دولة للحمقى والمجانين بقلم: هاني الروسان
تاريخ النشر : 2020-09-24
دولة للحمقى والمجانين
سيكتب المؤرخون اليهود في يوم ما ان دولة اسرائيل لم تكن سوى دولة للحمقى والمجانين وان استمرارها كل هذا المدى لم يكن اكثر من مجرد صدفة انتجها مسار حركة القوة على محور الزمن.
وقد يتضح ان هذه الصدفة منحت اسرائيل امكانية للامتداد اكثر عبر الزمن لو تمكنت من تحديد لحظة ما قبل بداية تراجع القوة وانهيارها الحتمي وتوقفت عن جشع فرض شروط بقائها والاجحاف بحقوق الاخرين.
ولكون السياق الطبيعي لبلورة فرصة للتعايش الاطول مع الاخر في كنف هذه الصدفة كان ومازال يكمن في توفر قدر من الحكمة لتحديد السقف الاقصى لشروط لا تخرج عن مبدأ الانصاف، لإنتاج بيئة توفر حدا من الكرامة تشجع على الاستمرار في تجربة التعايش المشترك، فان اسرائيل التي وقعت ضحية عنجهية قوتها المبنية على القوة الامريكية فشلت فشلا ذريعا في امتحان الحكمة هذا.
ولم يتوقف فشلها عند حدود اضاعة كافة الفرص وهدرها على مذبح التطرف والغرور، بل انها بعدوانيتها واصرارها على النية باستمرار التوسع والاستيلاء على حقوق الاخرين وجهت طعنة قاتلة لثقافة السلام، واعادت مسرح الاحداث لاجواء ثقافة التطرف والعنف بعد ان ساد اعتقاد لفترة من الزمن ان المنطقة تغلبت على لغة الحرب والتوتر.
وتأتي اليوم مؤشرات هذا الفشل، في الهروب الاسرائيلي الى الامام ومحاولة الالتفاف على حقائق الواقع وخلق آليات للتجاوز المفتعل حيث حط رحالها في بعض دول الخليج دون ان تؤمن مؤخرتها التي ستبقى عرضة لتهديد يحول دون اعطاء معنى نوعي لهذا الهروب ويبقيه بدون فوائد تبرره.
ونتنياهو الذي يكابد للهروب من تداعيات فضائح فساد تطارده ويغلب مصلحته الشخصية على حساب يهود دولته يدرك ان بدايات ضعف الدولة وتراجعها يبدأ مع مغامرة انتشارها خارج منحى التوسع الذي يقتضيه فائض قوتها او الانتشار وفقا لفائض قوة حلفائها كما هو حال اسرائيل اليوم، حيث تؤكد التجربة ان معظم خياراتها واستراتيجياتها كانت خيارات دولة المركز الراعية لقوتها ووجودها.
واذ يصعب على المتابع لنهج ادارة ترامب استبعاد فرضية ان المرجعية الفكرية لها تعتمد بصورة اساسية على طروحات جوزيف ناي التي تؤسس لنظرية المحافظة على المكانة دون الهيمنة، هروبا من حتميات بول كيندي سليل المدرسة الواقعية، التي لا تجد مناصا من انهيار قوة الدولة وتحولها، فانه لا يسع هذا المتابع ايضا الا ان يسجل تطورا ما طرأ على الدور الوظيفي لإسرائيل في اطار ما تسميه واشنطن بإعادة تصحيح المسار وابقاء الولايات المتحدة على قمة هرم نظام دولي ما زال قيد الولادة.
وعلى الرغم من الانتقادات الواسعة لاطروحات ناي التي لا تخرج في النهاية عن نطاق حتميات كيندي حيث لا معنى لبقاء القوة خارج السعي للهيمنة اذ يعتبر ذلك تبديدا لمفهوم القوة والحاجة لامتلاكها، فان نتنياهو وللنجاة بجلده يضحي بمصلحة استمرار دولته الامن ويذهب الى مربعات التصعيد والتصعيد الخطير احيانا بهدف احتواء وترحيل ازمة تخليق شروط فرصة التعايش المشترك التي يوفرها انهيار النظام العربي البائس الذي قبل بكل الشروط الاسرائيلية.
ولكن هذا لا يعني ان نتنياهو يختزل الدولة بشخصه، كذلك لا مناص من الاعتراف ان اسرائيل دولة لها مؤسسات وان لصناعة القرار فيها تقاليد تخرج عن نطاق الفرد بالإضافة الى الدور الحاسم لدولة الرعاية في صناعة قراراتها وخاصة منها المتعلق بالصراع داخل المنطقة.
وهنا مكمن الخطر اذ يشير غياب احتمال ان يكون نتنياهو شخصيا وراء اضاعة اكثر من فرصة لاغتنام امكانية تخليق شروط التعايش المشترك القائم على قليل من الانصاف فان ذلك يؤكد ان مرد هذه الاختيارات الفعلي هو تفشي ثقافة العدوان والاستيلاء على حقوق الاخرين وانهيار ثقافة السلام في اروقة صنع القرار.
وبالعودة الى افتراض تمكٌن طروحات جوزيف ناي من استراتيجيات ترامب لاعادة تصحيح المسار والتخلص من النظام الدولي الليبيرالي برمته - وهو الاكثر ترجيحا - فان محاولات اسرائيل القفز عن حقائق الصراع مع الفلسطينيين والذهاب بعيدا نحو الخليج هو تعميق لدورها الوظيفي والخدمي ضمن الرؤية الامريكية للمحافظة على المكانة حيث يوفر لها الوجود الاسرائيلي في الخليج امكانيات افضل للتفرغ لمجابهة القوى الصاعدة في النظام الدولي.
مؤكد ان ما تسبب به نتنياهو من تفش لسياسات وثقافة اليمن المتطرف في اروقة ومؤسسات صناعة القرار والانخراط اكثر فاكثر في الدور الخدماتي لإسرائيل في علاقاتها مع الدول العظمى لن يروق كثيرا لبن غورين او لاي من الاباء المؤسسين لدولة اسرائيل الذين وضعوا مقاربة لعلاقة تبعية مع الكبار تؤدي الى توسيع هامش المشروع الصهيوني نفسه. كذلك فان شمعون بيرس قد لا يجد في سياسات اليمين الحاكم في اسرائيل ما يترجم رؤيته للشرق الاوسط الجديد التي بشر به مطلع تسعينيات القرن الماضي.
ان وصية هرتسل لاتباعه بالمحافظة على علاقة دائمة مع القوة الاعظم في العالم لضمان استمرار الوجود كانت تنطوي على درجة عالية من الخبث والانتهازية لصالح توسيع هامش المشروع الصهيوني، ولم ينصح لاتباعه بالذهاب للهاوية كما يفعل اليوم حمقى اسرائيل ومجانينها.
صحيح اننا لا نعثر في فكر ووصايا هرتسل على شيء من الحكمة يصبغ قدرا من المشروعية على اكذوبة المظلمة اليهودية التي تبحث عن بقاء ما. ولكن لو ُقدر له ان يعود للحياة ثانية فانه قد لا يطالب بأكثر مما منحتهم اياه خطة قمة بيروت التي تفتح الباب على مصراعيه للتوسع شرقا وغربا مقابل الاعتراف للاخر بحق البقاء.
ولكن يبدو ان كل هذا الكم الكبير من الحمق الذي اجتمع لدى قادة اسرائيل القائم على عمى عنجهية القوة ليس سوى احد مظاهر حتميات قصور التفكير الصهيوني الذي يقود لتكرار المأساة.

د.هاني الروسان/ استاذ الاعلام والاتصال في الجامعة التونسية