن بدايات الشعر المغربي المعاصر قراءة في كتاب "في الشعر المغربي المعاصر" لمحمد الميموني


عن بدايات الشعر المغربي المعاصر
قراءة في كتاب "في الشعر المغربي المعاصر" لمحمد الميموني

* بقلم:الصادق بنعلال

"نريد أن يكون عندنا شعراء نقاد لنا أن نرجو ظهورهم ، و لكن سنأخذ دور المدافع عن الشيطان و أقول إنني لا أوصي بإضفاء القداسة إلا على حالات نادرة جدا ، حالات تشمل قديسين حقيقيين تمكنوا من تحقيق معجزة التوفيق بين النقد و الشعر في أنفسهم" : رينيه وليك .

تمهيد :
نصدر في هذه المقالة من تصور نقدي معرفي مفاده أن الشعر العربي الحديث يشكل المعطى الأساس الذي يختزل مجمل الموضوعات و الإشكالات التي عالجتها الأشكال الأدبية و الفكرية على وجه الإجمال و المرآة القادرة على عكس أدق السمات المبلورة لنظرة الإنسان العربي الحديث الراهن من الوجود في إطلاقيته . و قد شهدت الساحة الأدبية المغربية كمثيلاتها العربية و العالمية قدرا هاما من الأبحاث و الدراسات التي اتخذت من الشعر المغربي المعاصر مجالا للمطارحة النقدية . و نروم في هذا السياق تقديم قراءة نقدية لكتاب "في الشعر المغربي المعاصر" للشاعر و الباحث المغربي الراحل محمد الميموني (1) .
تضمن مؤلف "في الشعر المغربي المعاصر : سبع خطوات رائدة" ، الذي صدر سنة 1999 قسمين رئيسيين مع مدخل عام يشكل إطارا تحديديا سعى الناقد عبره إلى ضبط الإشكال الموضوعي الذي سيحظى بالمقاربة النقدية ، و التعريف بالمنهجية التحليلية و الأدوات الفنية المعتمدة أثناء التعاطي الملموس مع النصوص الشعرية المقترحة للدراسة . و لئن كان القسم الأول من الكتاب : ( عتبات التحديث ) قد خصص لمعالجة جانب من الإنتاج الشعري لكل من : علال الفاسي و عبد المالك البلغيثي و عبد الكريم بن ثابت و عبد المجيد بن جلون ، فإن القسم الثاني ( نصوص منسية من الشعر المغربي المعاصر ) انفتح على نصوص شعرية لعبد القادر المقدم و محمد السرغيني و عبد الكريم الطبال ، و هي نصوص إبداعية محورية عانت إهمالا غير مبرر من قبل نقاد أدبنا الحديث .
و هكذا فالمؤلَف قيد المعاينة الاستجلائية يولي اهتماما خاصا بالتجربة الشعرية التأسيسية في المرحلة التمهيدية للمنجز الشعري المغربي الحديث ، تلك المرحلة التي مثلت الانطلاقة الفعلية لحداثة الصوغ الشعري الراهن . و إذا كنا لا ننوي تتبع محتويات المؤلف و قضاياه الإشكالية العامة ، فإننا ننزع نحو الاقتصار على الوقوف عند بعض من هذه الموضوعات ، مع التركيز على استشراف آليات البنية العميقة و السمات الجمالية التي تخللت العملية التحليلية ، و إثارة الانتباه إلى أسئلة صعبة توخى الكاتب تفجيرها قصد إعادة النظر فيها و إغنائها بالدراسات الجادة .
و ما من شك في أن إشكال المنهج يمثل نقطة ارتكاز أي عمل نقدي ، جاء يطمح إلى مساءلة العمل الأدبي عبر مقصدية موضوعية ، و إلى استخلاص نتائج تحظى بالمقبولية النسبية من قبل المعنيين بالظواهر الأدبية ، و يذكرنا الناقد المغربي محمد بنيس في هذا السياق ، بصعوبة قراءة الشعر العربي الحديث بالاقتصار فقط على المعرفة الشعرية العربية الكلاسيكية ، دون استحضار واع للشعريات العالمية ، التي كشفت الحدود الجمالية و الإبستمولوجية للشعرية العربية القديمة ، و إن كان يقر بأن هذه الأخيرة مافتئت قادرة على تناول "قضايا و عناصر ما تزال فاعلة في الشعر العربي الحديثّ" (2) .
