وحياة المصحف بقلم: عبد الرزاق دحنون
تاريخ النشر : 2020-09-23
وحياة المصحف بقلم: عبد الرزاق دحنون


وحياة المصحف
عبد الرزاق دحنون

وحياة المصحف "وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ" كلمتان ننطقهما هكذا "وحياة المصحف" ونحن في سن الطفولة ما نزال، نؤكد من خلال هذا القسم أمراً ما يحتاج إلى تأكيد قوي. هذا القسم يُنهي الجدل في الأمر المُختلف عليه ويكون نهاية المطاف، لا كلام بعده، إنه يحلف بالمصحف، فصدقوه. والمصحف في بيتي في مدينة إدلب في الشمال السوري على ضروب، أحتفظ في مكتبتي بمصاحف متعددة الأحجام والقياسات. أصغرها حجماً أصغر من علبة كبريت، بلا تشبيه طبعاً، استوهبته ذات يوم من أمام باب جيرون في الجامع الأموي في دمشق حين زرتها مع زوجتي في أيام شهر العسل صيف عام 1994. أما أكبر مصحف حجماً رأيته في حياتي، ولم اقتنه، وهو السبب الأساسي في هذا البوح المؤلم، وكم ندمت على ذلك وما زلت إلى اليوم في ندم يعتصر شغاف القلب كلَّما عنَّ على بالي. وها قد مضى أكثر من ربع قرن على الحادثة ومازلت أشعر بغصة في الحلق وأندم أشدّ من ندامة الكسعي، لأنني فرَّطتُ في استوهابه، وكان في متناول اليد، وآكل أصابع يدي ندماً على فعلتي تلك. وإليكم القصَّة والغصَّة والعصَّة.

كان صدام حسين قد خرج من الكويت رغم أنفه، وكانت بعض كتائب الفرقة التاسعة دبابات قد شاركت في التحشيد وكنتُ قد أديتُ خدمت العلم في هذه الفرقة التي تتمركز قيادتها في مدينة "الصنمين" في حوران جنوب سورية والتي يُغني لها المطرب الشعبي "من مفرق جاسم للصنمين حاجي تهلي الدمع يا عين" وكان يرأس الفرقة يومها اللواء عدنان بدر الحسن ولي معه صورة يُصافحني فيها ويُقدم لي هدية في احتفال عسكري في الفرقة التاسعة عام 1985 لتفوقي في خدمة الوطن.

راحت أيام وجاءت أيام فتذكرني الجيش العربي السوري واستدعاني لخدمة الاحتياط صيف عام 1991 وذلك بعد خروج صدام حسين من الكويت. الموقع العسكري الذي استدعيت إليه لخدمة فترة الاحتياط هو عبارة عن كتيبة مستقلة من الفرقة الثامنة عشرة دبابات وكان اختصاص الكتيبة صواريخ "مالودكا" روسية الصنع مضادة للدرع بعض سراياها محمولة على عربات مجنزرة، وبعضها الأخر صواريخ مفردة توضع قواعدها على الأرض حيث يستطيع الجنود حملها. هذه الكتيبة المستقلة متمركزة على بعد نحو عشرة كيلو مترات عن مدينة "صدد" الآرامية التي تقع على عتبة الصحراء على الطريق القديم بين حمص وتدمر في وسط سورية.

مضت ستة أشهر فترة الاحتياط وجاء يوم التسريح ولم أحصل على راتبي العسكري، فقلت لمساعد القلم في قيادة الفرقة: يا سيدي، كيف أوقِّع أمر التسريح ولم أحصل على راتبي بعد. شال سماعة الهاتف الأرضي واتصل بمساعد القسم المالي ثمَّ قال لي: اذهب إلى المالية وخذ راتبك المجمَّع من ستة أشهر، وعد إليَّ لتوقِّع، مبسوط الآن؟ قلتُ: نعم مبسوط يا سيدي. أخذت المبلغ وكان في حدود ستة آلف ليرة سورية، وكان في تلك الأيام مبلغاً محترماً. ودعت رفاقي المجندين وأخذت من الطريق العام الحافلة المتجهة إلى مدينة حمص. نزلت من الحافلة على ما أذكر قرب ساعة حمص الشهيرة، وليصحح لي الحماصنة إن أخطأتُ الوصف، وفي نيتي متابعة الطريق إلى إدلب. قرب الساعة لمحت مقهى الروضة وبجانبه لوحة من قماش كتب عليها "معرض الكتاب" وأقول صادقاً، أنا لا أستطيع الصمود أمام إغراء هذه اللوحات وفي جيبي مبلغاً محترماً من المال، صحيح أن حالي أشعث، أغبر، مدفوع بالأبواب. مع ذلك دخلت المعرض بأشيائي الثقيلة ورائحتي التي عدتُ بها من كتيبة صواريخ "مالودكا" التي خدمت فيها فترة الاحتياط.

  في زاوية المعرض لمحتها مفتوحة على مصراعها، نسخة مصحف هالني حجمها، قدَّرتُ بأنها في حدود المتر طولاً في نصف المتر عرضاً، وقد كانت كذلك. وكان خط المصحف مقروءاً عن بعد عشرة أمتار. ذُهلتُ ممَّا رأيتُ. أول مرة في حياتي أرى كتاباً مطبوعاً بهذا الحجم. تسمَّرتُ أمامه، ورحتُ أتأمل كلماته، وكان المصحف مفتوحاً على سورة "المؤمنون": قد أفلح المؤمنون، الَّذين هم في صلاتهم خاشعون، والَّذين هم عن اللغو معرضون، والَّذين هم للزكاة فاعلون. نبهتني من موقف الخشوع ذاك القائمة بأعمال المعرض، وهي صبية في شرخ الشباب الأول، حلوة الملامح، بسَّامة الثغر، تميل إلى اللهجة اللبنانية في كلامها. قالتْ: أعجبك "المصحف" كنتُ اختلس النظر إليك وأنت تقف أمامه. قلتُ: أذهلني. قالت: نسختان منه فقط، أنصحك باقتناء واحدة وهي فرصة لا تُعوض ولا تتكرر، بالله عليك خُذ نسخة ولن تندم على ذلك. قلتُ، ويا ليتني ما قلتها: سأشترى بعض الكتب، ثمَّ أعود لأمر المصحف. وندمت ندامة الكسعي، هذا الأعرابي الذي كسر قوس نشابه بعد ظنه في ليل دامس أنه أخطأ صيد حمير الوحش. وأنا أخطأتُ التقدير في نهار مشمس. حين عدتُ لحسم استيهاب المصحف وزنته بين يدي فكان ثقيلاً جداً من كبر حجمه، فاستثقلتُ حمله مع حملي الثقيل إلى إدلب، فتركته. لو سألتني كم كان مبلغ استيهاب نسخة ذلك المصحف؟ أقول لك: ستمائة ليرة سورية فقط لا غير، وفي جيبي ستة آلاف ليرة سورية، ولكن لكل أمر إذا ما تمَّ نقصان.