إبراهيم الرفاعي: قوة القلم حارس الحجر والبندقية
بقلم: د. وفاء شواهنه
يدركنا الوقت أحياناً، لكن لا يدركنا الوفاء، تمر اللحظات سريعة صاخبة، ولا نكاد ندرك رنين الزمن في ذاكرتنا، تمر التجربة، وتمضي الأيام بعيداً، ونستعيدها كما لو كانت أمس! كانت مكالمة هاتفية تلقيتها من الدكتور إبراهيم الرفاعي، أعادتني سنواتٍ إلى الوراء و كانت الدافع القوي لي لكتابة هذه السطور، تحدث بشكل سريع طالباً صورة لممثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في تونس لتكون ضمن الأخبار والنشاطات التي يقيمون بها في تونس لمواجهة الحملات العربية الخليجية ضد القضية الفلسطينية والتطبيع العربي مع الاحتلال الإسرائيلي، كونهم فلسطينيون أولا و انطلاقا من موقع الدكتور الرفاعي كرئيس للاتحاد العام للحقوقيين الفلسطينيين فرع تونس.
إن الحديث حول الدكتور الرفاعي يتطلب الكثير من السرد إذ لم يكن بالنسبة لي فقط الأستاذ المشرف للدراسة في جامعة تونس المنار في مرحلة الدكتوارة فحسب ، بل شكل جسد وروح فلسطين الحي في تونس، بيته مفتوحاً للجميع، وخاصة للفلسطينيين القادمين من الأرض المحتلة، لم يكن يقبل أن يكون مجرد مشرف يقدم النصائح الاكاديمية للحصول على الدرجة العلمية، فهو قبل أن يكون أستاذا جامعيا كان المناضل الفلسطيني الذي أصر أن يحتفظ برؤيته للقضية وتمسك بهويته لاجئاً فلسطينياً في سوريا، ولم يعد إلى فلسطين بعد توقيع اتفاقيات أوسلو عودة إدارية كما عاد غيره، ولم يتولى منصباً سياسياً، ولم يتنازل عن فكرته في المقاومة، وحافظ على تطلعه للمقاومة وإن كان بعيدا عن فلسطين، ولكنه استطاع أن يجعل فلسطين حاضرة أينما تواجد.
في منتصف عام 2016 ذهبت إلى تونس لإكمال متطلبات الحصول على درجة الدكتوارة، بدأت اسمع من المحيطين اسم الدكتور الرفاعي، وأخذ النصائح ليكون هو من يشرف على دراستي، استطعت بعد عدة محاولات الاستيلاء على مساحة من وقته في مقهى صغير مع مجموعة من الطلاب والطالبات، شكل موضوع دراستي حلقة مهمة من حياة الرفاعي، فقد اخترت أن أكتب حول المقاومة الفلسطينية وما وقع عليها من تغيرات بعد دخول السلطة الفلسطينية ألى الضفة الغربية وقطاع غزة، بالنسبة للرفاعي كان هذا الموضوع الأجمل فأخذ ينسج فيه، نتفق أحياناً وكثيراً نختلف على كثير من التفاصيل، يسترعي انتباهي دائماً وكلما تجاذبنا أطراف النقاش حول كثير من الأوراق والمقترحات التي أعدها أكتبها، وأعيد كتابتها، صوته وهو يتحدث عما يحدث في الضفة من صراعات داخلية، وعن الإضرابات منذ الانتفاضة الفلسطينية عام 1987 إذ يتحدث بصوت ووعي الفلسطيني الذي لم ينسلخ عن محيطه الفلسطيني، ولم يغادر بيئته الأولى، ففلسطين بئرنا الأولى جميعاً، ونحن مياهها قد نجري في كثير من الأودية ونتدفق من شلالات كثيرة، لكن روح الماء فلسطينية، نتدفق مياه فلسطينية رقراقة.
يستعيد الرفاعي البلاد بعين ابن الأرض التي ولدته، فيظل يعيش في ثنايا الأرض المحتلة مهما غاب عنها، فالفلسطيني يغيب إذ يغيب غياب النسر عن بيته، يحلق فتكون السماء ميدانه، ويكون بيته شموخاً يحمله بين ثنايا جناحيه، تسكنه الأرض فلسطينياً عاشقاً، ويسكنها ويدرك ثناياها، أزقتها، يسمع همس جدرانها الباردة في ليل قاتم تدوسه أقدام الغرباء، إذ يراها بعين الباحث في مركز الأبحاث الفلسطيني و يكتبها بحبر الأستاذ الجامعي المواكب لكافة متغيرات القضية، الباحث في عيون الطلبة الباحثين والأكاديميين عن صوت فلسطين، عما تبقى من عطر في سنديانة فلسطينية، وزيتون فلسطيني.
