حوار مع الأديبة حنان عواد
تاريخ النشر : 2020-09-19
حوار مع الأديبة حنان عواد


حوار مجلة مسارب أدبية

مع الأديبة الفلسطينية د. حنان عواد المستشار الثقافي للرئيس الراحل ياسر عرفات

حاورها زياد محمد مبارك

عُرفت د. حنان عواد في الأوساط الثقافية العربية بسفيرة الانتفاضة وعاشقة الوطن؛ شاعرة وكاتبة ومناضلة كتبت لقضية فلسطين شعراً ونثراً وفكراً؛ عُرفت بمظهرها الذي تحرص على أن يكون دالاً على مواقفها الوطنية بتوشُّح الكوفية رمز النضال الفلسطيني. سطّرت في كتابها (ذاكرة الترف النرجسي) مسيرتها الإبداعية والنضالية داخل وخارج فلسطين ابتداءً من مدينتها ومسقط رأسها القدس. وُصفت في زيارة لها إلى  صنعاء بأنها تكتب بالدم عن الوطن، وتؤكد ذلك إذ سكبت في مذكراتها قائلة: (صار الطريق معبّداً بقطيرات دمنا وبأشواك المؤامرة).

وُلدت في مدينة القدس سنة 1951، وتقيم هناك. حصلت على دبلوم التربية من دار المعلمات في رام الله سنة 1971. ثم نالت بكالوريوس في الأدب العربي، وماجستير في العلوم الإنسانية من معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية في القدس سنة 1975 ثم 1977. وحصلت على دبلوم الدراسات العليا من جامعة الأزهر سنة 1976. وماجستير في الدراسات الإنسانية من جامعة (ماكجيل) بكندا. ثم نالت الدكتوراه من جامعة (ماكجيل). وبعد التخرج عادت الى أرض الوطن لتكون عضواً مؤسساً في جامعة القدس، ومحاضرة في جامعة بيرزيت.

من آثارها: (من دمي أكتب، مواقف سياسية)، (الفارس يزف الى الوطن، قصائد نثرية)، (حوار الأسلاك الشائكة)، (أخترت الخطر، شعر)، (صدى الحنين، شعر)، (قضايا عربية في أدب غادة السمان)، (في البدء أنت فلسطين - يوميات الحصار)، (أثر النكبة في أدب سميرة عزام)، (صورة المرأة في أدب غسان كنفاني)، (الأعمال الكاملة باللغة الانجليزية)، وغيرها مما نشرته باللغة الإنجليزية. ولها تحت الطبع: (المرأة رمز وقضية - دراسات نقدية)، (ذاكرة الترف النرجسي، مذكرات)، (فارس الليلك وعيون رابعة، شعر). وقد ترجم مما نشر لها إلى عدة لغات عالمية.

رافقت الرئيس الراحل ياسر عرفات، وشغلت موقع مدير عام لمكتبه، ومستشاراً ثقافياً له. شغلت مواقع كثيرة في العمل العام: عضو المجلس الوطني الفلسطيني. ورئيس العلاقات الدولية في اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين. ورئيس فرع فلسطين للرابطة الدولية للقلم. ورئيس فرع فلسطين لمنظمة المرأة العالمية  للسلام والحرية. والمستشار الثقافي لمحافظة القدس ووزارة الأعلام. ومؤسس اتحاد الكتاب الفلسطينيين في الأرض المحتلة. ومؤسس للعديد من فروع لفلسطين في المؤسسات الدولية الهامة.. بالإضافة للتدريس في جامعة القدس، وجامعة بيرزيت، وجامعة ماكجيل. وعضو مؤسس في جريدة (الشعب)، وعضو مؤسس في رابطة الصحفيين الفلسطينيين. وعضو المؤتمر القومي العربي. وعضو مؤسس في جامعة القدس، ورئيس الدائرة الثقافية. وعضو مجلس أمناء المجلس العربي في القدس، وعضو استشاري في مجلة المواكب.

التحقت بالثورة الفلسطينية مبكراً، ومثلت الرئيس الراحل ياسر عرفات في المحافل الدولية، والتقت عددا من رؤساء الدول والشخصيات الاعتبارية في العالم. وأسهمت بجولاتها حول العالم في حركة التضامن العالمي لمساندة الرئيس الراحل ياسر عرفات، وللوقوف مع الشعب الفلسطيني وحقه في قضيته الوطنية، وبرز دورها الداعم في فترة حصار الرئيس الراحل بشكل خاص حيث اعتمد عليها لإيصال صوته وبياناته وقضية شعبه إلى خارج حدود فلسطين المحتلة. فإلى حوارنا..

 

• القدس متقدة في وجدانكِ كثيراً، ينبئ حرفكِ عن رباط مخصوص بقداسة تحدِّثين عنها وأنتِ القائلة في مذكراتكِ (ذاكرة الترف النرجسي) أن فلسطين عروس حسناء ألقت ضفائرها على المتوسط. فحدثينا عن القدس.

حين تميط الروح رداءها الحريري، تشرق القدس بنبض القلب وأمواج الطواف، قبلة العشق الموشى بالذاكرة والذكريات، وتبدو عروساً في ثوبها الأبيض الذي يفيض نقاءً، وخطى التجلي في ساحاتها على إيقاع الوله المنسوج من العلاقة الإلهية التي ربطتني بها، والعلاقة الإنسانية والسياسية، وملامح طفولتي وشقاواتي وطوافي في إبداع الخلق، في رحلة العمر الجميل، بمراكب المعرفة والحنين.. على أوتار تماوج شجيرات الدفء في ربوع فلسطين، في توحد العشق الموشى بإشعاع النور، وخطى التجلي.. في تخزين الأشواق في طريق الأشواك، في وعي التجذر، في حلم الفردوس المعبود.

لقد احتضنت القدس طفولتي جنيناً، وطفلة استبشرت بعبير الحنان خطى التوجه في درب الوفاء لها، والولاء لأرضها في تألق القمر، وشابة في نقاءات النقاء في التداخل في ثنايا الوطن، وسيدة في رحلة القلم بنصها الوطني.

فكيف أصف ملامحها في، وكيف أرسم صورها في تجليات الفرح وفي العذاب، وفي أنهار الدم تسيل في دروب المقصلة، وفي خيوط الكوفية من مدينة النفي اليها... وفي قناديل الروح.

كان البدء طفولة تحلق بأجنحتها، في عيون ترنو إلى والديها بعبور السالك درجات الحب في استعارات المساء، تمضي زمنها المنفي في أسرة الحضور الموشى في دروب الرحلة القريبة البعيدة...

يتفجر قلمي في هالات خاصة، وأنا أحاول أن أرسم القدس في روحي من دمي، لأنقل صوراً عشتها وعاشت معي، في أزقتها وشوارعها، في مدارسها وملاعبها، في المسجد الاقصى وفي الكنائس، في مراكب الحجيج اليها، وضجيج المارة.. في طفولة بكر، وفي الشباب... في رحلة العلم والمعرفة وفي رحلة القلم... وفي تدرج الوعي في الجامعات التي انطلقت إليها من مدينتي... وفي نبض كلماتي على صفحات الصحف الملتزمة.. وفي اجتماعات وطنية في ربوعها.. ومسيرات ومظاهرات، وشهداء يخضبون الثرى في قدسية الموقف.. وأثير الضمير لسجناء الحرية وعبير صبرهم... والإنسان الصابر على أبوابها، يلثم أرضها، ويكتب نصها الأزلي.

وفي غيوم الحرب، وآفاق السلام.. في الانتفاضة المباركة، وتجربة الاعتقال... وفي لحظات عودة الفينيق.. في بناء الدولة ودك الحصون.. في لقاء القائد وفي الوداع....

هذا البهاء المضيء في مدينة السماء، على متن طائر الأشواق، في تجربة درامية ارتقت بها كلماتي عابرة إليها من كل المواقع والجهات. طافت بها بنصوص محكمة التحدي، ورسم الافق الوردي.. تسجل قصصاً كتبت بأقلام الروح ورفيف زهيرات الياسمين، لتنتظر السنون أبطالها عند تفتح البراعم، وعناق الأرض وموت المستحيل.

القلم يرسم أفقا كونياً للقدس.. بإشارات إلهية.

يا قدس أرضي والفؤاد موجعٌ

والقلب يهفو دائم الخفقان

رمز الخلود لأمة معطاءة

رمز العطاء على مدى الأزمان

يا قدس جرحك جرحنا ونشيدنا

فتسلحي بالصبر والسلوان

إنّا جعلنا بحرنا ورمالنا

ناراً على الأعداء والطغيان...

وفي تقديم لكتابي "من دمي أكتب" قلت:

"أقف على مشارف القدس، تمتد يدي إلى الثرى الخضيب بالعظمة والكبرياء، بهذه الباقة من زفرات الذات التي انطلقت من جوهر الوقائع والحدث، لتعانق الأرض التي ولدت العظماء".

وفي قصيدة أخرى:

يا قدس أرض النار هذا موطني

يجثو على صدر النوى أبنائي..

وتستلهم الروح ارادتها وكبرياءها، ويرتقي القلم ليرسم الملامح النضالية لها في رحلة الدم والحرية كما في هذا النص:

"دثريني يا ساحات الاقصى بنداءات الله أكبر الله أكبر..

دثريني أيتها الجموع المتجمعة في لقاء الله

دثريني،

وامسحي الحزن عن جبيني

وواري أرقي

وضيعي قلقي

واستحضري روحي

في فضاء الياسمين

إني أتوحد بك

إني أتوحد بك..

وفي مقطع آخر:

"يا انتفاضة الأقصى

يا كل تخزين الانتماء بالفكرة

وبالإرادة الكبرى"...

ولا زال القلم يتحرك في آفاقها، يرسم الجمال الأخاذ بها، ويؤرخ صمودها، في مصابيح التفرد في ساحات الوشم التاريخي، ومواجهة وقائع التكوين، ورسالة العهد والوعد.

وفي كتابي: "ذاكرة الترف النرجسي"، ترى صورة القدس في علاقتها الساحرة بي، في المراحل المختلفة، في فرحها وحزنها. لتتجلى في ديمومة الرؤيا، تسبقني الكلمات اليها أريجاً منثوراً في الزوايا الارتكازية فيها، نصاً أزلياً مترفعاً، يعكس جدلية مخزونة في زوايا العشق، وفي آفاق المعرفة، وفي تعريف الذات في مجمل الخطى  بنبض الحياة، وتدرجات سلالم الارتقاء.. لتظل فجر الروح المخلد الحضور.

ويحملني الحنين إلى شوق الذات في كينونتها، وفي افتتان النفس في فضاءاتها، بمخزون الانتماء والانحياز إلى ارتقاء الهوى العذري في عروش الذات اليها، لتظل خالدة الجمال، مرفعة.

وفي قصائدي ومنثوراتي اليومية، تعبر القدس عبر عبير الروح، وتتجلى في الأفق الإبداعي بنصوص مركبة الإيقاع في وله الروح لها وبها.

وفي الأبحاث والدراسات، كانت القدس مركزية الحضور...

فأي نص يكتب القدس في رسم التضحيات، وعبور المد الثوري، وعودة الفارس إليها، واختراق الراية الفلسطينية سماءها في رحلة التحرير؟!

 

• لنستدعي البدايات من الخطوة ذات الوقع الأول التي رسمت خطاً مستقيماً امتد إلى الآني الذي ما زالت فيه د. حنان بذات ملامح البدايات في المواقف والصوت الهادر: أول مقال لكِ بجريدة القدس، أوائل انخراطك بحركة المقاومة الفلسطينية، أول لقاء لكِ بالرئيس الراحل ياسر عرفات، وأول ابتعاث لكِ بتكليف شخصي منه.

حينما ألقي الظلال الدافئة على صور منقوشة في الذاكرة، تنفرج روحي وأعيش لحظات خارقة تمتد في نبض القلب وخطى معارك الحياة وتوهجات المد النضالي، وأعيش اللحظات وكأنها بدء بلهيب الشوق.

كانت الكلمة الملتزمة طريقي المتوج بالعلم والمعرفة، أخذت صياغتها ببراءة الرؤيا أولاً وببساطة المفاهيم، لأعبر فيما بعد بحر الثقافة والوعي وأشدو بحنين الروح والنص المقاتل أنشودة الحياة لفلسطين.

منذ الطفولة، وأنا أشعر بأن في داخلي أمواج تقفز فيّ وتتجاوز عمري... تربيت في بيت عالي الثقافة، فكل ما كنت أسمع من والدي والرجال حوله، يعيش في روحي ويبعث تساؤلاتي..

عشت أحداثاً سياسية فارقة في المد التاريخي الوطني، شكلت في روحي نص عروبتي ونص فلسطينيتي الذي لا يقبل الكسر.

تشدني الأغنية الافتتاحية لصوت العرب "أمجاد يا عرب أمجاد"، وأنا أتابع الانباء مع والدي... وروح القومية العربية التي أطلقها الزعيم جمال عبد الناصر..

تلقيتها وأنا في خدر أمي، وعاشت بي ولم تغادر حتى هذه اللحظات.. فكنت، ورغم صغر سني، أستمع إلى جميع خطب الرئيس جمال عبد الناصر ويأخذني الحماس بصوتي الطفولي، وأتابع بعض التحاليل مع والدي رغم أنني كنت حينها أقرا مجلة "سمير".

وتشدني أغنية "الله أكبر فوق كيد المعتدي" حينما كانت تبث كل بضع دقائق وتشعل بنا روح الحماس والثورة في مقاومة الغزاة، ونضال مصر في العدوان الثلاثي.

وتعصر روحي ثورة الجزائر ونضال الشعب الجزائري "وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر"، لتراني أرددها في المدرسة، حتى وأنا أسير بمفردي كانت تنطلق مني بصفاء الروح... وكذلك السودان في الموقف الوطني ومؤتمرات القمة وروح العروبة.

كل هذه الأحداث شكلت شخصيتي النضالية، وفتحت أمامي آفاق التجلي بحب الوطن، وتعلقي بالعالم العربي بصياغة المقالات التي حملت هذه الرؤيا.