و غني عن القول إن الساحة الأدبية العالمية تحفل بترسانة نقدية غير محدودة ، تشمل المناهج و النظريات و المفاهيم و المصطلحات و الاتجاهات الفنية المختلفة ، و التقنيات المعتمدة في تحليل التجليات الأدبية ، إلى درجة أفضت ببعض الباحثين إلى نعت هذه الظاهرة "بالتخمة النقدية" و الإحساس بما يشبه الإحباط ، بل هناك من أكد أنه "لا يسع الباحث إلا أن يحلم بالعودة إلى إمعان النظر في الأوليات الجمالية و المظاهر الإبداعية البسيطة ، و التحليلات الفنية الصغيرة لعلها تسعف في محو الغشاوة و إعادة ترتيب البيت الشعري" (3) .
و نحن إذ نؤكد على أهمية التعاطي مع الظواهر الأدبية بتبصر منهجي محكم الرؤية و الأداة ، فإننا نلح في الآن عينه على أولوية النص الإبداعي الذي يعد أكبر و أعم من أي منهج نقدي مهما اكتسى من جدة و حداثة . و بالعودة إلى الكتاب الذي نحن بصدد دراسته نتبين أن الباحث المغربي محمد الميموني لم يتقيد فيه بمنهجية نقدية جاهزة ، و لم يقتد بأبحاث و نتائج من سبقه من الدارسين ، بل إنه استرشد بذوقه الفني السليم ، و بما تراكم لديه من معاشرته المديدة للشعر قراءة و إبداعا ، متخذا النصوص الشعرية الملموسة منطلقا له ، و كشف طبيعتها الجمالية هدفا جوهريا (4) .
مما يعني أنه لا مندوحة لأي ناقد أدبي من ذوق فني راجح ، و تراكم إبداعي غني و متنام ، يساعدانه على استقراء جماليات الصوغ الفني و استبطان مستوياته الدلالية ، و ما جدوى مطارحة نقدية لا تتخذ من النص المنطلق الأساس و كشف ميكانيزمات شاعريته مبتدأها و خبرها ؟ و نعتقد أن الكاتب محمد الميموني كان دقيقا في ضبط المتن المقترح للتحليل ، باعتبار كفايته التمثيلية ، يقول جان كوهين في هذا الإطار : "يشترط في المتن أن يرضي قاعدتين متناقضتين : أن يكون محصورا بما فيه الكفاية حتى لا يثبط عن البحث ، و واسعا بالقدر الذي يسمح بالاستقراء" (5) . و عليه فإن هذا الكتاب يرتكز على هاتين القاعدتين الأساسيتين : تحديد الموضوع و نوعية المتن و إطاره العام ، فسبعة شعراء معطى نقدي هام ، و كفيل بإعطاء صورة دقيقة لكوكبة من الشعراء المغاربة اللامعين ، خاصة أثناء العقود الثلاثة قبل استقلال المغرب ، تلك الكوكبة التي احتضنت بذرة التجديد في شعرنا المغرب الحديث .
علال الفاسي بين النزعة الخطابية و بلاغة الوضوح :
أضحى من المؤكد عند عديد من النقاد و المشتغلين بقضايا الأدب أن الفكر النقدي العالمي يعيش قصورا هيكليا مشهودا ، على الرغم من حركيته الظاهرية ، و المسلكيات المنهجية غير المحصورة ، و لعل هذا القصور يعود إل غياب فهم عميق و فاعل لطبيعة العمل الأدبي المخصوص ، و آليات اشتغال مكوناته و سماته ، و في الغالب ينبري جل النقاد في الجري وراء "المحتوى الأيديولوجي" للنصوص الأدبية فتصبح العملية النقدية استبطانا لنوايا المبدع و احتفاء "بالمعاني و الدلالات" ، دون توقف ملائم عند التشكيل الفني للنص الأدبي و الشبكة النصية التي تعد بؤرة الفاعلية النقدية ، و هكذا فالنقد الحديث "يبحث عن مدلول حقيقي مختلف عن المدلول الظاهري ليتسلم منه العمل الأدبي ، و بذلك يتوارى عنه موضوعه الحقيقي ، إذ يبحث وراء اللغة عن مفتاح موجود في اللغة كوحدة لا تنفصم بين الدال و المدلول" (6) . بيد أن الشاعر و الباحث محمد الميموني يهدف إلى تجاوز هذا العائق النقدي متبنيا التحليل النصي و المقارنة الملموسة لبنيات الأعمال الشعرية .
