حين تؤسس تونس لدولة القانون والمؤسسات.. بمنأى عن التكفير والتهديد والوعيد
تاريخ النشر : 2020-09-25
حين تؤسس تونس لدولة القانون والمؤسسات.. بمنأى عن التكفير والتهديد والوعيد


حين تؤسس تونس لدولة القانون والمؤسسات.. بمنأى عن التكفير والتهديد والوعيد

بقلم:محمد المحسن
قد لا أجانب الصواب إذا قلت أننا انخرطنا جميعا في حرب كونية غير معلنة قد يخرج منها الواحد منّا يحمل تشوهاتها المستديمة،إلا أنّها ليست الحرب الثالثة،بل الرابعة والوحيدة العالمية حقا،فالأولى أنهت الهيمنة الأوروبية والحقبة الإستعمارية،والثانية أنهت النازية،أما الثالثة التي لم تقع،كانت الحرب الباردة الردعية وأطاحت بالمعسكر الإشتراكي بعد أن أصابت الشيوعية في مقتل،ومن حرب إلى أخرى،هرولنا بخطى حثيثة نحو نظام كوني واحد،واليوم فإنّ العالم،الذي صيغ وفق المقاس الأمريكي،يواجه قوى تناحرية،مبثوثة في قلب الكون وفي كل اضطراباته الفعلية..حرب كسورية حيث تثور كل الفرادات تماما كما تفعل الأجسام المضادة،ونزاع لا يسبر غوره،إلى درجة تحتّم على المرء أن يحفظ بين وقت وآخر إنتاجات استعراضية من نوع ما وقع في كابول أو ما شهدته بغداد.. لكنّ الحرب الكونية الرابعة تقع في مكان آخر،إنّها تلك التي تسكن كل نظام كوني،وكل اخضاع مهيمن:إذا هيمنت قوّة متغطرسة على العالم،فإنّ الإرهاب سوف يقاتل ضدّها،ذلك أنّ العالم ذاته هو الذي يقاوم الإخضاع.
هكذا أصبحت عولمة الخوف نبوءة ذاتية التحقّق،ومجلس الأمن الدولي،على نحو آلي تماما تبنّى”الشيك على بياض”الذي منحه الكونغرس للبيت الأبيض من أجل “تخليص العالم من الشرّ”! تاركا طيّاري القاذفات الأمريكية،وهم يلقون على خرائب كابول القنابل العنقودية ويمطرون سماء بغداد بالصواريخ الحارقة،الأمر الذي جعل من الترهيب القوت المفضّل للإمبراطورية التي لا يُلوى لها ذراع. .
ذلك يجري بالرغم من أنّ هذه القوّة المتغطرسة،بوسيلة جبروتها الذي لا يُحتمل،هي التي استولدت بالتالي هذه المخيّلة الإرهابية التي تسكننا جميعا دون وعي منّا !
وإذن؟
نحن نحارب الإرهاب إذا، إيمانا منا بأفضلية مشروعنا المجتمعي على مشروعه. نحن نريد إعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس احترام حقوق الإنسان وتوسيع رقعة الحريات والقبول بالتعددية والسعي لإدماج كل مكونات المجتمع ومنها المكونات العقدية في النسيج الوطني بغية تحقيق أقصى قدر ممكن من السلم المدني.
إذا انطلقنا لتحقيق هذه الأهداف من رفض الآخر وتخوينه واتهامه سواء كان معارضا لقانون الإرهاب أو صاحب لحية طويلة،وإذا قلنا إن الغاية تبرر الوسيلة،وإذا قبلنا بمنطق “العجة لا تكون إلا بكسر البيض” فيا خيبة المسعى.لنحذر من القانون الذي سنه فرويد:”أنت لا تقاتل عدوا زمنا طويلا إلا أصبحت تشبهه”.