أول مقال كتبته في جريدة القدس بعد أن أتممت شهادة الدراسة الثانوية، كان مقالاً سياسياً يصور الحالة التي وصلنا اليها في ظل الاحتلال وقسوة الظروف.. وحقيقة أنني لا أذكر عنوان المقال، ولكني أتذكر بعض السطور: "صحوت ويا ليتني لم أفعل، كنت في حلم عميق، أرسم خطى المستقبل، لأرى السواد يلف مدينتي"... إلى آخر المقال.. لم يكن المقال طويلاً ولكنه يحمل دلالات كثيرة.. تابعت الكتابة في الجريدة بتحليل كتب هامة كانت تصدر في ذلك الوقت، ومنها كتاب لأستاذي بالتوجيهية الأستاذ محمد أبو شلباية وكان بعنوان: "لا سلام بدون دولة فلسطينية". قرأت الكتاب بتمعن، وأغضبني النص ولم أوار غضبي بالتحليل.. تساءلت: "كيف يتم الحديث عن دولة فلسطينية، وأين فلسطين التاريخية؟!. وفندت جميع النقاط بجرأة سياسية وإبداعية أغضبت أستاذي..

وهكذا سرت في رحلة القلم، وقد اتصل بي السيد محمود بعيش رئيس تحرير "جريدة الشعب"، مصراً أن يفرد لي عموداً خاصاً يومياً.. ونشرت مقالاتي بعنوان "من دمي أكتب".. وبعد مدة امتدت إليها يد الرقيب المحتل فصادر مقالاتي، ثم طبعتها في كتاب حمل نفس العنوان.. وتابع الشعب الفلسطيني مقالاتي بكل اهتمام وكذلك قادتي في الثورة الفلسطينية.

من هذه التجارب التراكمية والتأسيسية لروح الفكرة الفلسطينية والنضال لأجلها، حينما انطلقت الثورة الفلسطينية، كنت على جاهزية سياسية ومعرفية... التحقت بالثورة بالتقية الاحترازية، وكثفت كلماتي لأجلها، لأن الارتباط بالثورة يعد جريمة إرهابية بنظر المحتل، تستدعي اعتقالاً وتعذيباً لسنوات طويلة.

وظلت مواقفي ومقالاتي بندقية مقاومة ضد الظلم، وكان الرئيس ياسر عرفات يأمر بتوزيعها ونشرها في مجلة "المجلس الوطني". وقد أبدى القائد "خليل الوزير، أبو جهاد" طيب الله ثراه، إعجابه الشديد بما أكتب، وأوصى رئاسة "فلسطين الثورة" بنشر مقالاتي. تابعت الكتابة بقلم حاد ملتزم.. وكذلك النشاط الثقافي والسياسي.. وكنا نرى قادة الثورة عبر الإعلام ومن الصعب جدا اللقاء بهم آنذاك.

أسسنا الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين في مدينة القدس، وصرنا على تواصل دائم مع السيد الرئيس ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية عبر الهاتف والفاكس آنذاك.. وتابعت القيادة نشاطي وكتاباتي، وكنت أحلم بساعة لقائي بقائد الثورة الفلسطينية.. كلفني الأخ أبو جهاد بعمل جولة في الخليج العربي لإبراز صوت منظمة التحرير، خاصة وقد قامت قوى أخرى بمحاولة نسب انتفاضة الشعب الفلسطيني لها، وقمت بهذا الدور بكل اهتمام.. كانت الانتفاضة صوت منظمة التحرير وصوت الشعب الفلسطيني.. وقد مثلت الأرض المحتلة في مهرجان "المربد" الذي كان ينظم كل عام في بغداد برعاية الرئيس صدام حسين طيب الله ثراه، وبعد انتهاء المهرجان تم ترتيب زيارتي للكويت ودول الخليج..

وفي الكويت التقيت فارس الأمة، واستقبلني بكل حفاوة.. قدمت برامج ثقافية متعددة غطاها الإعلام، وتجمع حولي الصحفيين من كل صوب.. إلى أن أزفت ساعة اللقاء..

كان اللقاء بأضواء الروح، واشتعال أحلام اللقاء، تعجز الكلمات عن وصفه.. استقبلني بحضور الأخ أبو الطيب قائد قوات أمن الرئاسة.. نظر إليّ ونظرت إليه، ثم خاطبته قائلة: "قالت رابعة العدوية وهي تناجي الذات الإلهية:

أحبك حبين

حب الهوى

وحباً لأنك أهل لذاك..

أما أنا فأحبك لثلاث: حب الوطن

وحب الهوى

وحباً لأنك أهل لذاك...

وقدمت له خارطة فلسطين الذهبية التي كانت على عنقي. اغرورقت عيناه، وامر بإحضار خاتم ماس ألبسني إياه.. وقال لي: "أنت الآن ستمثلينني في المهام الدولية". وأمر حينها بصرف تذاكر السفر والمهمات للتوجه إلى الأمم المتحدة.. رفضت استلام النقود قائلة له: "لا أريد مالاً، معي ما يكفي، أريد أن أناضل فقط".. فأجابني: "هذه ثورتك وهي مسؤولة عنك".

ثم سافرت معه إلى العراق وأماكن أخرى، ومثلته في أصعب الظروف وخاصة أيام الحصار.. وأسست لفلسطين فروعاً لمؤسسات دولية هامة.. وقمت برعايته ومتابعة رسالته بعد رحيله حتى الآن.

وفي كتابي "ذاكرة الترف النرجسي" تفاصيل علاقتي بالسيد الرئيس ومهامي ونشاطي.. وقطعت عهداً على نفسي حين ودعته في المقاطعة مغادراً إلى فرنسا للعلاج، بأن أحافظ عليه وعلى تعليماته وحضوره فينا. ولا زال حاضراً نصاً خالداً لا يغيب.

كتبت كتاب "يوميات الحصار.. في البدء أنت فلسطين" في حياته عام ٢٠٠٤ وتسلمه مني في احتفال خاص..

كما كتبت ملحمة شعرية بعنوان "من ملحمة الرحيل والعودة.. فارس الليلك يناجي رابعة".. بالإضافة إلى العديد من الأعمال الإبداعية التي تعكس بطولة الفارس والشعب الفلسطيني.

وبعد الرحيل كتبت نصاً مطولاً رثاء له بعنوان: "النص الجهوري.. ايقاع الفراق"..

ثم كتاب: "ذاكرة الترف النرجسي" الذي يروي التاريخ النضالي وحضور السيد الرئيس واشتعال روحه فينا، ورسمت عظمة التاريخ الفلسطيني بحضوره، وتمثيله بالمحافل الدولية ومهرجانات التضامن المشرفة التي قمت بها. ولا زال قلمي يفيض حباً وانتماء.

 

• مثلتِ فلسطين في جولات حول العالم تطبّعت بالأدبية والسياسية والوطنية والعروبية. سوف نقف معكِ في إحدى هذه الأسفار إلى الجزائر لتأسيس رابطة القلم الجزائري. حدثينا من ذاكرة تلك الأيام.

الحديث عن الرحلة إلى الجزائر، يطلق أضواءها الكاتب العبقري والصديق المميز الطيب صالح.

كانت لي زيارات عديدة للجزائر لتمثيل فلسطين... فقد تم دعوتي من قبل المرصد الوطني لحقوق الإنسان دعوة رسمية ودعوة شرف لاطلاع الجزائريين على تطورات القضية الفلسطينية. وقد تم تنظيم ندوة هامة في القصر الثقافي بحضور الشخصيات السياسية والأدبية وممثلي البعثات الدبلوماسية... وحينما أتحرك باتجاه بلد المليون شهيد والشعب المناضل، أسير بخطى خاصة وروح خاصة، وإطلالة بأمواج تتحرك في قلبي في ذاكرة العظماء.. كان ذلك عام ١٩٩٣، أي بعد إعلان أوسلو.. ويمكن تخيل ردات الفعل آنذاك وعبور الروح مأزق الممكن في ظلال المطلق التاريخي وهو فلسطين التاريخية، وابتداء بجزئية منها جعلت بلد الثائرين تتساءل، فكان لا بد من شرح الظروف وإبراز الحالة الفلسطينية حينها.. والكل يعرف أن هذا الحال قد أصابنا أيضاً، فحين جلست مع شاعرنا الكبير محمود درويش متسائلين عما نحن فيه وما كتبناه عن فلسطين التاريخية، أصابنا الصمت والوجوم ولم نكتب حينها ما يليق.. فقد خفت البريق وانحازت النفس إلى الثورة وإلى المقاومة والحق التاريخي.. وهذا أيضاً حصل مع المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد.. تحادثنا وكان غير مرتاح.. وآثرنا الصمت، وقد كتب فيما بعد "غزة.. أريحا" بنبض غاضب.

وفي المحاضرة في القصر الثقافي قدمت ما يليق من نص مبدع وأجبت على عشرات الأسئلة التشكيكية.. ولاقت المحاضرة الإعجاب من الحضور.. شكرني الأخ العزيز عبد الرازق بارة بكلمة هامة، وهو رئيس المرصد الوطني لحقوق الإنسان.. تبعت كلمته كلمة سفير دولة فلسطين في الجزائر الأخ منذر الدجاني.. وكان اللقاء حميمياً.. وعلى إثرها قدم لي الأخ عبد الرازق بارة دعوة أخرى لأكون ضيف الشرف لافتتاح المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان.

أما زيارتي الخاصة برابطة القلم فكانت بوميض الروح.

منذ أسست فرع فلسطين للرابطة الدولية للقلم، أخذت على عاتقي وبتكليف رسمي من الرابطة الدولية لتأسيس فروع من الدول العربية، وذلك لتقوية الحضور العربي في هذه الرابطة الدولية والتي تأسست عام ١٩٢٠.

وحيث أن إبراز المد القومي رسالة، وتثبيت اللغة العربية رسالة أخرى، بدأت بتأسيس فروع في الدول العربية المقاومة بدءاً باليمن، ثم الجزائر، وكان هنالك فرع للكتاب المصريين.. وبمعرفتي المعمقة بالرؤيا الدولية في اختيار ممثلي الفروع من الذين يقبلون ملامح الرؤيا الغربية أكثر، لذا صممت أن يكون حضور الجزائر المقاومة لتشكل الجزائر وفلسطين صوت التحدي. كان يحضر المؤتمر عن الجزائر في الكونجرس الدولي الأخ محمد ميقاني.. ولذا رأت رئاسة الرابطة تفعيل الفرع.. وقد تقرر في اجتماعات الكونجرس الدولي، أن يتم تفعيل رابطة القلم الجزائري بعقد لقاء في الجزائر بحضوري وحضور رئيس الرابطة.. وكنت قد مهدت للاجتماع قبل الموعد حيث زرت الجزائر واجتمعت مع الشاعر الميهوبي وآخرين. وكان ضيف الشرف الأديب الطيب صالح الذي افتتح المؤتمر بعذوبة كلماته وتقديره الخاص لحضوري من فلسطين من أجل هذا الهدف.. عقد الاجتماع في القصر الثقافي أيضاً، وكان رئيس اتحاد كتاب الجزائر الشاعر المعروف الصديق عز الدين الميهوبي حاضراً، وعدد من الشخصيات الأدبية والسياسية ولفيف من كتاب الجزائر.

قدم رئيس الرابطة كلمة هامة، تبعها كلمتي وأهمية حضور الجزائر في المشهد العالمي، ثم تحدث الميهوبي مرحباً بالوفود..

افتتح الجلسات بأناقة روح وأخوة وبفكر منمق الأديب الطيب صالح، مؤكداً على أهمية الهوية العربية في المحافل الدولية، مثنياً على كلمتي ورؤيتي.. وافتتح باب النقاش الهادف والذي أخذ وقتاً طويلاً.

وقد صادف في نفس الموعد، افتتاح مهرجان الشعر الدولي والذي تعقده رابطة القلم الفلسطيني في فلسطين في اليوم التالي برعاية الرئيس ياسر عرفات، وكان حضوري ملزماً لافتتاح المؤتمر في مدينة القدس بحضور ممثل السيد الرئيس.

لذلك حرصت في الجزائر أن أقدم ما أستطيع قبل المغادرة.. ولما انتهى الحوار، اقتربت من الطيب هامسة في أذنه بأن عليّ أن أذهب وأودع المؤتمر بكلمة قصيرة.. نظر إليّ وكأنه صدم، وقال لي: "لماذا تتركينا بهذه السرعة؟".. أوقف المؤتمر دقائق، صعدت المنصة وودعت الاصدقاء، ثم عدت إلى المنصة لوداعه وعناقه.. كانت لحظات تجيش بروح الأخوة والصداقة، ولا أدري كيف هطلت دموعي بحرقة وهو أيضاً، وكان وداعاً حميمياً منقوشاً بعظمة الاحترام ولوعة الفراق..

ولم أكن أدري بأن هذا هو اللقاء الأخير مع مبدع بروح السودان أحببته كما أحب السودان، وحينما زرتها بغيابه كان لها وقع آخر...

زرت السودان مرتين بألق الروح، والتقيت بالفعاليات الأدبية والإعلامية.. أحببت أرضها وسماءها وحتى حرها اللاهب، والأهم إنسانها المثقف الذي تشرفت باللقاء به.. فقد التقيت بكوادر الثقافة والإعلام والسياسة هناك، وكانوا صورة حضارية مشعة للسودان.

ومهما اشتدت المؤامرات، ستبقى السودان الصورة الرائعة التي رسمتها في ذهني من عهد الطفولة إلى اكتمال الرؤيا في الاطلاع على ثقافتها والتعرف على رموزها، وزيارتها بحنين الشوق والاكبار.

 

• ألقيتِ قصيدتكِ (وُلدتُ فدائي) في صنعاء التي كنتِ حاضرةً فيها بدعوةٍ من اتحاد الكتاب والأدباء اليمنيين. فوصفكِ أحد الكتاب بأنكِ تكتبين بالدم من أعماقكِ الملتهبة كما خطوط النار في الوطن المحتل. ووصفكِ آخر بالزهرة الفلسطينية التي نبتت في ساحة الدماء. قلتِ في طليعة أبياتها:

الأرض تهتف للرفاق ندائي

فقفوا معي لتحيةِ الشهداءِ

سيروا على أرض النضال ورددوا

إنِّي لأرضي قد وُلدت "فدائي".