ما من شك في أن اللحظة التاريخية التي عاش فيها الشاعر المغربي علال الفاسي كانت لحظة زمنية عصيبة بالنسبة للتاريخ المغربي الحديث ، حيث الحركة الوطنية المتأهبة لكل أشكال النضال ، من أجل إعادة الكرامة و الاستقلال للوطن ، مما ساهم في وجود ازدواجية رؤيوية في الخطاب الشعري عند عدد كبير من الشعراء من ضمنهم علال الفاسي ؛ إنها ازدواجية الشاعر المبدع الذي يطمح إلى معانقة جوهر الإنسان و حقيقته ، و المناضل المتألم لواقع بلده الساعي ، إلى إحداث تغيير فعال للوضعية المغربية العامة ، و تجاوزها إلى ما هو أرقى ، و لقد كان الشاعر في مواجهة مفتوحة مع تحديات الزمن و إشكالات السياسة ، فمجد القيم الإصلاحية و الدعوات الثورية التي تسم أمل الشباب و تطلعاتهم ، و كأننا بالشاعر قد اتخذ من القصيدة أداة ناجعة للدعوة الإصلاحية النهضوية ، و التوعية الدينية و السياسية المنسجمة و السياق التاريخي للمغرب في عهد الحماية الفرنسية ، مما أكسب الشعر "العلالي" نزعة خطابية تكاد تقترب من الأسلوب النثري المألوف ، يقول في قصيدته "المتنبي شاعر الدهر" موجها خطابه إلى الشاعر العباسي الذي ملأ الدنيا و شغل الناس :
حفلت بالواقع المحسوس تحسبه سر الحياة و لم تحفل بما حجبا
و قد رأيت احتفاء الناس قاطبة بالمال يعلون مولاه و إن سلبا
فجلت باب ملوك الصيد تسألهم بالشعر يمنحوك المال و الرتبا
تذكرنا هذه الأبيات و ما يماثلها في شعر علال الفاسي باللغة النثرية التي تتوسل بمختلف الأدوات المعجمية و التركيبية و "المنطقية" لتحقيق الانسجام و التناسق بين "مضامين و أفكار" النص ، لأن المرمى هو إقناع المتلقي بنبل الرسالة الوطنية ، و جعله سر اللحظة الخاصة التي يمر بها الوطن ، صحيح أن اللغة الشعرية لغة إيحائية تصويرية تعددية .. غير أن الشاعر ما كان له إلا أن ينتقي بوعي صوغا فنيا يوازي حقيقة السياق التاريخي المخصوص ، الذي تعبأ فيه كل المواطنين باختلاف انتماءاتهم و انشغالاتهم الفكرية و الجمالية .. من أجل إنجاز نهضة تحررية ، و للوضوح أيضا نصيب من الجمالية و البلاغة النوعية ، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار المجال التداولي للقصيدة الثلاثينية لمغرب القرن العشرين .