علينا الحذر كل الحذر حتى لا تغلبنا حمى الصراع وضرورياته لكي ننتهي شبيهين بأعدائنا لأن السؤال آنذاك:ما الذي جنيناه وما الذي جناه المجتمع من نضالنا إذا كانت هذه هي النتيجة؟
من لا يفهم أن آلة توليد الإرهاب هي الظلم الاجتماعي والاقتصادي والاستبداد السياسي وانهيار القيم وتحقير الهوية،لايفهم شيئا في إشكالية يدعي حلها.
انطلاقا من وعينا بضرورة تجند كافة قوى المجتمع المدني ومؤسسات الدولة وكل الفاعلين السياسيين،من جامعيين ومدرسين وفاعلين ثقافيين ومبدعين نؤكّذ على أن الإرهاب ظاهرة شمولية لأنه نتاج أيديولوجيا تقدّم نفسها للعالم على أنها منوال حياة وتفكير وفعل،وهي تستخدم قدرات مادية كبيرة ودعاية تستند إلى استغلال مكثف لوسائل التواصل الحديثة ومن أجل محاصرته واقتلاع جذوره من المجتمع لابد من فهمه بكل أبعاده.
والأسئلة التي تنبت على حواشي الواقع:
هل جوهر المشكلات في -بلداننا العربية-هو العنف والإرهاب أم غياب العدل والحريات؟ وتلي هذا السؤال أسئلة أخرى مثل:هل غياب العنف والإرهاب سيوفر العدل والحريات،أم أن إقامة العدل وصيانة الحريات كفيلتان باحتواء العنف والإرهاب؟
وهل استطاعت النظم الحاكمة تحقيق برامج تنمية حقيقية تعالج التفاوت بين الطبقات وتضمن الحد الأدنى من المعيشة الكريمة وتمنع مسالك الفساد واستغلال النفوذ؟
وبسؤال مغاير أقول:هل استطاعت النظم العربية أن تحمي وتوفر قنوات سلمية للتعبير عن الرأي والمشاركة الحقيقية في الشأن العام دون تمييز أو إقصاء؟ وهل احترمت النظم الحاكمة استقلال القضاء وحرصت على مهنية الإعلام ومنعت تسييس أجهزة الدولة وأكدت على استقلال الجامعات والمراكز البحثية؟
ثم الآن وبعد ما كان يسمى ب”الربيع العربي”كيف تحول الأمر من النضال السلمي للشعوبمن أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية إلى الخوف والقلق من أي تغيير؟ ولماذا تدخل حكومات المنطقة في تحالف جديد للحرب على الإرهاب بدل تصالحها مع شعوبها وإجرائها عمليات إصلاح حقيقية تقوم على حكم القانون ودولة المؤسسات والمواطنة التامة والتداول السلمي على السلطة والفصل بين المال العام والمال الخاص؟
أليست”داعش” نتاجا طبيعيا لكافة أوضاعنا المترجرجة بدءا من نظم الاستبداد وقمع الحريات والفساد والإفساد والإفقار وتبديد الثروات،مرورا بسياسات إفساد التعليم والثقافة والإعلام وتسطيح العقول،وانتهاء بسياسات الهيمنة والتبعية للخارج؟
ما أريد أن أقول ؟
أردت القول أنّ ظاهرة الإرهاب صارت معولمة وعابرة للحدود والقارات،ولم تعد ظاهرة محلية او اقليمية.بدليل أنها موجودة في مناطق مختلفة من العالم،حيث ضرب الارهاب تونس والعاصمة البلجيكية بروكسال وفرنسا وتركيا وألمانيا..إلخ، بما يؤكد بساطع البرهان أن الفتق يتسع على الرتق فيها،وان المسألة أعقد مما تصور للبعض أو توهم. فقد تجلى ذلك في عدم عصمة أي بلد من عدواها المربكة. فالظاهرة تتداخل فيها معطيات ايديولوجية واقتصادية وسياسية ومناخات عامة غير مرضية في المنطقة،تستدعي مقاربة شاملة يمكن تسميتها ب”الأمن الشامل” لمواجهة الظاهرة التي صارت تضرب وتفاجئ. فكلما ظننا أنها بصدد الترمّد بدا أنها في حالة تجدّد.والجهود حثيثة مستخفية بالليل وساربة بالنهار لحشر الظاهرة في الزاوية وتضييق الخناق عليها في حدود ضيقة حتى يأمن الناس شرّها المستطير،ولا يكون ذلك-في تقديري-إلا بتعزيز الوحدة الوطنية للشعوب وهي الوحيدة الكفيلة التي يلجأ اليها الوطن من غاشية الإرهاب والكوارث.فالظاهرة صارت-كما أسلفت-تضرب من داخل الوطن وخارجه،مما يستوجب توفر الأمن واليقظة وانتشار الجيش الوطني على الحدود ومساهمة قوات الأمن.