إن كتبنا أدب المقاومة كعنوان رئيس ماذا يمكن أن نكتب في المساحة تحته؟ الكلمة والرصاصة السجال القديم المتجدّد نجده محتشداً في نصٍّ وبيان لأنه أدب مقاوم لعنف، لإرهاب واحتلال. فهل يبحث الأدب المقاوِم لاستواء الكفتين في أفقٍ واحد؟

أدب المقاومة عنوان ساحر الدلالات متفجر بالنصوص الملتزمة للوطن وللإنسانية.. وقد أصبح مدرسة هامة يحتذى بها... لقد قدمت أكثر من بحث في أدب المقاومة منها ما نشر باللغتين الإنجليزية والعربية، نشر في دوريات هامة، وهي (الفكرة الفلسطينية بين المحكم والمتشابه - أدب المقاومة).. وكذلك (أدب المقاومة - محكم الفكرة الفلسطينية  في إطلالة الشعراء على مدينة القدس).. و(صورة المرأة في الأدب الفلسطيني المقاوم). وهي تدرس بشكل معمق ماهية هذا الأدب وملامحه الإبداعية والموضوعية.

أتوقف الآن أمام وقائع التداخلات السياسية المتعددة التي عاشها الإنسان الفلسطيني بشكل عام، والكاتب الفلسطيني بشكل خاص، لألقي اضاءة نوعية على الأدب الفلسطيني المقاوم، حينما تتصدر الكلمات الملتزمة وقائع المقاومة.

فمنذ توارد النكبات والاحتلال، وفقدان الارض، نبض القلم الفلسطيني بصرخاته الموجهة، والتي تناطح قوى الظلم، وتتصدى لكل شكل من أشكال الاحتلال، وجاء الشعر، ليشكل الرسالة الموجزة أو المعجزة، أو البيان العسكري ذا الايقاع الخاص في المعركة، ليكون ترسيماً وترسيخاً، بأن الكلمة بدء لهدف أسمى، واستراتيجية سياسية، إنسانية وثقافية، ينقل أبعادها الأديب بكل أدواته الإبداعية، مستنداً على أن فلسطين التاريخية محكم الفكرة الفلسطينية، التي لا يشوبها الشك، مهما امتدت يد الاحتلال إليها، لأن التاريخ الفلسطيني متجذر بها، بحلول الروح فيها، ولأجلها، في سالك إشراق الحب الأبدي السرمدي.

وهذه التشكلات الفكرية المستنيرة، تجلت في مفهوم "أدب المقاومة، أدب الثورة"، كما تحدث عنه غسان كنفاني، رجاء النقاش، إحسان عباس، حسين مروة، غالي شكري، محمد دكروب وآخرون من الكتاب والمفكرين الفلسطينيين والعرب وكتاب العالم.

وقد أبدع الادب الفلسطيني الملتزم، ليصبح مدرسة إبداعية، فكرية، نضالية يحتذى بها. وامتدت المقاومة في حضورها ضمن تاريخية الحدث السياسي، واعتبارية ذاكرة الفكرة المقدسة التي أطلقت روح الأقلام الفلسطينية، لتكون قناديل مضيئة، للذود عن الفكرة وحمايتها.

وإذا كانت استراتيجية إنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة، تسير ضمن سياسة الممكن، وممكن الممكن، فان الفكرة بقيت مطلقة، عظيمة، مترامية الأطراف والفضاءات.

كما قال الشاعر محمود دروش: "ما أعظم الفكرة وما أصغر الدولة". والأديب هو حامل الفكرة ومبدئها الأول، والمدافع عنها.

وقد اتسعت رؤيا الأدباء بفعل انتماءاتهم، وبلغة الإبداع، لتحمل فيض التعبير عن الأرض، وشكلت عباراتها وتعابيرها الخاصة، الوجود الحتمي والفني، كما نرى في إبداعات الرعيل الأول من الشعراء، عبد الكريم الكرمي، هارون هاشم رشيد، إبراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود، فدوى طوقان، حنا أبو حنا، توفيق زياد، يوسف الخطيب وغيرهم.. وتجلت المقاومة تعبيراً ونصاً وموضوعاً في أعمال سميح القاسم حينما قال:

يا عدو الشمس لكن لن اساوم

ولآخر نبض في عروقي

سأقاوم

سأقاوم

وأقاوم.

وقد ارتقى محمود بالفكر المقاوم، وأطلق عنانه من لغة الشعار، ليحمل النص في آفاق المعرفة الجدلية الإنسانية، والغوص في الفكرة وتحميلها الصور الترميزية المبدعة التي تكاد في معظم الاحيان تكون نصاً معجزاً.

وحينما تطل فلسطين في حروف القصائد والفنون الأدبية الأخرى، وفي إيقاع النصوص، تطوف أمواج في الروح لتعتلي ناصية الثورة، بأبعادها المختلفة، وتلتف حول ترانيم القلب، لتبقى الأعز.

وإطلالة على العشق الأبدي، وتواصلات التاريخ، وهبوب العواصف، ندرك الماهية المرسومة لها في نص الكبرياء الوطني، المنظوم بالوفاء، وفي عمق القلب، واشعاعات ساحرة، تلقي بضوئها على عاشقيها في رحلة السجود، وفي ألق الصمود، وفي عتق الشوق المخزون بها، ولها، في رحلة الحرية والمجد.

وحينما تتصفح دواوين شعراء المقاومة، يبهرك هذا التكثيف الرمزي والواقعي في رحلة التنصيص، وتخصيص الإبداع ليقارب الصورة، ويقترب بها، ويتقرب اليها، معشوقة أبدية، لا يواريها الغياب، ولا يمحو حروفها العذاب.

هي معركة النص المبدع والموقف السياسي.. وفي أدب المقاومة تتداخل الوقائع السياسية، وتتماهى في التعبير عن روح الانسان والوطن ومشتملاته، أرضه، أشجاره، سمائه وقمره المطل وإنسانه المقاتل الذي يحمل أوصاف البطولة والرجولة، وهو محاط بهالات نورانية كما وصفه الشهيد غسان كنفاني. يدور في الآفاق وفي المدن والقرى باحثاً عن العروس "البندقية" الملازمة له في ترحاله ونضاله.

لا يمكن فصل الأدب عن السياسة، ولكن الفوارق تتجلى في الكيفية التي يعبر فيها المبدع عن الطروحات السياسية والمفاهيم الثائرة. ويرتقي الفن المقاوم حينما يسمو على روح الشعار لتتداخل الرؤيا بتصوير فني مبهر، والذي امتاز به محمود درويش... بدءاً من أدب المعركة والهوية في "سجل أنا عربي" وانتهاء بالأعمال الكاملة التي حققت التصوير الإعجازي، والبيان المشع والبلاغة غير العادية، حتى وأنا أقرأه ثانية وثالثة أغوص في أعمال النص، لألتقي بصور مبدعة غير مكررة تحسب له، تكتشفها في كل قراءة وفي كل إطلالة روحية وفكرية، هذا بالإضافة إلى روح الإنسان في أدب المقاومة والتي تفوقت في صورها لتصل مدى بعيداً في روح الانسان واحترام القيم الإنسانية العليا..

وكما الشعر، كانت القصة والرواية والسير والفنون الأخرى التي ارتقت بنصوصها لتحمل تاريخ معاناة الشعب الفلسطيني وتاريخه..

ومن أجل قيمة الكلمة المقاومة، امتدت يد الغاصب لرموز الكلمة، لتغتال الكاتب المناضل المبدع غسان كنفاني، وكذلك ماجد أبو شرار، كمال ناصر، كمال عدوان، يوسف النجار وآخرون..

ولأن قادة الثورة كانوا المحرك للمقاومة، والمشجعين لإبداع الكلمة، انقض الاحتلال عليهم.. وكذلك كتاب الأرض المحتلة لم يسلموا من يد المحتل، ولا أبالغ حين أقول: "ما من كاتب ملتزم إلا وواجه الاعتقال والإقامات الجبرية ومنع السفر.. ولا زلنا حتى الآن وكما قال الشاعر الكبير نزار قباني: "إن أدب المقاومة هو أشرف ظاهرة في العصر الحديث".

والحديث عن أدب المقاومة والنماذج التي تمثله لا يتسع له المجال هنا، وما قدمته ملخصاً تقديمياً فأدب المقاومة يحتاج إلى تفصيل الرحلة الكفاحية الهامة.

 

• قمتِ بأسفار كثيرة ومرهقة في مرحلة صعبة كُبلت فيها القيادة الفلسطينية ممثلة بشخص الرئيس الراحل ياسر عرفات بحصار جائر، فكنت نائبة عنه لتخطِّي الحصار، ومبعوثة منه برسائل وبيانات إلى رؤساء ومؤتمرات في مختلف دول العالم. حِّدثينا عن تلك الأسفار وما حققته تلكم النداءات عبر القارات.

العلاقة مع العالم في ظل الثورة الفلسطينية وفي ظل الحصار أخذت مناحي عديدة وآفاق ممتدة، عبرنا بها بفلسطين الأرض والإنسان، قدمنا القضية بثوبها المخاط بالتضحيات.. قطعنا المسافات البعيدة والقريبة حاملين روح الوطن وتجلياته.

فمنذ التحاقي بالثورة الفلسطينية مثلت فلسطين على الصعيد الدولي في محاور عديدة، سياسية، أدبية، اجتماعية، ورسمية في اللقاء مع الرؤساء ورجالات الدول... بعضها كان مع السيد الرئيس، كاللقاء مع تشاوشيسكو في رومانيا، ومع نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، ومع صدام حسين في العراق، ومع علي عبد الله صالح في اليمن، ومواقع أخرى عديدة.

وهنالك الأسفار التمثيلية التي قمت بتمثيل فلسطين بها على أكثر من صعيد، طفت العالم رافعة صوت فلسطين حتى في الأماكن النائية.

والأسفار في تمثيل فلسطين من خلال المنظمات التي أرأسها، وهي رابطة القلم الفلسطينية ومنظمة المرأة العالمية للسلام والحرية، وهذه فروع رسمية لفلسطين، كل منظمة تعقد اجتماعات عديدة في أماكن مختلفة من العالم...

والأسفار التكريمية في نيل الجوائز التقديرية من أماكن عديدة، حيث كنت ضيف شرف للعديد من المؤتمرات الدولية الهامة، وقد حصلت على عدة جوائز أدبية ودكتوراه فخرية وميداليات تقديرية من عدة جامعات..

ثم السفر إلى إسبانيا عدة مرات للإعداد للدكتوراه الفخرية للسيد الرئيس..

مثلت فلسطين بما يزيد عن سبعمائة مؤتمر دولي وعربي.. وازدادت كثافة التمثيل خلال الحصار.. فقد أوفدني الرئيس الراحل -طيب الله ثراه- لعدة أماكن في العالم، منها جمهورية مالي لافتتاح النصب التذكاري لمدينة القدس واللقاء مع الرئيس عمر كوناري وتسليمه رسالة من السيد الرئيس، وكذلك إلى البرتغال للمشاركة في مهرجان أفانتي التضامني مع فلسطين واللقاء مع الأحزاب اليسارية ورؤسائها، وإلى كوبا للقاء مع كاسترو، وأماكن متعددة في أمريكا اللاتينية...

وقد اشتدت كثافة العمل أثناء الحصار، وشعرت أن عليّ تكثيف الجهود في محاولات رفع الحصار والاتصال بالعالم رسمياً وشعبياً..

إضافة إلى ما كلفني به الرئيس، رتبت عدداً من اللقاءات الدولية التضامنية مع السيد الرئيس، ومنها اللقاء التضامني الذي نظمته في استراليا.. حضرت إلى الرئيس وأعلمته بخطة سفري إلى استراليا، نظر إليّ بدهشة قائلاً: "إنها بعيدة عليك والظرف صعب"، فأجبته: "لا بد". وسافرت إلى استراليا وعقدت مهرجان التضامن الحاشد، ثم صممت على العودة خلال يومين، فاستهجن سفير فلسطين ذلك قائلاً: "تأتين إلى استراليا ليومين فقط بعد قطع كل المسافات". أجبته: "لا وقت للبقاء والرئيس محاصر".

غادرت استراليا وعدت إلى المقاطعة للقاء بالرئيس، كان يوم عيد الأضحى، صدم الرئيس لحضوري بهذه السرعة، نادى رجالاته وشرح لهم الخطوة بخيلاء.

ثم تابعت عقد مهرجانات التضامن بالتعاون مع الشخصيات الأدبية بما فيها الكتاب الحاصلين على جائزة نوبل.

 

• ذاكرة الترف النرجسي، عنوان رائق لمذكرات شاعرة وكاتبة وسياسية مناضلة. من يتصفح أوراقها يجد أنها ليست توثيقاً لحياة فقط. وإنما فيها مساحة لتأملات فلسفية لكِ في ذاتكِ وفي المحيط بها. ما الذي تمثله لكِ تلك الذاكرة وموضوعات أدراجها من رسائل.

الذاكرة تحفل بمساحات امتداد حياتية، سياسية، ثقافية وإنسانية ومحاولة استحضار أحداثها المنقوشة في الذهن وفي الروح، في محاولة تجريبية في بعث الرؤيا من جديد، والإطلالة على الذات بآفاقها المتعددة، ولا أراها تجربة سهلة.

لقد اطلعت على العديد من كتب السيرة الذاتية، فوجدت أن كل أديب يأخذ منحى خاصاً سواء كان سياسياً، أو إبداعياً أو اجتماعياً.. وشعرت بجمالية البوح في حضور روح الحدث...

ولما بدأت بالكتابة، شعرت أنني أعبر عوالم شائكة ومتداخلة الحضور، وأخذ قلمي على وقع الروح والضمير، يمتد بإسهاب، حتى أنني في بعض الاحيان لم استطع إيقافه ولا مجاراته. كان يسبقني بخطاه ويشدني إلى السير معه بنبض كل دقيقة.. فقد عبر بي إلى الطفولة والشباب والدراسة والوطن والثقافة والجوانب النضالية والإنسانية التي طوقت روحي وطافت بها في آفاق متعددة الألوان والصور... ورغم كثافتها، فاجأتني بالحضور المكثف، حينما كان ذهني ينقل تفاصيل البوح، وكأنه يتسع كالبحر وإطلالة الفجر.. فسرت معه محملة بأمانة التصوير ونقل الحدث بواقعيته، مضيفة إليه الأبعاد الفنية التي تليق بالنصوص، بدءاً من الإهداء إلى أمداء فلسطين، والسير مع فلسطين بإعجازها البدء التي حملتها معي في نبضي الدائم.. وفي رؤيا الطواف في زمن لم يأت بعد..