إضاءة حول الرومانسية المغربية :
تمثل الرومانسية مرحلة أو خصيصة فنية فارقة في مسيرة التطور الإبداعي العالمي ، بقدر ما أنها سمة جمالية تحضر في مختلف النصوص الإبداعية و الشعرية على وجه التحديد ، مما حدا ببعض الدارسين إلى القول بان أية قصيدة شعرية قديمة كانت أم حديثة ، لا بد أن تتضمن قدرا من النزوع الرومانسي و المسحة الذاتية المغلفة "بالنظرة الوجدانية" ، التي يطل الشاعر من خلالها إلى الكون و الحياة . و يعد عبد الكريم بن ثابت من ضمن الشعراء الذين أغنوا الديوان المغربي بالإنتاجات الفنية الزاخرة بالجمال ، مثلت قصائده المرحلة الرومانسية للشعر المغربي ، و هي القصائد التي حفلت بالقيم الإنسانية الرفيعة و التعبير عن حقائق الفرد و المجتمع من زاوية فنية ، تستلهم الصيغ المجازية العذبة و الصور البلاغية الحالمة بالحق و الخير و الجمال ، مشكلة مرآة تعكس الواقع المغربي و هو يئن تحت وطأة الاستعمار الأجنبي ، و ما يرمز إليه من قهر و استغلال . يرشح ديوان هذا الشاعر المتميز "الحرية" بالقلق الشعري الذي يساءل الذات و الآخر ، و تتراوح قصائد الديوان بين الشعور باليأس و الإحباط و بين الإحساس بالأمل و الفجر المشرق ، يقول الشاعر في قصيدة "حياة" :
ستذهب كل الرؤى مثلما ستذهب أحلامنا في الوجود
ستمضي مضي النسيم العليل و تفنى فناء ابتسام الوليد
و تهب أفكارك الحافلات بكل قديم و كل جديد
إن هذا المقطع و غيره من النماذج الشعرية لعبد الكريم بن ثابت ، يعبر بجلاء عن مرحلة هامة من شعرنا المغربي الحديث ، إنها الرومانسية بأبعادها الإنسانية الهيكلية ، بميسمها الوطني النوعي ، المتمثل في المسحة الدينية و الملمح الوقور ، إنها الوجدانية التي لا تحلم إلا بمقدار و تستحضر الهموم الفردية و الذات الجماعية الباحثة باستمرار عن معنى الوجود . و هكذا ينتمي عبد الكريم بن ثابت إلى كوكبة شعراء الأربعينيات من القرن الماضي ، الذين أثثوا الفضاء الثقافي المغربي بشعر شفاف بالغ العذوبة ، يمزج بين الصيغ اللغوية المشاعة ، متجنبا التشكيلات الإيحائية "الغريبة" ، و بين المعاني الإنسانية السامية من منظور فني يتأمل الذات المتصارعة مع الآخر .
حول معوقات الانخراط في التجديد :
عرف الأدب المغربي في الأربعينيات و الخمسينيات من القرن الماضي مبدعين كبارا في مجال القول الشعري ، ساهموا في تحقيق انعطافة محورية في مسيرة إبداعنا الشعري الحديث ، دون أن يتسنى لهم الانخراط في التجديد أو الحداثة بمفهومها الديناميكي ، و قد توقف الناقد محمد الميموني مليا عند أحد هؤلاء الشعراء بالتحليل النصي و المساءلة الفنية ، و هو الشاعر عبد القادر المقدم الذي ترك ديوانا شعريا فارقا في مسيرة حركية الشعر المغربي الحديث ، و بغض النظر عن التيمات / الموضوعات التي حظيت باهتمام الشاعر في مرحلة نضجه الإبداعي ، حيث الخروج عن المحيط الفردي المحدود و الانفتاح على الفضاء الإنساني العام ، فإن قصائد عبد القادر المقدم في مجملها تتشكل من الأساليب الخطابية و الصيغ التقريرية المتوجهة رأسا إلى ذهن المتلقي و عقله ، بهدف البيان و الإقناع ، في شبه غياب للتركيب الشعري البلاغي الذي يتوخى وجدان المخاطب و روحه و ذوقه ، و كأن هاجس التوصيل هو الإطار الذي تحكم في مجمل الإبداع الفني عند الشاعر . يقول عبد القادر المقدم مخاطبا روح غاندي :