وتبقى المسالة رهينة المعالجة السياسية الحقيقية وإعادة بناء مؤسسات الدولة،وتحقيق عودة الأمن والإستقرار في أبهى التجليات،وماعدا ذلك فان تونس ستبقى دائما عرضة لنوازع الشر في الظاهرة،رغم أن الأحداث التي جدّت في بن قردان (07مارس 2016) قد بينت أن البلاد صارت مقبرة للإرهابيين وطاردة لاحلامهم ،إذ أن التخطيط لعملياتهم من الخارج دليل فشلهم في الإنتماء للنسيج الاجتماعي التونسي،وعدم استعداد الحاضنة الشعبية لحمايتهم أو التستّر عليهم تحت أي ذريعة دينية أو جهادية.حيث فشل رهانهم وخاب سعيهم في التوطين بتونس بفضل الوعي الشعبي العفوي العام،الذي فأجأ الداخل والخارج ومثّل استثناء تونسيا في التعامل مع الإرهاب .
على سبيل الخاتمة:
يبدو الإرهاب كتهديد دولي في العالم العربي والاسلامي،صار-كما أسلفنا-ظاهرة كبرى يضرب أهدافا،ومكافحته تعد مصلحة مشتركة لجميع الأمم،لأنه-ببساطة-صار ظاهرة معولمة.
الأمم المتحدة لم تكن ناجعة في استراتيجيتّها في مكافحة الإرهاب وهو ما قاله الامين العام السابق “بان كيمون”أن الإرهاب صار مدرجا على جدول الأمم المتحدة منذ عقود. وقد وضعت 14 اتفاقية في هذا الإطار وذهبت الدول الأعضاء لمزيد تنسيق الجهود. كان مجلس الأمن نشطا في إطار الإرهاب من خلال قراراته. وكان قد أصدر القرار 22/50 الذي تقدمت به الأردن حول السّلم والأمن بزيادة التمثيل الشامل لصالح الشّباب. وشاركت مكاتب الأمم المتحدة في تنظيم قرارات ضد الإرهاب لمحاولة فهمه والحدّ من خطره .فخطّة الامم المتحدة لمقاومته كانت ترتكز على 4 محاور –التدابير الرّامية لمعالجة الظروف المنشئة للارهاب- مضاعفة جهود الامن- احترام حقوق الانسان للجميع-تعزيز حقوق ضحايا الإرهاب. فالقرار 158/60 يتعلق بالحقوق الأساسية لضحايا الإرهاب.وكل الدول الأعضاء مطالبة بإحترام الحقوق ولا تتخذ مقاومة الإرهاب ذريعة للتعدي على الحقوق.
و لا يمكن ذلك إلا بالتنمية المستديمة و نشر مجتمع المعرفة وحقوق المرأة وتشجيع مشاركة الشباب.
وهذا ما نطمح إليه في بلد(تونس) قطع مع الدكتاتورية،ثار ضد الحيف الإجتماعي،القهر السياسي،الإستبداد الفكري..وبدأ يؤسس لدولة القانون والمؤسسات،بمنآى عن التكفير والتهديد والوعيد..

محمد المحسن (كاتب تونسي)