وحينما ابتدأت التساؤلات في الكلمة الأولى وعلاقتها بمفهوم ورؤيا الشاعر، اتبعتها بالكلمة الأخيرة التي ترسم تخيل الميلاد والتوق إلى الحياة، لتتبعها تساؤلات أخرى تستدعي الجواب والذي يظهر في الفصول التي تلي..

والذاكرة.. والترف النرجسي، هو رؤيا الذات المعززة المدللة في سياقات متعددة ومختلفة الحضور، بدءاً بالميلاد والعلاقة بالأهل، ثم توهج روح المعرفة التدرجي في أزمانه المتعددة، في المدرسة، الجامعة، الثورة ونص الحياة الشخصي والإبداعي بحضور أشخاص كثيرين احترمتهم، وأحداث عديدة سرت بها، ومواقف كثيرة كنت بطلتها محملة برسائل العشق الصوفي للوطن والانسان.

تختمر في صفحات الذاكرة مواقف وبطولات هامة، ورسائل وفاء وانتماء، وترسيم حقيقي ومبدع لشخصيات لن ينساها التاريخ ولن أنساها..

وكان محور الذاكرة هو ألق الروح في رحلة الطواف في عمق حب الأنبياء الذي ربطني بالرئيس ياسر عرفات وقيادتي الفلسطينية التي أعتز بها، وأشعر كلما أعدت قراءتها ثانية، بالقدسية والسمو الملائكي، في معنى التضحية والنضال والحب المتسامي.. ومعنى أن تكون محور ثقة القيادة، ومعنى أن تكون كاتباً في ألق الثورة، وأن تكون كلماتك داعمة لثورتك، واقفة بقوة في وجه الظلم...

معنى أن تكون كلماتك سيفاً مسلولاً وبندقية مجهزة الزناد، ومعنى أن تطل على الكلمة الملتزمة لتكون الزاد للروح الثائرة، ومعنى أن تحلق في آفاق العالم حاملاً رسالة الكبرياء.. كل هذا بالصور التعبيرية والفنية التي ترسم حضورها الزمنى بعتق الثورة والإنسانية والشخوص التي التقيتها في كل مرحلة.. وتنير سطورها ذاكرة العظام الرئيس ياسر عرفات، القائد أبو جهاد وعدد غير قليل من رجالات الثورة الفلسطينية الذين أعتز بهم..

واللقاء بالشخصيات الإبداعية والسياسية لا يمكن حصره، ولكنني بقدر ما أستطيع حاولت إعطاء الكل حقه في الرواية الواقعية.

قصص كثيرة تراها في السيرة، قناديل روحية تنطلق من نافذة العمر مشكاة في الأعلى في النص، وأحداث معذبة، خاصة أيام الحصار، والكتابة عنها كان بمداد الروح والجرح المفتوح، لنعبر تاريخنا النضالي بوعي وجداني انبثاقي من الفكرة الخالدة التي لا تغيب -فلسطين والإنسان.

وكذلك الإبحار في المواقع المتعددة، في الدول العربية ودول العالم، وفي كل موقع ذكرى وأشخاص أعتز بهم، وكلمات تطوف إليهم في زمن فلسطين إلى أبعد القارات، وعودة إلى المسافات لتمتد في آفاق يصعب حصرها.. تحديات كبرى وقرارات.. جوائز وتكريمات.. جزر بعيدة... وبحار، جبال وأنهار وغابات.. مدن ينتشر منها العشق والانتماء والوفاء.. من القدس سيدة الحضور، إلى القاهرة، إلى بغداد، إلى الكويت، إلى الجزائر، إلى المغرب العربي، إلى اليمن، إلى تونس، إلى عمان، إلى البحرين، إلى سوريا وإلى لبنان، إلى السودان في طريق العبور من الأردن.. وإلى جميع أنحاء العالم.

مهرجانات ضخمة تشعل الثورة، ولقاءات فكرية ترسخ في الوجدان، وعذوبة الألحان وصفاء الروح في رحلة التأمل.

قصص وذكريات، إطلالات نضالية وابداعية وحضور إنساني، ولحن بعبير الروح، ورؤى فلسفية ولدتها التجربة النظرية والفعلية، والرؤيا التساؤلية في معنى الكون والوجود، وتعريف الذات، وفلسفة الحضور، وكيف تكون الإجابات في الرحلة، وتحديد الكينونة الشخصية وانتشارها الزمني والعلاقة الديناميكية في المواقع والأحداث، ودراسة وقائع النفس وتجلياتها ليكون السؤال من أنا؟ وكيف جئت إلى هناك؟

لتلقى الجواب تفصيلياً في الخاتمة بعنوان "خاتمة البدء"، والتي تحمل الآفاق الفلسفية في حوار الذات، والاعتراف بعذوبة النرجس الذي كان شجرة باسقة لتحيا في سفر تكوين فلسطين.

هذا شيء مما حمل في سطوره كتابي "ذاكرة الترف النرجسي"، وهو إبداع السماء في موهبة العاشق المبدع، وهو يصوغ كلماته بشذور الشوق والاكتحال بجمال فلسطين، والجمال الأخاذ لروح الإنسان الثائر والمناضل والإنسان المبدع في اشتعال الروح في الخلق الإلهي للكلمة المبدعة التي تحمل دلالاتها في روح المتلقي لترتسم أمامه قدسية الروح العاشقة والثائرة في مراكب العبور آفاق الصعب، وفي الدفاع عن الهوية، نصاً لا يقبل التأويل...

لذا ترى هذا التداخل التكاملي في النصوص، ما بين رحلة واقعية، إلى سفر تأملي، وإلى نهج فلسفي، وإلى روح تحدي.. مرسومة بنصوص شعرية ونثرية بلغة الترميز ولغة المباشرة أحياناً..

تمثل هذه الذاكرة لي وهج الروح في نبض الحياة، وتاريخ إنساني ربطني بالكون وبنقاء الفكرة وقادة الثورة.. ليكون سجلاً خالداً خلود الروح، يلقي بمعلومات معرفية هامة، ودلالات اعتبارية من وجه تاريخنا الناصع، ورجالاتنا الفدائيين والمبدعين الذين نفتخر بهم ونسير على هديهم..

وهنالك أهمية خاصة لهذا الكتاب وما به من معلومات، تكمن في وجوب التواتر المعرفي للأجيال القادمة للاطلاع على تاريخية الثورة ورموزها.. وصورة النضال في الرحلة الكبرى، والتضحيات التي قام بها شعبنا وقيادته، وهي تستحق التسطير.

وفي الختام: ذاكرة الترف النرجسي هو أنا في الرحلة التي ابتدأت بصرخة ميلاد، ورحلة "السالك" في فضاءات الصعود إلى المطلق من خلال ترانيم الممكن.

وصياغة لحظات الحياة في قصائد عشق منظومة الايقاع.

قدسية آتية من غيوم الإسراء، مدثرة بوطن المنافي بدم الولاء المرصع بالنجوم... تسافر ثانية لحظاتها إليها، وتستعيد خلقها المتجدد، ونبضها المبعوث من جديد، ببحر الحياة الوليد في ربيع الأقحوان وخيوط الكوفية والقسم.

 

• انحسرت قضية فلسطين من الساحة الثقافية والسياسية معاً بعد أيامٍ كانت فيها سوح الأدباء والساسة منابر تساير التيارات التي كانت تتخذ التوجه العروبي أيدولوجيا لها. وبعدها توافقت خطوط المواجهة الداعمة لقضية فلسطين على مخططات سلام والتفتت الأنظار لاحقاً إلى مواطِن في الجسد العربي أُثخنت أيضاً؛ بمعنى أن القضية صارت بجانبها قضايا وقضايا. ومع موجة الحداثة الثقافية صار من العادي أن نسمع من يصف موضوعة فلسطين بأنها ثيمة نصيَّة بعد أن كانت مضموناً أدبياً يعبر عن توجهٍ أممي عروبي شامل. ما هو تقديركِ لهذه التحوّلات؟

منذ انطلقت الثورة الفلسطينية وتأسست منظمة التحرير الفلسطينية لتكون الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ارتقى الفكر الثوري وجذب الشعوب العربية المناضلة التي ساندت ثورتنا، بدءاً بالكويت التي انطلقت الثورة منها وساندت الثورة على مدى الأزمان.. وباقي الدول العربية. وكان شعارنا "الثورة الفلسطينية فلسطينية الوجه، عربية العمق، عالمية الأبعاد" وكانت مواقف الشعوب العربية والدول العربية محكماً لا يصيبها الشك نصاً وفعلاً..

الجزائر رددت وتردد "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، واستمر حتى هذه اللحظات، ولبنان وتونس احتضنت الثورة الفلسطينية، والعراق والسودان التي أعلنت لاءاتها الثلاث التي لا زال العدو الصهيوني يرددها، وشكلت في وجدانه قلقاً معذباً.. هذا إلى الاجتماعات الكثيرة التي كانت السودان العربية العروبية تنظمها بروح الانتماء والموقف الصلب، وتحتضن أبناء فلسطين، ويلتقي ويرتقي أدباء السودان بها، ومعها.

وحلقت الثورة في آفاق العالم بفعل دعم الدول العربية ومواقفهم في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وجلسات مجالس حقوق الانسان.

وأهم المؤتمرات المنصوصة التاريخ عقدت في الدول العربية.. وكلما تعرضت فلسطين لأية محنة، كانت الشعوب العربية تهب هبة رجل واحد.

وكانت الكلمة الملتزمة هي الطريق الأعلى التي تغني الوجدان العربي، وانطلق "أدب المقاومة" بنصوصه التثويرية ليكون أشرف ظاهرة كما قال الشاعر نزار قباني.

وسايرت الكلمة الملتزمة طريق النضال الفلسطيني ووقع خطى المعارك، وجاءت النصوص العربية المقاومة والدراسات الهامة حالة تعبوية، حتى أن الشاعر الكبير محمود درويش قال: "ارحمونا من هذا الحب القاسي"، والذي يعني به أنه، ونظراً لحبهم لفلسطين، شجعوا كثيراً من النصوص والتي كانت تخلو من المستوى الإبداعي، ولكنها تذكر المقاومة وفلسطين لتكون مزكاة...

وحينما أطلقت اتفاقية السلام تململت الشعوب العربية والتي آمنت مع الفلسطينيين، بفلسطين التاريخية، ولكن، ونظراً لاعتبارية احترامها لفلسطين وللرئيس الشهيد ياسر عرفات، أعلنت: "إننا نقف مع ما يقرره الفلسطينيون"..

واستمر الدعم ولم يتوقف، إلى أن كثف الاستعمار مؤامراته في محاولة تحويل العالم العربي وإدخاله في سياسة السلام لحماية دولة الاحتلال. فكانت ثورات الربيع العربي الكارثي، المرسومة بريشة الولايات المتحدة، تحت شعار الحرية والديمقراطية، وأخرج للعلن شخصيات قيادية مشبوهة، وتشكلت قوى عسكرية تدميرية، كانت نتائجها تدمير وتقسيم العراق، ومحاولة تقسيم سوريا وليبيا ولا زال المخطط التدميري يسير بقوة برعاية الرئيس ترامب الذي أراد تدمير العروبة والقضية الفلسطينية بإهداء مدينة القدس لتكون هدية للمحتل، وإهداء هضبة الجولان أيضاً، وغيرها من محاولات تغييب النص العروبي والقومي.

لذا انشغلت الدول العربية بمشاكلها القاسية في رحلة ألم، وكانت الأولوية للظرف الخاص، خاصة بعد رحلات اللجوء والتشرد.. ولكن رغم ذلك، لم نعدم صوتها، وإن كان ليس بذات القوة.. هذا من جانب، فحينما كانت ثورتنا أفقاً نضالياً شامخاً وشاملاً، كان الجميع معنا، وحينما دخلنا في اتفاق السلام والذي لم يحقق السلام، بل زاد سرقة الأرض وسياسة التمييز العنصري والقتل والتدمير.. خف الصوت المساند..

وبقيت الضغوط العربية على القيادة الفلسطينية بتقديم خطوات أخرى من أجل السلام..

وكما قام الأدباء بعد هزيمة السابع والستين في كتابات جلد الذات والوجوم، والروح التي عمها السواد، سار الوضع بذات الاتجاه من نقد ونقد الذات.

تكاثفت المؤامرة على شعبنا، وازدادت التضحيات وانفجر الألم.. ثم حدث الانقسام الذي حمل القضية الفلسطينية إلى ساحات الظلام.

ومن أجل كل هذا، جاءت الكلمات العربية نصاً كما صورته، وليس كما كانت سابق، نصاً وفكراً وارادة تحرير.. ولكن لا زال هنالك أقلام حرة وملتزمة تمنح من روح الإبداع لفلسطين.

إن روح الأدباء وشعوبنا لم تنس فلسطين، بل أنها تعيش في العمق، ولكنها تحتاج إلى موقف تثويري وطني ليشعل نارها من جديد.. ولا أعتقد أنها تتوقف رغم هرولة الحكام.

 

• من اللافت إلى قصيدة (في القدس) لشاعر القدس والزيتون تميم البرغوثي أنه قد كتبها بعد أن ردّته قوات الاحتلال عن زيارة مدينة القدس فرجع إلى رام الله متذيّلاً بالحسرة على عدم رؤيتها؛ فكانت القصيدة وليدة الموقف، يصف القدس كأنه فيها. هل عبَّرت الصور الشعرية المتخيّلة في القصيدة عن القدس التي نشأتِ وتعلّقتِ به؟

لم يمنع الشاعر الشاب تميم البرغوثي من دخول القدس فقط، وإنما منع من عبورها الكتاب جميعاً، فبعد أن كانت القدس مركزية الثورة كما اسلفت سابقاً، صارت حواجزها سداً منيعاً أمام عبور أهلها وعبور شعرائها وأدبائها، وحتى الذين يقدمون الولاء لله بزيارة المسجد الأقصى. وقد استطاع الشاعر تميم وصفها بتفاصيلها بأسلوب مبدع.