يا شبه معصوم أ شعبي مدرك آماله أم حظه مستدبر
أم جيله متهاون متوكل بحلي المجنون مقمص متدثر
أم أنهم يستلهمون تقدما و هم قعود عن علاهم صبر
أم هم عبيد قانعون بعيشهم في الأسر لا يرضون أن يتحرروا
إن ملازمة الشاعر و الناقد محمد الميموني لشعر عبد القادر المقدم و التعاطي معه قراءة و تحليلا ، جعلته يستنتج ظاهرتين فنيتين جديرتين بالتأمل ، الظاهرة الأولى تتجلى في تدبيج الشاعر نفسه بعض قصائد ديوانه بمقدمات نثرية ، تلقي الضوء على مناسبة القصيدة و الدواعي التي كانت وراء كتابتها ، و هي مقدمات تطفح بنفس شعري ملحوظ و تعبير فني راق ، و ذلك من قبيل المقدمة التي خصها لقصيدة "وحي شفشاون" :
" مهبط شبحي و منبت أحلامي الناعمة التي لا تفتأ براعمها تنعشها أشعة الحياة فتنمو باطراد .. و تشذ بها أنامل الأيام الحكيمة . لي معها موعد مضروب ليوم تتوالى فيه علي أطياف الأمل المتوالية ، صياح تتساقط على قمم جبال ثلوج المشيب الزهرية ، وقتذاك أنثر عبرات الوداع لأسمع عالمي نشيدا من الحنين العبقري على أوتار الجنون الشريف"
تصور هذه المقدمة الإطار بصفاء بديع الذائقة الشعرية الرفيعة ، التي تتجذر في جوهر الشاعر ، و تتمظهر عبر المفردات المعجمية و الأساليب النحوية المتقنة ، و الصور الفنية المتساوقة ، بل إن هذه المقدمة و ما يماثلها تقوم دليلا موفقا على التناسجية المثلى الحاصلة بين المضمون المعبر عنه ، و التشكيلات الجمالية المتوسل بها ، و هو المطلب الإبداعي الذي يتشوق إليه كل فنان مدرك لآليات الخلق الجمالي . و الظاهرة الثانية التي وسمت الكتابة الشعرية عند عبد القادر المقدم هي ظاهرة النثر الفني أو "قصيدة النثر" ، و إذا كان الناقد محمد الميموني فضل أن يظل أمينا لطبيعة الموضوع المعني بالمقاربة حريصا على تفادي الخروج عن حدوده المسطرة منهجيا : أي التعاطي مع النصوص الشعرية بحصر المعنى ، خاصة و أن تجرية قصيدة النثر في الشعر المغربي الحديث تستدعي بحثا مستقلا ، من أجل تقييم أبعادها الجمالية و مرتكزاتها الموضوعية ، فإنه قدم بعض نماذج هذا النوع من الخطاب الأدبي ، الذي تفوق فيه الشاعر إلى جانب آخرين و على رأسهم الشاعر الكبير محمد الصباغ ، و كمثال على "قصيدة النثر" عند عبد القادر المقدم نورد مقطعا من قصيدة "روح و ظلال" ، يسال فيها الشاعر عن السر الذي يجعل العصفورة تنتقل بين أغصان الشجر :
من غصن إلى غصن تتفقدين أمرا لا يدركه سواك
متنسمة بقايا من شذاه الموهوم
و ربما كان في الوهم غلالة للروح الولهى
بلا كبير عناء بحثا عن رمز يشير إلى مقر الحبيب
أو يدل على سبيل تنسجم روائحه المنعشة .