هل أتحدث بوعي لحظتي الذاتية حين أراه يقلب أحداثاً مستجدة على الساحة الفلسطينية برزت خلال الانتفاضة الثانية، حيث شكل حلقة وصل بين كافة الأحداث، وقدم لي خلال حواره تلك الروابط التي مكنتني من حبك سلسلة متكاملة، وفك عرى ما تشابك من قضايا ومخرجات أفرزتها الانتفاضة الثانية، فاستطعت أن أشكل سلسلة متكاملة معتمدة على ما قدمه لي خلال الحوار، فكان العين الثاقبة القادرة على رؤية المشهد الفلسطيني بإحاطة واسعة على مسافة من الجغرافية والزمن، لم أكن وحدي في جلسة النقاش فذاك طالب فلسطيني آخر يكتب حول الجرائم الالكترونية في فلسطين والرفاعي يرتب له كيفية العمل بشكل دقيق، بالرغم من حداثة الموضوع، وآخر يسعى لصياغة أجزاء حول المقاومة السلمية في فلسطين، وطالبة تونسية تكتب حول الأنظمة الانتخابية في القانون العام، وجميعنا نحاول أن نأخذ أكبر قدر ممكن من الوقت وهو يحاور الجميع، ويتنقل من موضوع لآخر على نفس الطاولة وبنفس الفاعلية، ويمنحنا القوة والصلابة بالرغم من الشدة والقسوة التي يتعمدها أحياناً، وثورات الغصب الشاقة التي تعصف أحياناً في روحه، رغبة منه بتحقيق أقصى درجة ممكنة من جودة العمل والإنتاج العلمي، إذ يتطلع دائماً إلى التميز و يسعى للحفاظ على الفلسطيني وتقديم البحث العلمي المعرفي الذي يوثق للحالة الفلسطينية، والتعامل مع مخرجات العمل كوثيقة تاريخية هامة تسجل للمرحلة الحديثة وتوثق لكل ما يجري على الأرض.
نؤمن كطلاب و عاملين في مجال البحث العلمي والمعرفي أن الفلسطيني منذ خسر أرضه سعى للحفاظ على تمسكه بعلمه والتميز بين العالم بوجوده، وهذا ما أكد عليه بالرئيس محمود عباس خلال ترأسه اجتماع أمناء عموم الفصائل الفلسطينية من خلال الفخر بالشعب الفلسطيني انطلاقا من حفاظهم على التعليم وانعدام الأمية في نسيج الشعب الفلسطين، بالرغم من الاحتلال وما يفرضه من صعوبات إلا أن كلاً منا يحفظ فلسطين في قلبه، ويمهرها بحبر من دمه .
الدكتور ابراهيم الرفاعي ابن فلسطين الذي بقي خارج إطارها جغرافيا، فكان قلبه سكنها، تسكنه البلاد حيث كان، ويحملها معه حيث يكون، ينادي بسمها ولا تستطيع إلا أن تجيبه أينما كانت، هو صوت فلسطين حيثما حل، لم يولد ويعش في وطنه فلسطين، ولكنه استطاع أن يحمله معه، ويحفظه في كافه أعماله ودراساته وحواراته، واستطاع أن يكون ايقونة لكل باحث فلسطيني يطرق بابه طالبا التميز والحضور بقوة وإثبات أن الفلسطيني مقاوم وصاحب انتفاضة مستمرة، من خلال وجوده على الأرض والتمسك بها، والمقاومة من أجل استعادتها. شكل الدكتور الرفاعي صوتا قويا للباحثين الفلسطينين في تونس، واستطاع أن يؤسس قاعدة من الباحثين الذين يسعون ليكونوا وكلاء للتغير والبناء، وجداراً للنضال والتصدي لمحاولات الاحتلال التهويد والاستيلاء على الحق التاريخي لنا في فلسطين التي ستبقى في وعينا من النهر إلى البحر، وسيبقى الدكتور الرفاعي محافظا على وطنه الأم صفد، و ستظل حارات صفد تنتظر أهلها الذين حتما سيعودون، فأبنائها الذين يحملون القلم سيخلقون جيلا يكمل المسيرة ويحمل القلم والحجر والبندقية .
إبراهيم الرفاعي: قوة القلم حارس الحجر والبندقية بقلم: د. وفاء شواهنه
تاريخ النشر : 2020-10-05