ولذا تألقت القدس في روح الشعراء وامتد ألقها من عمق المشاعر، بفيض الروح في وجدانهم، من عرفها عن قرب وعاش بها، واستحضر الذاكرة في إبداعية جمالها الأخاذ، ومن لم يعش بها، واستشرف حضورها الذهني، وطاف بها بكلماته وأشواقه بإيقاع التجلي، لتكون عروس الكبرياء الوطني والحلم الراسخ في الفؤاد. ومن رسمها في حلم العودة، وسالت دموعه أنهاراً في البحث عنها، وارادة تخليصها من أنياب المحتل، في حضور إيقاعي، برسم صورها، وتجسيد ملامحها، كما برزت في أعمال عدد كبير من شعرائنا المبدعين، في إبداعية الخلق الإلهي والقدسي، لتظل عصية على الانكسار والغياب، ولتشكل صورة متفردة للمدينة، ضمن محاور إبداع صورة الوطن الأشمل - فلسطين التاريخية، في ملامحها الوجودية الجمالية والنضالية لتكون قلب الوطن النابض.

وقد ارتقت القدس اسماً وتاريخاً وواقعاً، وبرزت في أعمال الشعراء بأسمائها المتعددة، وملامحها المتجددة، وحازت على لغة الحضور المتوج بنبض اسمها، وعنواناً لدواوين ارتبطت بها، وملامح خاصة زينت وجه التاريخ، بنور قناديلها، وشموخ أسوارها، وإبداعات مثقفيها ومناضليها..

وقد تحدثت عن هذا الموضوع بإسهاب في دراستي "صورة القدس في عيون الشعراء".. وسأقتبس لأهم ما جاء فيها لأنها تعطي إضاءات على السؤال المطروح.

فبدءاً مما كتبه شعراء الرعيل الأول وشعراء المقاومة والشعراء العرب كأمل دنقل ونزار قباني وآخرون، واستحضاراً لإبداعات توفيق زياد، سميح القاسم، أحمد دحبور، وآخرون. وانتقاءً للصور التعبيرية الخاصة التي رسمها الشاعر الكبير محمود درويش بإبداع فني وصور تعبيرية مميزة، تعيش فيها رحلة اثيرية واقعية بتجليات الروح.

وأتوقف الآن أمام ما كتبه الشاعر الكبير "أدونيس" عن القدس في كتابه "كونشيرتو القدس"، بلغة خاصة ومضمون خاص، تشعر أنك تدخل عالماً آخر، ورؤيا جديدة في رسم القدس، وعلاقاتها التاريخية والتوحيدية، والتوجه إلى السماء، بعلاقاتها في المدينة، ليرى القدس حرة من خيوط الصراع. "متى ينتهي تاريخك يا جارية السماء".

كانت الرحلة في النصوص الرائعة، والتعمق بها، وقراءة ما بين السطور، تحمل أدوات حضورها في آفاق تتشابه في النص وفي الرمز وفي المعنى، وتختلف أو تتقارب في مبنى القصيد.

ونحن نقرأ النصوص، مربوطة في الزمان والمكان، وما عبرت من أحداث، ترتقي الهوية الوطنية.. ولكن، ونحن نعيش آفاق واقع آخر، نستشعر الفجوة ما بين لغة القصائد التي تحمل نقاء الفكرة، ولغة المقاومة، وما بين واقع مر. لنرى مصطلحات سياسية تعبر نصوصنا، وأصبحت القدس تقاسيم، فحينما نتحدث عن القدس، نستشرف حضورها فينا نصاً متكاملاً، لا شرقية ولا غربية، وحينما رسمنا أسوارها، مآذنها، كنائسها، كانت أيقونة الوجود.. والآن تغير شكل الاسوار، واقتحمت الكنائس والمساجد، وتغير شكل المدينة. فكيف سيكون النص؟ وكيف يصير النص وبأي إيقاع؟.

وحتما إننا كشعراء مقصرون في هذه المرحلة.. لأن الشعر رسالة الحرية، ولا بد للشعراء من رسم حالة، وخلق تغيير.

"والدولة التي لا يؤثر فيها نص شاعرها عليها أن تراجع نفسها".

فماذا فعلنا في هذه المرحلة؟ وكيف واجهنا السياسات التي تفرض علينا؟.

حتما هناك نص غائب في وصف المدينة، نص شمولي وعربي يرتقي بالحالة الفلسطينية في القدس، لما تحمل من آفاق على جانب كبير من الأهمية، لكي ينقش المبدع تاريخية القصة النضالية التكاملية والفنية، بروح المبدع والفنان، لأن الشاعر ليس منظراً سياسياً ولا مؤرخاً، كما أشار أنجلز، بل هو مبدع، ناقل لواقع موضوعي، مرتق إلى مستوى التفاعل والارتقاء الفني ليليق بالفكرة.

ومن هنا تتصدر الفكرة المشهد الإبداعي، بكونها إضاءة وعي الواقع، وهي النبوءة والامتدادات في فضاءات ومساحات المستقبل، واستشراف التطبيق السياسي والاجتماعي لها، بفعل استعادة تشكيلية خلاقة، بمدى تنفيذي للعدالة.

وماذا نكتب الآن، حينما يكون الوطن معلقاً على مشانق الجزار؟.

وكيف نصيغ الحلم للقدس، والعودة إلى فلسطين، أمام كل هذه المؤامرات المحاكة ضدنا؟.

وكيف نواجه خطة ترامب في تقديم القدس هبة للمحتل؟.

وأي عشق يلتف في أعناقنا وينبض في قلوبنا، ونحن نسمع صرخة القدس من بعيد، ولا نحرك ساكناً؟.

أي حق يسير إلينا، ونحن نغفو على عتبات القرار السياسي المنقول، ونتوارى خلف الشعار ونسدل الستار؟.

وما هو النص المعجز الذي يليق بمدينة القدس وقد صمتت المآذن، ومررت حجارة الشطرنج؟.

وكيف سنقاوم المخطط، والخط البياني يرفع إلى قمة تسويق المخطط ببريق الوعد؟.

وماذا يمكن أن يكتب في زمن القراءة الشائكة، وتداخل الأفكار واشتباك القيم؟.

تساؤلات كبرى في ملحمة الوجود الفلسطيني، وفي النص الإبداعي المقاوم، وكيفية تشكل حضوره في الولوج الاحتلالي لشرايين المدينة.

لا بد من كتابة إعجازية، ونص معجز ولغة ثائرة وإيقاع، وموقف إبداعي متسام يعلن الرفض بصوت جهوري، دون خوف ولا وجل، وإلا سنذوق مرارة الوداع، وحني الهامة للريح، وتباريح للنص المفقود.

"آه فلسطين

يا اسم التراب

ويا اسم السماء

ستنتصرين

ستنتصرين".

محمود درويش

 

• قبل عامين أطلقت اللجنة الوطنية للقدس عاصمة دائمة للثقافة العربية، في متحف ياسر عرفات، كتاب (مقدسيون صنعواً تاريخاً) لمؤلفيه عزيز محمود العصا، ود. عماد عفيف الخطيب. وثقا فيه لعشر شخصيات حملت على عاتقها واجب الدفاع عن القدس. وهذا يقودنا إلى ذكر شخصية الشيخ رائد صلاح الملقّب بشيخ الأقصى والذي أشتهر بمواقفه في الدفاع عن المسجد الأقصى وبكشفه عن قيام المحتل بالحفريات تحت المسجد. من هي الشخصيات المقدسية المؤثرة الأكثر حضوراً في مشهد القدس الآن.

"مقدسيون صنعوا تاريخا"، كتاب هام يطل على عدد من الشخصيات المقدسية التي حملت على عاتقها واجب الدفاع عن القدس.

والحديث عن مدينة القدس وشخصياتها الوطنية، يوقفنا أمام حقائق هامة وتفسيرية للواقع القيادي للمدينة في المرحلة الراهنة.

فالقدس في زمن الانتفاضة، كانت هي العاصمة الحقيقية للمدينة، بفعالياتها الهامة ونشاطها الموجه والموحد في فلسطين جميعها، وقيادتها المشتركة من رؤساء الأحزاب والحركات السياسية. حيث قمنا بفعاليات أدبية وسياسية هامة، وكان اتصالنا الدائم مع السيد الرئيس ياسر عرفات.

وقد عقدنا مهرجانات ثقافية وسياسية هامة شارك بها الكل الفلسطيني من جميع المواقع الفلسطينية، من فلسطين التاريخية، من غزة ومن الضفة. وكانت الفعاليات تضم جماهير حاشدة. ومن أهم المهرجانات، "مهرجان القدس" الذي نظمه السيد صالح برانسي رئيس "حركة الأرض"، وبالتعاون مع حركة أبناء البلد، اتحاد الكتاب والعديد من النقابات، ومجلة "المواكب" التي تصدر في الناصرة، والعديد من المؤسسات الإبداعية والثقافية، منها والمكتب الإعلامي الفلسطيني الذي يرأسه إبراهيم قراعين، والذي قام بدور إعلامي مميز، وكذلك رابطة الصحفيين الفلسطينيين، برئاسة الأخ رضوان أبو عياش، والأخ الدكتور أنيس القاق - رئيس إدارة المسرح الوطني.

وكذلك المهرجان التضامني مع العراق وهو بعنوان "عام على حرب الخليج"، والذي نظمته شخصياً، باسم الرئيس ياسر عرفات، شاركت به جميع النقابات وجميع الأحزاب والحركات السياسية ممثلة برؤسائها، وأعتبر حدثاً سياسياً هاماً غطته وسائل الاعلام العربية والغربية، ثم اتصل بنا السيد الرئيس مثمناً عقد هذا المؤتمر في ظل الاحتلال وفي ظروف استثنائية..

وهذا يقودنا إلى الشخصيات القيادية في القدس. كان القائد الأعلى المتواصل معنا بشكل يومي هو الرئيس ياسر عرفات..

وظل الشهيد ياسر عرفات مطلاً على مدينة القدس طوال حياته، داعماً لها بقوة، مستثناة الحضور لديه، فلم يتوقف عن دعمها ومساعدة قطاعاتها جميعها.

وكذلك كان معنا بشكل دائم الأخ القائد "أبو جهاد"، الذي قاد الساحة فيما أسميناه "الغربي"، وكان متابعاً باهتمام كل التحركات، وقد وجهها لقضية مهمة لها بعد هام في المد النضالي، وهي تأسيس النقابات بمختلف اتجاهاتها، اتحاد الكتاب، رابطة الصحفيين، اتحاد العمال، المرأة، وحتى أنه طلب إنشاء نقابات مهنية، هادفاً إلى تكثيف الحضور السياسي في الاجتماعات الهامة. وقد نجحنا بجدارة في هذا المجال، وبذلك برزت القيادات من خلال النقابات والأحزاب، وبرزت في كل نقابة شخصية سياسية تنظيمية معتمدة، ولما تأسست "جمعية الدراسات العربية" و"بيت الشرق"، والذي كلف به الأخ المرحوم فيصل الحسيني، صار بيت الشرق هو المرجعية السياسية لمدينة القدس.. وصار الأخ فيصل الحسيني هو الشخصية المحورية ايضاً. يعقد الاجتماعات واللقاء بالهيئات الدبلوماسية والشعبية، ويستقبل الوفود الدولية. وقام بدور هام ومؤثر، فقامت سلطات الاحتلال بإغلاق بيت الشرق، كما أغلقت عدداً من المؤسسات الهامة في المدينة. ولا زال بيت الشرق مغلقاً حتى الآن.. تعاون مع الأخ فيصل في تلك المرحلة الدكتور سري نسيبة، والأخ جبريل الرجوب بعد انتهاء فترة اعتقاله، والمحامي زياد أبو زياد، والاخ أبو زكي، جميل ناصر، رضوان أبو عياش، إبراهيم قراعين، وشخصيات عشائرية شكلت حضورها النوعي.

وكانت الشخصيات القيادية تجتمع في بيت الشرق بشكل دوري، لمناقشة أوضاع المدينة..

وأنا شخصياً، كنت أقود الساحة في مدينة القدس، بتعليمات السيد الرئيس، وكان معي طاقم مميز من الشخصيات الاعتبارية.

والشيخ صلاح شخصية مناضلة وجهت جهودها لدعوة المصلين إلى المسجد الاقصى وتحدي الاحتلال، اعتقلته قوات الاحتلال مرات عديدة، وفرضت عليه الإقامة الجبرية ومنع السفر، ولا زال يقاوم.

والآن يقود الساحة المحافظ، وهو تابع للرئيس مباشرة، ووزير شؤون القدس، وهو يتبع لرئاسة الوزراء.

وقد تشكلت المحافظات في المدن الفلسطينية بعد تحريرها، وأول من تسلم وظيفة محافظ في القدس، كان الأخ جميل ناصر عثمان، والذي قاد المحافظة والأجهزة الأمنية، إلى أن توفي، وهو شخصية تنظيمية، وممثل لحركة فتح في مدينة القدس، ساهم في بناء النقابات والمنظمات، وكان يشارك في الفعاليات السياسية والثقافية.

مثلنا الرئيس معاً في العديد من المؤتمرات الدولية الهامة.. وقاد الاجهزة الامنية والتنظيمية بالتعاون مع قيادة الساحة..

ولما وافته المنية، تابع بعده الاخ عدنان الحسيني لعدة سنوات ايضاً، ثم شعرت القيادة بأن القدس تحتاج إلى شخصية تنظيمية على دراية بالساحة، فتم تعيين الاخ "عدنان غيث"، والذي تسلم مهامه ومسؤولياته في ظرف صعب، طاردته سلطات الاحتلال، واعتقلته عدة مرات، ومنعته من التحرك.

لذا مرجعية الجماهير والمؤسسات الرسمية والجماهيرية هي المحافظة، أما القضايا المالية والاقتصادية، فيقوم بها وزير شؤون القدس.

ولا زالت الشخصيات الثقافية والسياسية تقوم بدورها في مدينة القدس في إطار الممكن، خاصة وقد استولت حكومة الاحتلال على المدينة بعد صفقة القرن.. وهي الآن تمر بأصعب مراحلها.

 

• تعرّضتِ لمحاولات التكميم والاعتقال من طرف المحتل ولم تلن لكِ قناة في معركة الوجود. دعينا نلتقط مواقف وحكايات مخزّنة في ذاكرة تلك المعارك.