فإذا كانت المقدمات و المداخل التي خصها الشاعر لبعض قصائده قد صورت مدى شاعريته و رهافة إبداعه ، فإن نثره الفني بدوره يجسد هذا المنحى الفني الجميل ، حيث حركية الصور البلاغية و النفاذ إلى أعماق الطبيعة ، و اندماج الذات بالموضوع و اعتماد الإيحاء و التصوير بديلا عن التقرير و الإبلاغ ، و قد أفضت هذه الملاحظات السديدة بالناقد إلى طرح سؤال صعب و هام و هو : ما الذي منع شاعرا من حجم عبد القادر المقدم من الانخراط في تيار التجديد ؟ لماذا تحفل قصائده المنثورة و مقدماته التي استهل بها بعض إبداعاته الشعرية بأبعاد جمالية رحبة ترشح بالألق التعبيري ، في حين يطغى على قصائده الشعرية ذلك النوع من التقريرية و المباشرة ؟ ما هي العوائق المعرفية و الجمالية التي حالت دون أن يتأثر بحركة الحداثة بالمشرق العربي ؟ هل يعود ذلك إلى السياق الثقافي العام الذي ميز المغرب في النصف الأول من القرن العشرين ؟ و هو سياق التقليد و المحافظة و هيمنة القيم الدينية بمفهومها السطحي ، حيث لم تجعل المغرب آنذاك مهيئا لتمثل قيم الحداثة و التجديد ؟ أم أن الأمر يعود أساسا إلى هيمنة نموذج الشعر العربي العمودي التقليدي ؟ الذي يفرض على المبدع شاء أم أبى صيغا تعبيرية و معجما نوعيا و ظواهر فنية مكرورة ، تستدعي نظما شعريا كلاسيكيا ؟ أم أن هناك عوامل أخرى تتطلب الاستقصاء و الاستجلاء ؟ مهما تعددت العوامل و تنوعت المعوقات التي حرمت بعض الشعراء المغاربة و منهم عبد القادر المقدم من معانقة مستلزمات الحداثة الشعرية ، فإن هذا الأخير ظل يتراوح بين اتباعية الشعر العمودي التقفوي و إبداعية النثر الفني !
حين يخضع الشعر المسلمات المجتمعية للمساءلة :
يعد الشعر تعبيرا لغويا فنيا عن مطلق التجارب البشرية ، مما يجعله يختزل و بإيحائية غنية كل القيم و الرؤى و التطلعات التي تسيج المجتمع ، و تشكل جوهر الإنسان و عمقه الأبدي ، و الشاعر و هو يعبر عن أحلامه و آماله و عذاباته الذاتية ، يطمح إلى فهم العالم و تغييره جماليا ، عبر مختلف المكونات و التشكيلات اللغوية و البلاغية الخفية و المتجلية . و في هذا السياق شهدت البدايات الأولى للشعر المغربي الحديث ( الخمسينيات من القرن العشرين على وجه التحديد ) نماذج شعرية تضمنت عناصر الحداثة و مظاهر التجديد ، سواء تعلق الأمر بمكون الرؤية ، حيث الانفتاح على فضاءات خارج حدود الذات الضيقة ، و معانقة قيم المجتمع و انشغالاته ، أو تعلق الأمر بمكون الأداة الفنية ( اعتماد الصور الإيحائية و اللغة الانزياحية ، و التخفيف من ثقل الإيقاع المحافظ . و يعتبر الشاعر محمد السرغيني واحدا من الشعراء الذين أثروا القصيدة المغربية الخمسينية معنى و مبنى .
و قد قدم الكاتب محمد الميموني قراءة نقدية تذوقية وافية لبعض نصوص هذا الشاعر المجدد ، متوخيا عبر ذلك اكتشاف ملامح شاعريته و استقصاء توجهه الحداثي ، و قبل أن نتعرف على ميكانيزمات العملية التحليلية التي خصها الكاتب لقصيدة صدرت في يناير 1954 بمجلة "الأنيس" تحت عنوان "الميلاد الجديد" ، نود أن نورد المقطع الأول منها :
في فجاج الزمان كفنت أيامي أودعتها اللحود الثقيلة
و تهافت كالقضاء على الماضي فقوضته فصار خرابا
ينعق البوم في مسارحه الثكلى فيشجي صداه عشب الخميلة
السكون الرهيب و الوحشة الحيرى ، تحيل الصفاء منه ضبابا