في التجربة الصعبة، الاعتقال والملاحقة. ماذا أقول في مؤامرات الصمت وارتداء الموت وقارورة ماء النار وانفجار في انفجار؟

منذ تشكل شخصيتي الأدبية والسياسية، وبروز ملامحها الثائرة، ومنذ انطلق قلمي في رسم صور التعذيب، تعرضت لملاحقة الاحتلال والاعتقالات المستمرة ومنع السفر، والاعتقال المنزلي.

هي تجربة تحمل صوراً قد لا ترى في أساطير الأولين.. هي رحلة الالتزام والوفاء للأرض والإنسان.. وهي رحلة الفكرة والهوية. هي رحلة الخطى في فجر القضية، والانطلاق بها إلى العالم من وراء الاسلاك الشائكة.. هي الكلمة المعادل الموضوعي للبندقية.. وهي الهوى العذري المعتق بالعذاب مفروشاً على حصاد الأزمنة... وهي أنا في صياغة النص، ومواجهة الموت، واستصدار أحكام الرجوع، وتكتيم الصمت، ورسم الموت على شفاه المناضلين.

ليكون النداء:

هل نحن بشر؟

أم نحن إضاءات قدرية ممنوعة البقاء؟

هل لنا حق في الحياة

أم أن حقنا مرسوم في توابيت الموت

بلا أكفان..

الجزار يقف شامخاً،

مفاخراً برداء ليس أبيض،

وقارورة العسل الأسود، وصهاريج للحرق

يحمل بيديه أشلاء الطفولة

ويمضي إلى آخر نفق في الطريق...

تلك حكايتي معجونة بالدم، وتلك أيامي على حوافي الموت وتكتيم الصوت وكانت بدءاً، وظلت بدءاً.

في كل حراك جماهيري، ومظاهرة، كانت هنالك ملاحقات قاسية تسفر عن اعتقال ليوم أو يومين وتعديات أخرى.

وفي كل كلمة نص يشطبه المحتل ليواري روح الثورة وعتق الكلمة.. ولما بدأت كتابة مقالاتي، كثفت الصور والترميز حتى لا يتمكن الاحتلال من فهمها، لأتفاجأ فيما بعد أنه بدا يقرؤها ويفك رموزها، وبدا الشطب بفقرة، ثم ازداد لفقرات أخرى إلى أن وصلنا لحذف المقال كاملاً.. تابعت بقوة ولم استسلم، سربت مقالاتي لمجلة "فلسطين الثورة" وهي مجلة منظمة التحرير التي كانت تصدر في قبرص... ثم أرسلت إلى عدة صحف ودوريات في الوطن العربي.

في السفر إلى الخارج عبر الجسر، كان هنالك تشدد كبير في أول الاحتلال، لدرجة أننا كنا لا نستطيع حمل أوراق معنا، وحتى رقم الهاتف كان يصادر.

وأذكر أنني أعددت كتاباً هاماً للنشر، وهو خلاصة حواراتي التي نشرتها في جريدة "الرأي" بعمان... وبعد تعب وإعداد، حينما عبرت الجسر انقض الجندي على المخطوطة وصادرها ولم أستطع استحضارها ثانية.

وكذلك في المطار، كنت عائدة من إسبانيا، في حقيبة يدي فصول من مذكراتي السياسية، وأخذ الأمن بالتفتيش المرير وإيقافي لساعات طويلة، وأخذوا الحقيبة، لكي يسلموها لي في الوصول، ولما فتحتها، لم أجد النص.. أصابني الحزن الشديد، لأنني كنت قد قطعت مساحة إبداعية هامة، وحينما عدت لأكتب ثانية، لم يكن بقوة النص الأول... وهذا تكرر معي في مواقع عديدة..

وفي الانتفاضة المباركة، كنت في الشارع الرئيس من المدينة، وفجأة، تلثم الشباب، وأغلقوا شارع المدينة، وابتدأ النضال بإشعال العجلات ورمي الحجارة.. كنت حينها أمام محل الموسيقى الذي كان يبث أناشيد وطنية، وكانت القصائد والألحان لأخي المهندس الفنان رياض عواد... كان نص الأغنية حماسياً جداً، وكان الشباب يتحركون على إثره، وفجأة اقتحم الجنود المحل، وصادروا الكاسيت، وتابعوا أخي، حضروا إلى البيت واعتقلوه، ووضعوه في زنزانة ولاقى أمر العذاب.

وفي شارع صلاح الدين، اشتدت الملاحقة وتكاثف الجنود، وأخذوا يعتقلون الشباب، ركضت، ولحقني عدد من الجنود، وبسرعة رأيت أمامي حلاق رجال ودخلت عنده وجلست على كرسي الحلاقة، وأخذ في محاولة تمشيطي للتمويه، وبعد دقائق دخل الضابط، ووجدني على الكرسي، فاستبعد أن أكون أنا المطلوبة... وبعد أن غادر ضحكنا بهستيريا.

وكانت تجربة الاعتقال الطويل حينما كنت عائدة من القاهرة، حيث كنت طالبة في جامعة الأزهر، وخلال الدراسة، التقيت بعدد كبير من أعلام كتاب مصر، بما فيهم، نجيب محفوظ، توفيق الحكيم، صلاح عبد الصبور، أمل دنقل، وعدد آخر. وأجريت معهم حوارات هامة نشرت في صحيفة "الرأي الأردنية" والتي كان يرأس تحريرها السيد سليمان عرار.. أخذ الحوارات وبدا بنشرها، ولاقت حضوراً واستحساناً منقطع النظير.. وكنت أعد مخطوطة أمل دنقل، طلب مني رئيس التحرير البقاء لإكمال التحرير، ولكنني اعتذرت بأنني سأزور أهلي لمدة يومين ثم أعود ثانية..

أوصلني السائق إلى الجسر الحزين، قدمت هويتي وأوراقي، وانتظرت. مرت ساعات طويلة ولم ينادني أحد.. وفجأة، وإذا بعدد كبير من الجنود يلتف حولي والبنادق مصوبة باتجاهي.. ابتسمت في داخلي وقلت: "ماذا جرى! هل أنا أبو عمار؟".

تسلم الضابط جواز سفري متفرساً في وجهي قائلاً: "تقبضين مليون دينار لتلقي اسرائيل في البحر!".

صعقت من هذا الكلام، وقلت له باستهزاء: "لم أكن أدري أنني بهذه القوة، هل أنا الشاطر حسن، أم هانيبال، أم الاسكندر المقدوني؟".

نظر إلي غاضباً واقتادني إلى غرفة لاسلكي وقال: "انتظري".

ولما أقبل المساء، جاءت سيارة عسكرية لتنقلني إلى السدن في اريحا، والذي اصبح فيما بعد مقر السلطة الوطنية بعد التحرير.. وجلست ساعات طويلة مريرة، إلى أن غطى الليل الكون، وجاءت سيارة عسكرية مصفحة، وضعوا القيد في يدي، واقتادوني إلى مركز الاعتقال في مدينة القدس "المسكوبية". كان الفصل شتاء، والبرد شديد، وأنا أحلق مع أشواقي إلى الأهل.. وضع الغطاء الأسود على عيني، وفتحت أبواب حديدية، خلع الغطاء عن عيني لأراني أمام قيادة عسكرية أخرى.

أخذ الضابط كتبي وأوراقي وملابسي، وأعاد بالنص: "تريدين إلقاء إسرائيل في البحر". ثم أمر سيدة لاقتيادي إلى الزنزانة..

ولما فتحت أبواب الحديد، شعرت أن الموضوع جدي وخطير، وبدأت أقرأ مع نفسي وأعد نفسي للتحقيق..

كانت أياماً مريرة، وتحقيق مستمر، وتمديد الحكم لعشر مرات...

وتفاصيل الاعتقال مذكورة في "كتاب ذاكرة الترف النرجسي".

وبعد مدة طويلة خرجت، ودفعت غرامة مالية كبيرة ومنعت من السفر، وفقدت دراستي في جامعة الازهر..

وبعد رفع المنع سافرت إلى جامعة اكسفورد لمتابعة برنامج الدكتوراه.

ومنذ الاعتقال الأول، لم تتوقف الملاحقة ولا منع السفر... وتابعت الاعتقالات والعقوبات الفردية والجمعية، ولما عقدت المهرجانات الدولية الشعرية في مدينة القدس، انقض الجنود على المسرح وأوقفوا المهرجان، ولكننا تابعناه بطريقة أخرى.

وحتى الآن لم تتوقف ملاحقتي ومنعي من السفر، ولكنني دائماً بروح العائد ينطلق صوتي من خلف الجدران.

الاعتقال تجربة مريرة، معذبة، تصور كيف ترى نفسك في مكان لا تستطيع حمل القلم، ولا الحديث مع الأهل، ولا التحرك بحرية وأنت تواجه كل يوم محققاً متوحشاً ينقض عليك...

أذكر في تلك الاثناء، أنه كان لدي قوة لا أستطيع وصفها، لم يتمكن المحققون إلى جرّي لأي كلمة يمكن أن يستفيدوا منها في اتهامي، بل كنت عصية على الكسر والانكسار، ولما فرغت أوراق تحقيقهم، ولم يصلوا إلى شيء، أخذوا يسألونني عن الجامعة ومن قابلت فيها بكل خبث.

ولما أصدر القاضي القرار، طرت فرحاً، وركضت لعناق والدي، الذي وضع لي أكثر من محامٍ.

وحينما كنت أغادر السجن، اقترب مني المدعي العام قائلا: "أتمنى أن أقطع لسانك، والأيام ما بيننا"، فأجبته: "آمل أن لا تستطيع"... والحقيقة انني خلال التحقيق كانت إجاباتي غير عادية وبلغة راقية المستوى، حتى أنهم لم يستطيعوا فهمها، وأوقفني خلال التحقيق ويدي مرفوعة إلى الأعلى، وخاطبني سبعة محققين، كان يتبع أحدهم الاخر وبسرعة، حتى لا يكون مجال للتهرب. قال المحقق الرئيسي واسمه أبو العبد: "تحدثي بالعبرية، لأنك بالعربية تتحدثين ك "ابو عمار"، فهل علمك الخطابة؟، فأجبت، لا يمكن أن أنطق إلا بلغتي، ثم التفت إلى الجميع قائلة: "أنا التي علمت أبو عمار الخطابة"... دهش المحققون على جرأتي، وانقض علي أبو العبد بالضرب المبرح.

هذه ملامح من الذكرى التي طالت في تاريخنا، ونحن نناضل من أجل العزة والكرامة.. ولا يمكن تصور الثقة والكبرياء التي شعرت بها، وأنا أصمد أمام التعذيب، وكأنها طاقة إلهية وأمواج تنطلق من روح الإيمان، ومن عبادة الوطن، ومن روح الكلمة الثائرة.

 

• كيف نصف علائق الأدب والسياسة في ظل المتغيّر الظرفي والطارئ الذي يشكّل بينهما حالات متفاوتة تتراوح بين ائتلاف واختلاف واتفاق وتضاد؟ يتداخلان بحكم أن الأدب نابض في كل ما يختص بالإنسان. وبحكم أن السياسة تحاول أن تسوس الكتابة بالعموم لتروّض القلم في مضمار الكلمة التي تريد. وأنتِ الأديبة السياسية كيف تصفين هذا الاشتباك؟

العلاقة بين الأدب والسياسة علاقة تكاملية وليست علاقة تناقضية، فالأديب المناضل يحمل الفكر الوطني والنضالي كفكرة أساس، تختزن في الروح، لتنطلق الكلمات بندقية الفعل، ولتكون قنديل الروح والرسالة التي يود الشاعر والكاتب ايصالها... فنص المعركة يأخذ الأفق المباشر لترى النداء الصارخ بإيقاع الكلمات يلعب دورا تثويرياً.. وفي امتداد القضية في الأعماق تولد الصور الابداعية الرائعة بمضامين إنسانية وثورية...

فحينما قال أبو سلمى:

غداً سنعود وآلاف تصغي

إلى وقع الخطى عند الإياب

ونحن الثائرون بكل أرض

سنصهر باللظى نير الرقاب..

وهذا أدب المعركة، وفي قصائد أخرى كثيرة، أدخل الصور التعبيرية غير المباشرة بالصور الانسانية والجمالية لفلسطين في ديوان "من فلسطين ريشتي"..

وما كتبه هارون هاشم رشيد أيضاً..

وما كتبه الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود:

سأحمل روحي على راحتي

وألقي بها في مهاوي الردى

وقد حملها واستشهد في المعركة.. وأدب المقاومة الفلسطيني هو أدب التجربة الحقيقية على أرض فلسطين وفي المنفى.. فقد واجه الكاتب الفلسطيني الاعتقال والتشريد والاقامة الجبرية ومنع السفر، وكلها هموم وآلام برزت في النصوص.

وحينما قال توفيق زياد:

أناديكم

أشد على أياديكم

وغيرها من قصائد المقاومة بروح الفكرة ونبض الفؤاد...

وفي قصائد درويش ارتقت النصوص بأبعادها المختلفة ورسمت الصور حالة مقاومة بفن راق اعتمده العالم..

وبقي أدب المقاومة الصورة الحضارية للإبداع الفلسطيني وصفحات خالدة في سجل الثورة ورسالة الإبداع..

فحينما يقول درويش في المنفى:

وأنت يا أماه

ووالدي وإخوتي والأهل والرفاق

لعلكم أحياء؟

لعلكم أموت؟

لعلكم مثلي بلا عنوان..

ما قيمة الإنسان

بلا وطن

بلا علم

ودونما عنوان

وبالطبع فلسطين هي العنوان.. وفي مديح الظل العالي، ارتقت الصور التعبيرية المقاومة. وفي كل حدث مفصلي يثور الشعراء ويظلوا في الدفاع عن الفكرة المطلق أمام سياسة الممكن.. وإنني اؤمن أن الكلمة المقاومة لا يمكن حجبها ولا اعتقالها، لأنها ستخترق الأشواك والجدران الموصدة لتصل الى القارئ.