و أهم ما يطبع هذه المقاربة النقدية تجنبها أي ادعاء واهم بالحداثة ، أو الاستقواء على النص بما لا يتناغم و منطقه الداخلي المخصوص ، بل إنها مقاربة تسائل النص الشعري في جزئيات بنيته الفنية ، لتجعل من مستوياتها الدلالية و أبعادها الجمالية في حالة انبجاس متجدد ، و قد خلص الكاتب إلى معاينة البوادر و السمات المغايرة في القصيدة الخمسينية لدى محمد السرغيني ، فعلى مستوى التيمات لا حظ أن الشاعر كان ينزع إلى إحداث نوع من القطيعة مع الماضي الذي يرمز إلى الثبات و جمود الذهنيات ، و تجنب قدر الإمكان الموضوعات الموغلة في الذاتية الفردية ، بهدف الانفتاح على هموم المجتمع و التطلع إلى المستقبل الذي يرهص بأفق واعد ، و على مستوى الأدوات الفنية فقد عمد الشاعر إلى التخفيف من القيود الإيقاعية المتقادمة و توسل بصور بلاغية أكثر كثافة و إيحاء ، و كأن الرجة التي لحقت بقناعته الجمالية و الفكرية التقليدية في طور النضج الفني ، شملت و بنفس القدر نظمه الشعري . و إذا كنا قد سجلنا أثناء الحديث عن الشاعر عبد القادر المقدم ، أن هذا الأخير لم يتمكن من الاستفادة من الحيوية الشعرية العربية ، التي كانت تصل أصداؤها من المشرق إلى المغرب الأقصى ، فإن محمد السرغيني تعاطى إيجابيا مع هذه الحركة الحداثية ، فأثمرت نصوصا إبداعية رائدة ، تلك الحركة الحداثية التي دعت إلى ضرورة إعادة النظر في فهم الذات و مساءلة المسلمات الفكرية ، فبدون قلق فني و معرفي و تحويل الثبات إلى تحول مستمر ، لا يمكن إنجاز مشروع إبداعي تجديدي حداثي فاعل .
تقدم نبض الشاعرية على الأداة الفنية :
يجسد الشاعر عبد الكريم الطبال نموذجا صارخا للمبدعين المغاربة المحدثين ، الذين أنجزوا خلخلة شديدة في سياق القصيدة المغربية المعاصرة ، لوعيه المتقدم بحقيقة الأدوات الفنية و وظيفتها الجمالية منذ الخمسينيات من القرن الماضي ، مما أكسب القصيدة الخمسينية للطبال بوادر التجديد و التمايز و إرهاصات التجاوز ، و قد عثر الناقد محمد الميموني في قصائد هذا الشاعر المبدع على فضاء فني ، أسعفه على تقديم قراءة نقدية تحليلية غاية في الدقة و الرهافة ، أجراها على قصيدتين رئيسيتين نشرتا سنة 1954 ، و هما : قصيدة "رياح" ( مجلة المعتمد ) و قصيدة "قيثار" ( مجلة كتامة ) ، و قد استهل مقارنته النصية بمساءلة الكون الإيقاعي و الصوتي بغية تحديد التناسج الذي جاء وليد الإنصات لنبض الشاعرية و الإصغاء لأسرارها الدفينة ، مما ينتج عنه ما يسميه الناقد بالمضمون الشعري ، أي جماع المكونات و العناصر المشاركة في النشاط الإبداعي الشعري ، بل إن التناسج في القصائد الجيدة لا يقتصر على هذا المنحى ، و إنما يتجاوزه إلى التناغمية القائمة بين المكونات الدلالية للبنية السطحية و البنية الشعورية الداخلية للنص الشعري ، فقصيدة "رياح" مطلعها :
اهجري يا رياح معبد حلمي و دعيني في نشوتي و صلاتي
نموذج حي للبناء العضوي و التنامي الجدلي لمختلف العناصر و الفعاليات المنصهرة ، فالكلمة المحورية التي تشكل "العلبة السوداء" باصطلاح رولان بارت و "بذرة التخليق" كما يسميها الناقد محمد الميموني في قصيدة رياح هي "المعبد" و ليس الرياح التي جاءت عنوانا للقصيدة ، و قد لاحظ الباحث أن أبيات هذه الأخيرة تجسد دائرة دلالية صغرى تعكس "فاعلية الريح" و "سكونية" المعبد ، و في موازاة هذه الدائرة نجد على المستوى الوجداني نوعا من الاحتماء بالذات التي تواجه رياح المجهول ، و هكذا يميز الباحث بدقة وظيفة الناقد المنحصرة في إدراك مظاهر النشاط الفني ، دون تجاوز ذلك إلى "سبر أغوار آليات الفاعليىة الفنية" التي هي من اهتمام دارسي ظاهرة الإبداع الإنساني العام حسب وجهة نظره .
و من ضمن التمظهرات الفنية التي تسم قصائد عبد الكريم الطبال الأولى ( مرحلة الخمسينيات من القرن الماضي ) ، نذكر التراكيب البلاغية و التشكلات التصويرية ، إذ تكتنز نصوصه الإبداعية بالصور الشعرية التي تضفي قدرا من الغرابة على الكون النصي ، و تخرج المفردات المعجمية من دلالاتها المألوفة إلى دلالات سياقية مصاحبة ، و تنقل الرسالة الشعرية من وظيفة الإبلاغ إلى وظيفة الإمتاع ، يقول الشاعر في قصيدة "أحلام" :
ليتني كنت دمعة في جفون العشب ألهو مع الهبا و الضياء
ليتني كنت بسمة في فم الفجر فأجلي الظلام عن دنياي
ليتني كنت جدولا يتهادى في خطاه كأنه في علاء
فدمعة في جفون العشب و بسمة في فم الفجر و جدول يتهادى في خطاه ، أساليب استعارية انزياحية تنزع نحو تجسيد المجردات في أبهى و أرق صورة ، و إلى تشخيص معالم الطبيعة و الاندماج في حناياها ، فتنبجس البسمة من فم البحر ، و يتهاددى الجدول في خطاه ، فتنفجر المستويات الإيحائية للواقع الفيزيائي المحسوس ، تماما كما هو الشأن بالنسبة للإشراقات الرومانسية العالمية على يد ممثليها الأعلام : لامارتين و فيكتور وجو .. و كما يتجلى ذلك أيضا في الأعمال الشعرية الوجدانية العربية الحديثة ، عند كل من أبي القاسم الشابي و إبراهيم ناجي و جبران خليل جبران و أحمد زكي أبو شادي و عبد الرحمن شكري ..
خلاصة :
استطاع الشاعر و الباحث المغربي محمد الميموني ضمن هذه المقاربات النصية لبعض نماذج بدايات الشعر المغربي الحديث ، أن يعانق أبرز الدلالات و الرؤى الإنسانية ، التي تخللت مجمل هذه الأعمال ، و أن يستشرف تشكيلاتها و مكوناتها الجمالية ، جاعلا من القصيدة منطلقا محوريا للعملية التحليلية المحايثة للآليات النصية ، و مستجليا مظاهر شاعرية نصوص إبداعية طالما عانت ضروبا من الإهمال و الإقصاء ، و متجنبا أي ادعاء بالتسلح بالترسانة النقدية الحداثوية . فهل مقصدية الكاتب عبر هذا المنحى النقدي تتغيا إعادة الاعتبار للنص الشعري المظلوم من قبل بعض النقاد و الدارسين "المتخصصين" ؟ أم أن الأمر يتعلق برسالة نقدية مستترة تستدعي ضرورة إعادة تنظيم البيت النقدي في الساحة الأدبية العربية و المغربية على وجه التحديد !؟
الهوامش :
1 – محمد الميموني : في الشعر المغربي المعاصر : سبع خطوات رائدة – منشورات جمعية تطاون – أسمير 1999
2 – محمد بنيس : مساءلة الحداثة ، دار توبقال للنشر : الطبعة الأولى 1991 ص : 176
3 – محمد أنقار : صورة عطيل : منشورات نادي الكتاب ، كلية الآداب بتطوان ، الطبعة الأولى مارس 1999 ص : 6
4 – محمد الميموني ... ص : 7
5 – جان كوهن : بنية اللغة الشعرية : ترجمة محمد الولي و محمد العمري ، دار توبقال للنشر ، الطبعة الأولى 1986 ص : 13
6 – المرجع السابق : ص : 13

* باحث في قضايا الفكر و الأدب