الحديث عن الأدب بنبض روح الانسان، وتجليات المواقف التي يعكسها، واللغة الرائعة التي يرسم بها المشهد، توقفنا طويلا امام تعريف وتفسير وتوضيح لماهية الادب في بديهية التكوين الخلقي للإنسان المبدع، وروح التوقيف المعرفي والفلسفي، ووشائج التكوين الإبداعي في التشكل النوعي الماهوي لأفكار راسخة، وأفكار تطل من ضفاف أخرى، وملامح تكوين متعددة ترتقي بالكلمة على مستوى الفن ومستوى الثورة.. ليكون إطلالة الروح والضمير، واشتعال النفس والاحتراق الداخلي الذي يولد الكلمة نصاً يفجر المواقف، ويقود إلى طمأنينة الروح بالبشرى في مستقبل مورق بالأمل. ونحن نكتب ليس من أجل الفن، ولكننا نكتب كلمات مقاتلة" أدب ثورة وأدب مقاومة" بتجليات إبداعية مكتملة الأداء.

والسياسة، وهي تشابك المصلحة، وإرساء الممكن في عجلات التكوين للعلاقات الدبلوماسية وآفاقها المتعددة، من راس الهرم السياسي والتعاليم، وإلى تدرجات المرافئ السياسية في المهام والوظائف في ظل أنظمة تصوغ أحكامها بما يتفق مع مناسك الحضور السياسي والعلاقات الدينية والمجتمعية.. والسياسة في حال الثورات، تأخذ مفهوما أكثر تقدماً، تصاغ خلالها المبادئ العالمية، والفهم النضالي للديمقراطية، وما ينفرد تحت مظلتها من رؤى وتعاليم. والسؤال الهام: "كيف لأصحاب الكلمة الحرة أن يسيروا في دروب الإبداع في واقع سياسي دكتاتوري مثلاً، أو ثوري؟.

وكيف يستطيعون فرض حضورهم الإبداعي في ظل دولة الظلم؟.

وكيف يظلون أحراراً؟.

واؤكد ما قلته: إن الدولة التي لا ترتقي مع مبدعيها، عليها أن تراجع نفسها، والدولة التي تقمع مبدعيها، لا يكون احتسابها دولة.. لأن الأديب هو الطاقة العليا في البنيان السيادي، والطاقة القادرة على الانتشار ببواطن القيم العليا التي تحملها الدولة..

وهنالك الكثير من الحكام يحاولون صياغة المبدعين ليكونوا تعبيراً تمجيدياً عنهم، ويوضعون ضمن حلقة استثنائية مغلقة تبعدهم عم التعبير عن أي نقد، بل صياغة الإطراء حريراً لهم.. ومع الأسف كثير من أصحاب القلم، ساروا على هذا الدرب تماشياً مع مصالحهم، وحققوا حضوراً وظيفياً.. وأنا وبكل صراحة، لا أحترم هذا السياق التقزيمي للكاتب، ولا أعتقد بأن أي كاتب له كرامة واعتزاز بقلمه يمكن أن يفعل هذا.. لأن في المحور التركيبي للكلمة هو فيض الروح وحضور الفكرة بحروف نقاء نفسي.

كما أنني أعتقد، وبقوة، بان الكلمة المبدعة الملتزمة والحرة لا يمكن اعتقالها، مهما حاولت قوى الظلم، لأنها ستخترق الجدران وتسير وتنطلق الى آفاق العالم.

وتجربتي وتجربة العديد من الكتاب الفلسطينيين تحمل هذا المفهوم.. ابتدأ الاحتلال برقابة النص، وحذف كلمات منه وهي العبارات المقاومة، ثم تم حذف النص كاملاً.

ثم تم الاعتقال للكلمة بطريق اعتقال المبدعين ووضع الشروط التعجيزية، فقد بدا الاحتلال بمصادرة مقالاتي في الصحف تحت الاحتلال، فأرسلتها بطريقة ما لتنشر في الخارج، وتم ذلك، ثم نشرتها في كتاب..

ولم يتوقف الاحتلال عند هذا الحد، بل قادني إلى السجن، وأخذ بالتحقيق أكثر من مرة غضباً على النصوص التي أكتبها، ثم منعت من السفر، واستمرت الملاحقات... ورغم كل ذلك لم ينحن قلمي.

هذا في رحلة الثورة والثائرين، وهي رحلة مجد.

أما الكتابة في ظل سلطة قمعية محلية حاكمة، سيكون الموضوع أصعب، لأن المبدع سيواجه التعذيب، وسيكون صعباً جداً، لأنه ابن وطنه، ومسؤولة المباشر، ليكون ظلم ذوي القربى أشد مرارة. وستفرض عليه إملاءات كثيرة..

والقلم الحر يرفض الإملاءات، ولا ينصاع للمغريات، وسيتحمل العذاب المر، ولن يقبل جوائز التكريم، وستشرق كلماته مثل الشمس..

وإطلالة على التجربة السياسية الفلسطينية، نرى أن السياسة هي المحور الاساس في تحركاتنا، وفي تجربتنا النضالية. وإذا كان الشخص أديباً، لا يمكن أن يأتي نصه بعيداً عن هذه المقاربة.

والسياسة بمتداخلاتها وانتماءاتها تثري تجربة المبدع، وتعمق رؤياه، سواء كانت التجربة واقعية أو تصورية.. كثير من الكتاب كتبوا عن فلسطين، واستشعروا حضورها دون أن يعيشوا فيها..

والسياسة الحاضرة فنياً في لغة الادب، تجمل روح الإبداع وتعمقه، وترسم معالم الصيرورة الشعبية التي سيسير به الشعب المناضل.. فحين قلت في قصيدة كلمات الشهداء الاخيرة:

أقسم بثورتنا التي كللتها

بعزيمة وبمدفع وأماني

أفديك ما فوق الفداء بثورة

تلقى الثريا عندها بركاني..

وهذا نص تثويري "أدب معركة" ...أي خطبة بإبداع فني وهو مهم خلال معارك التحدي والتصدي... والمهم ان يخرج المبدع عن لغة الشعار - وأن كان يقبلها المتلقي بسهولة - لأنها تضعف الجانب الفني وهو العنصر الاساس في الإبداع.

حين بدأت الكتابة، شعرت أن لي طريق طويل لتعميق التجربة، وكانت لدي مبادئ أساس ورؤيا، عمقتها بالعلم والمعرفة والمشاركة العملية في رحلة الشروع في قارب التحرير..

وعمقت كتاباتي الثائرة في ظل ثورة عملاقة لم نشعر يوماً برقابة أو مصادرة نصوص..

وهنا أود أن أشير إلى نقطة هامة جداً، وهي مفهوم حرية التعبير الذي يتغنى به العالم، مدرسة فكرية ومشروطة، ومادة عالمية، ولكنها ليس مطلقة الشيوع والانتشار إذا جاوزت المستوى الموضوعي في النقد.

النقد مدرسة فكرية هامة، وإذا استخدمت بالشكل الموضوعي، يمكن أن تحافظ على قيمتها الأديبة لتصبح مرجعية، أما إذا سار النقد بروح التمييز والمجاملة لبعض الأشخاص وشتم أشخاص آخرين، ومحاباة الحاكم، يخرج النقد عن بيانه، ويصبح نصاً غائباً.

والنقد الذي يخرج عن نص الأخلاق ولغته، يأخذ منحى العبور إلى دوائر التشويه والتشهير المتعمد، وهذا مرفوض حتى قانونياً.

وإذا أخذنا ما كتبه المثقف المبدع إدوارد سعيد في قضايا فكرية وسياسية هامة، كان لها صدى عالمي، وكتبت بلغة راقية غير عادية، ندرك قيمة النقد الفكري وأهميته في الدفاع عن الفكرة.

والكلمة بالنقد العلمي والموضوعي هي ذات الأديب ولا يمكن سلخها عنه مهما حاولوا..

إن كتاباتي هي إبداع في نص الوطن، ونص الوطن هو السياسية، وروح الإنسان، وقناديل الارض، يضاف إلى ذلك نضالي العملي..

وأخيراً: إن رسالة المبدع مقدسة، وهي عبادة انتمائية، وشجاعة روح لا تخشى قوة ظالم. إنها قوة قلم معادل ليس للبندقية فقط، بل لكل الأسلحة.

 

• أدباء لهم مكانة خاصة عند د. حنان عواد.

كل كلمة قرأتها لأديب مميز جعلت له حضور خاص عندي.. ما اكثر المبدعين في وطني..

ارتبطت بالكلمة منذ نعومة أظفاري، وحلقت الكلمات معي في مركب الحياة، وامتدت حتى هذه اللحظات.

ابتدأت علاقتي بالكتاب، في الصورة التخييلية، فلما قرأت للرعيل الاول، كان هنالك إضاءات تثويرية نوعية حفرت في أعماقي وتشكلت روح المبدع فيّ.. ولما ارتقى الوعي عندي والتقيت العديد من أصحاب الكلمة والموقف، شدني حضور الكاتب وإبداع كلماته، لتسري في نصوص بعتق روحي أخاذ.

ولا شك أن هنالك مبدعون أثروا قلمي وذاكرتي وتأثرت بهم وتعلمت منهم الكثير.

في البدايات كانت كتابات طه حسين، نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، علامات فارقة في المد الإبداعي أغنت ثقافتي..

وفي لقائي مع الشاعر صلاح عبد الصبور وكتاباته وإنسانيته، رسمت لدي نصاً خاصاً..

والشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، طالعت أعماله بكل اهتمام، وهو صديق حميمي أيضاً..

وكذلك الشاعر نزار قباني، والأديب الطيب صالح وآخرون..

ويمكن القول أنه في كل دولة عربية ارتبطت بكاتب أو أكثر بها، وشكل علامات فارقة في  التكوين الإبداعي والفني.

وفي فلسطين، في دراسة أدب المقاومة والاطلاع على إبداع الخالدين، والذين عايشتهم، ترى أفقاً متسعاً في رحلة التأثير، فأعمال الشهيد غسان كنفاني كانت مدرسة إبداعية نضالية..

وكلمات فدوى طوقان كانت إشعاعاً أنثوياً.. وقصائد الشعراء المناضلين كانت نبراساً.. وهم أسماء لامعة ارتقوا في كلماتهم.

يربطني أفق خاص بكل شاعر، ويحملني إلى فضاءات مشعة وأنا أنتقي النصوص والكلمات. وكلهم لهم عندي مكانة عالية.

أما أكثر المبدعين الذين تأثرت بهم، وأكبرت حلولهم في، هو الشاعر الكبير محمود درويش.. فقد كان لي مدرسة خاصة، ومرجعية إبداعية لا تضاهى ونصاً معجزاً. بدأت أقرأه منذ بدء كلماته، وسرت معه في تطورات ابداعاته، والتقيته وجمعتنا لقاءات فكرية وابداعية كثيرة.

قراته ثانية وثالثة، وكلما قرأته، أبحرت ثانية بنصوصه، لتجدني كأنني أقرأه لأول مرة.. بصوره الرائعة ونصه الذي لا يضاهى وإنسانيته المكتملة الحضور.. هذا الشاعر تأثرت به كثيراً، وشعرت أنني أحمل أمانة الكلمة من خلاله.. وكيفية صيانة روح الإبداع في كل كلمة أكتبها وفي كل نص يمثلني.

لذا تجد في كتاباتي اقتباسات كثيرة منه تسعدني كثيراً، وتثري أي نص أكتبه.

تأثرت كثيراً أيضاً، بالكاتب الشهيد غسان كنفاني، والذي شكل لي مدرسة نضالية مقاومة ونصوصاً إبداعية محكمة الفن والفكر المقاوم.. وقد درسته بعمق، وطافت به كلماتي، وظل صورة إبداعية حقيقية أحتفي بها كلما فاض القلم بالفكر المقاوم والصور الإنسانية التي أبدع في رسمها، وخاصة صورة الفدائي والبندقية والاستشعار الداخلي لروح الانسان الفلسطيني وروح المرأة.

وعشت به نصاً وإنساناً ورؤيا ولا زلت حتى هذه اللحظات. وقد قدمت دراسات عديدة عنه.

والأديب الذي تأثرت به أيضاً الروائي "الطيب صالح"، بإبداعه المميز وحضوره الإبداعي والإنساني، يضاف إلى ذلك الصداقة الحميمية التي تربطنا.

ومن الشعراء الذين أكبرتهم وتأثرت برؤياهم، وأكبرت قصائدهم، الشاعر المصري الصديق "أمل دنقل"، الذي عرفته عن قرب وبنيت بيننا صداقة مميزة، ودارت بيننا حوارات وسجالات عديدة.

له قصائد نفاذة إلى الروح ببعدها السياسي، الوطني والفني.

ومن الجزائر، تأثرت بالكاتب الصديق "الطاهر وطار"، برواياته الهامة وحضوره الفكري والإنساني.. وقد ربطتني به صداقة خاصة وزرته أكثر من مرة في مؤسسته الثقافية "الجاحظية ".. وكان دائماً ذا موقف مشرف.

وقد تأثرت أيضاً بالكاتبة المبدعة "غادة السمان"، وكانت صديقة غالية، اعتبرتني ابنتها الروحية.. وشجعتني كثيراً. وكانت كتاباتها نصوصاً وأعمالاً مميزة درستها باهتمام ونشرت كتابي "قضايا عربية في أدب غادة السمان".

ومن كتاب العالم، تأثرت ب، ت. س. اليوت أولاً، ثم تابعت مطالعة الأدب الغربي لأنحاز لكتاب المقاومة أمثال الكاتب التركي ناظم حكمت، والكاتب البرتغالي ساراماجو، وكتاب جنوب أفريقيا وأمريكا  اللاتينية "بابلو نيرودا"، والكاتب وإلى سوينكا،وآخرين من مبدعي الكلمة.

وأخيراً، يصعب جداً تحديد الإبداع والمبدعين، وتحديد الأثر والتأثر، لأن لكل منهم مدخل روحي ونص خاص.. لذا أعتز بكل ما قرأت، وكل من عرفت، وكل كلمة رسخت في ذهني بتفوق، وكل نص جميل اقتبسته، وكل كتاب قرأته، وبكل قصيدة تغنيت بها.

 

• نستدعي موقفاً سردته ونشر في أحدى الصحف، حيث ناداكِ الصغار في شوارع سيريلانكا باسم (أبو عمار) لأجل كوفيته الشهيرة التي لا تفارقكِ. علاقتكِ بالرئيس الراحل كانت ذات خصوصية لافتة وتأثر تحكين عنه من منطلق الأسرة الواحدة كما تصفين طاقم مكتبه. ما الذي يمثله الرئيس أبو عمار لكِ؟

الكوفية الفلسطينية رمز هام من رموز نضالنا الوطني، وخاصة قد امتشقها زعيم الامة وحملها على هامته بكل كبرياء.

وقد شكلت الكوفية في نفسي حضوراً خاصاً، وارتديتها في المظاهرات وفي كل فعل مقاوم، وسرت بها في شوارع القدس وهي ممنوعة، حتى وإني في أحد الأيام، كنت أقود سيارتي، أوقفتني المجندة وحاولت خلعها عن رقبتي، ولكنني تمسكت بها بقوة، وحينما لم تستطع خلعها، اقتادتني إلى مقر الشرطة وخالفتني بمبلغ من المال، علني أتعظ وأتوقف عن ارتدائها، ولكنني لم أفعل... لأنها تشكل أجمل ملامحي، وطريق الصعب الذي اخترته...

وقد فرضتها في حضوري في أي محفل، وقد اعتاد عليها الناس، حتى إذا سرت ولم تكن تعانقني تساءل القوم واحتجوا.. واستمر ذلك حتى هذه اللحظات.

ومن الطرائف والحكم التي سارت معي، كنت مسافرة على الجسر في شهر تموز، وكانت الحرارة عالية، خلعتها ووضعتها في حقيبة صغيرة كنت أحملها، ولما استقبلني عمال الجسر لأخذ الحقائب، نظروا إلي بدهشة، قائلين: ماذا جرى؟ أين الكوفية؟ هل غيرت اتجاهك السياسي؟ تعجبت من الكلام، ولكنه أسعدني، فتحت الحقيبة ووضعتها ثانية، وأخذوا بالتصفيق رغم أن الجنود الاسرائيليين موجودون.. كنت أعلق على عنقي سلسلة خاصة، بها صورة والدي، وصورة الرئيس عرفات، فكانت الصورة ملازمة للكوفية..

وفي أحد الرحلات عبر مطار الاحتلال، وعند النقطة الأولى للتفتيش، لاحظوا السلسلة والكوفية، فاتصل الجندي بقيادته قائلاً بالعبرية: "لقد أوقفنا شخصية من منظمة التحرير" - وبالطبع كنت أفهم العبرية، ولكن لا أشعرهم بذلك - وبسرعة حضرت السيارة العسكرية تتبعها سيارتان مصفحتان، واقتادوني إلى سجن المطار، وأخذوا بتفتيش الحقائب، وأمر بخلع الكوفية والسلسلة، وكان هذا الموقف صعباً جداً، حينما فكرت أنه يمكن أن أفعل ذلك، صمت لثواني، ثم قلت للضابط: "هل هناك قانون يمنع ارتداء ذاكرة لشخص عزيز أو هدية قدمت منه"، استغرب السؤال، ثم تابعت: "إذا كان هنالك نص لقانون فأتمنى أن تقرأه لي حتى أنفذ"، ووقف واجماً للحظات ونظر إلي صامتاً، وتابع التفتيش بدقة، وذهب الوقت وأقلعت الطائرة. وبالطبع لم أتمكن من السفر، وكنت سعيدة أن كوفيتي والسلسلة ظلتا تعانقاني..

حكايات كثيرة تعبر ومررنا بها، وفي نفس السياق، كنت على الجسر أيضاً، أرتدي الكوفية وأعلق السلسلة، وأعبر التفتيش، وإذا بشابة فلسطينية تركض إلى بكل دهشة وإعجاب، اقتربت مني وعرفتني بنفسها بأنها تعمل في وزارة الخارجية الفلسطينية، وقالت لي: "الله! ما هذه الشجاعة؟ كيف تعبرين الجسر والبنادق المشرعة وأنت ترتدين الكوفية؟".

وعودة إلى أطفال سيريلانكا.. كان الطقس جميلاً في المساء، وكنت قد أنهيت الجلسة الاولى من المؤتمر، وأردت أن استكشف بعض المواقع، سرت بهدوء وأنا أدندن أغنية، والظلام يغلف المكان، وفجأة سمعت صراخ أطفال عفوي وتصفيقاً وهم يقولون: "عرفات.. عرفات"، أدهشني ذلك، وعبرت إليهم وتحدثت معهم، وقلت لهم: "أنا لست عرفات ولكنني ابنته"، ولا أستطيع تصوير سرورهم، ثم أنهوا الحديث قائلين: "أرجوك.. أرجوك أن تعانقيه نيابة عنا".. وعدتهم وودعتهم بكل الحب.

وفي قصة أخرى أحداثها حميمية مشابهة..

حينما كنت في "كوستاريكا" أمثل فلسطين في الكونجرس الدولي للمرأة.

في المساء جاءتني السيدة أولجا بينشي رئيسة فرع كوستاريكا، تعلمني أن مجموعة من البرلمانيين يودون اللقاء بي، وافقت بكل سرور..

حضر الوفد، وكان يتكون من خمسة أشخاص.. جلست إليهم ورحبت بهم، ثم وقف رئيس الوفد مرحباً بي قائلاً: "جئنا لنحملك رسالة خاصة منا إلى الرئيس عرفات الإنسان، والذي لا بد أن ينتصر". ثم قال سأروي لك حكاية لقائي بعرفات: "حضرنا إلى فلسطين وفداً برلمانياً لمناصرة الرئيس أثناء الحصار.. وخلال الرحلة، طار الذهن بعيداً والقلب يخفق خوفاً من هذا اللقاء، لأن اللقاء بالرؤساء ليس أمراً سهلاً.. وظل الفكر شارداً إلى أن وصلنا المقاطعة، وجاء الحرس الرئاسي مرحباً، وإذا بالرئيس عرفات يفتح باب السيارة ويستقبلنا بنفسه بكل حب.. وصعد معنا إلى المقر، وأمر بإعداد الطعام، وأخذ يقدم لنا الطعام بيده، شعرنا بالدلال والحضور الإنساني الخاص، وذهلنا وتساءلنا كيف لرئيس محاصر أن يكون بهذه الروح الإنسانية العالية؟!". وطلبوا مني أن أعانقه بالنيابة، وأن أنقل له مدى احترامهم وإعجابهم، وطبعاً فعلت.

وفي مؤتمر في جنوب أفريقيا كنت أمثل فلسطين بترتيبات السيد الرئيس وسفارة فلسطين، وقدمت برنامجاً ثقافياً هاماً، والتقيت بالرئيس مانديلا والفعاليات الثقافية والسياسية.

وفي اليوم التالي أعلمني السفير الفلسطيني سلمان الهرفي بأن هنالك اجتماع هام في المساء ستحضرينه.

وفي المساء أوصلني سعادة السفير إلى قاعة صغيرة مغلقة، وغادر.. نظرت في القاعة وإذا بها عدد من الرجال الأفارقة يبلغ الثلاثين. استقبلوني بكل الحب والاحترام، وقام رئيس الوفد بكل حب وشجاعة وقال لي: "بلغي أبو عمار بأننا معه بكل ما نملك، وأننا جاهزون للقتال معه، ونحن ننتظر إشارة منه"، كم أسعدني ذلك، وحين وقفت لأخاطبهم، شعرت بانني مع قادة عظام ورجالات تعجز الكلمات عن وصفهم.. ثم تابعوا: "لن تغفو أعيننا والرئيس ياسر عرفات محاصر". ودعتهم وشكرتهم، ولما عدت إلى فلسطين كان سعيدا جداً، جمع القيادة العسكرية وأبلغهم بذلك..

وفي أحد الأيام، ونحن نستعد لمغادرة المقاطعة، كنت مع الرئيس، صعدنا السيارة، وابتدأ الموكب بالتحرك، والتفت الرئيس، فاذا امرأة مسنة تقف قرب مكتب المساعدات الاجتماعية، وفجأة! أوقف الرئيس الموكب، رغم اعتراض الحرس، ونزل وقبل جبينها وصرف لها ثلاثة آلاف دولار، وتابعنا المسيرة.

وكان طيب الله ثراه، حينما يصل اليه أي مطلب لمدينة القدس وأهلها لا يتأخر مطلقاً، بل كان يوقع الأوراق بحبره الخاص.

ربطتني به كل القيم العليا، وكل الأبوة وكل الفكر والإنسانية التي لم تغادرها حياتي، ربطني به أيضاً، الإلهام الإبداعي، فمن روحه استلهمت الكلمة المقاتلة، ومن تشجيعه حلقت روحي في الآفاق، ومن قلبه النابض بحب شعبه نبض قلبي.

في أول رحلة معه، كنا متجهين من رومانيا إلى تونس، وكنت أجلس مقابلاً له، مطأطئة رأسي بخجل، نظر إلي مبتسماً، وطلب من الإخوة إحضار القهوة لي ولجميع الطاقم، نظرت إلى وجهه يفيض حباً وثقة، فكتبت هذه الأبيات:

جدد عهود المجد خير مجدد

ودع المواجع في يراع أسود

وانشر أريج النصر في درب العلا

أنت الفؤاد وأنت أعظم سيد

قلبي ينادي والنضال طريقنا

والراية الشماء ترفع في يدي

يا من عرفت بقربه صوت الفدا

ورأيت أحلاماً تردد في غدي

ناديت نور الفجر أرجو قربه

قد كان أبعد من مدار الفرقد

فأطل وجهك في الظلام ينيره

ويعيد مجد الخالدين ويفتدي

عمدت أطفالاً تصفق للردى

عمدت اطفال الحجارة فاشهد..

سعد بالأبيات، قرأها ووضع الورقة في جيبه..

وصلنا تونس وقمت بمهامي وعدت إلى فلسطين، وفي لقائي التالي معه في تونس، سألني: "هل أتممت القصيدة؟"، وكنت قد أتممتها، أخذ النص، ونادى على الأخ "أبو حميد" قائد القوات العسكرية، وطلب منه أن تقرا هذه القصيدة أمام القوات..

وفي نفس الزيارة، أعد اتحاد الحقوقيين ندوة للسيد الرئيس لاطلاع الكوادر على آخر التطورات السياسية..

قدم الرئيس المحاضرة، ووقفنا لتحيته بعد انتهاء المحاضرة، وأخذ يسلم على الحضور، ولما وصل إلي شدني من يدي لأرى نفسي قربه في سيارة الموكب..

صفق الجميع بإعجاب.

فكيف تستطيع الكلمات تصوير عظمة هذا القائد.

هذا هو الرئيس ياسر عرفات القائد الإنسان، الذي نقش له في قلوب الناس مكانة خاصة. ولا زال صوته يظهر عند كل مفصل سياسي، ولا زلت على عهد الكلمة والوفاء.

 

• ختاماً؛ تصدر هذه المجلة من الخرطوم فدعينا نبحث عنها في ذاكرتكِ مع شكر يطالكِ ومحبة لشخصكِ الكريم على هذه المساحة.

الدولة التي أعشق، والشعب الذي أرتبط به بعقد فريد. لا مجاملة حين ينبض القلب، وتطوف أمواج العشق به، لتكون علامات دالة في الوعي القومي العربي، والتي لا يمكن مواراتها، لأنها ستقفز في العيون وفي الكلمات وفي الملامح وفي الوعي المستحضر لآفاق دولة عروبية مناضلة، وقفت ضد الظلم، ثابتة الموقف من فلسطين والعروبة، سيدة الحراك الوطني والتعبوي، مركزية اللقاءات السياسية والفكرية..

فكيف لا أعشق، وأنا أنحاز لصوت العروبة والكرامة والكبرياء؟

وكيف لا أفتخر بها، وهي في صفاء الروح عندي بيتي الثاني، ومصدر الكلمة الملتزمة بأدباءها الذين نعتز بهم؟

هي السودان التي أطلت على روحي منذ الطفولة، والنبض العربي العروبي يسري في دمي، بوهج الطفولة والبطولة، حينما كنت ألازم والدي وهو يتابع الأخبار، وحينما يعقد الاجتماعات في بيتنا، وحينما كان صوت العرب يأتي بالأخبار مدداً..

تابعتها في مؤتمرات القمة، حينما طرحت اللاءات الثلاث، وكانت قفزة نوعية هامة في تلك المرحلة، والتي بقيت آثارها حتى الآن.

وحين كبرت بوعي الوطن والسياسية وروح القومية، أطلت علي ثانية، وان لم تغب، لتعبر شرايين الروح، لأدرك معنى أن تكون عروبياً صادقاً، ومعنى أن تحمل السودان مسؤولية الشخصية الوطنية.

لقد تعرفت على السودان بلغة السياسة من الاخبار والإعلام..

وتعرفت على السودان الكلمة والموقف، من رجالاتها ومبدعيها..

وتعرفت على إنسانها الحر، في زيارتي لها، وفي العديد من الشخصيات الذين التقيتهم في الجامعات، وفي الاجتماعات الدولية..

حينما كنت أحضر للدكتوراه في جامعة "اكسفورد" كانت معي في الكلية سيدة جميلة، خلوقة اسمها فاطمة شداد.. ربطتني بها صداقة حميمية، ومن خلالها تعرفت على الجالية السودانية، وشدني الكيفية التي يتعاملون بها مع بعض في الغربة، من تكافل وتعاون... لا زلت أحمل لها في روحي كل المحبة..

وكان للكلمة دور كبير في رسم صورة السودان في ذهني، فما كتبه الطيب صالح، كان علامة فارقة ورؤيا تحفيزية لمتابعة النصوص والتعرف من خلالها على هذا الشعب النبيل..

ولما زرتها، تعمق الوعي اكثر، وحظيت باستقبال رسمي وشعبي، زرت الرئاسة، وعدداً من الوزراء، وكذلك الفعاليات المتعددة من اتحاد الكتاب، رابطة الصحفيين، اتحاد المرأة وغيرها.. وقد غطت الصحف الوطنية هذه الزيارة، والتي كانت بتعليمات الرئيس عرفات، وبتنسيق سفير فلسطين لدى دولة السودان..

وقد زرتها ثانية بشكل رسمي وبتعليمات السيد الرئيس، من اجل توقيع اتفاقية تعاون ما بين وكالة الأنباء الفلسطينية ووكالة الأنباء السودانية.. وكان لقاءً مشرفاً..

وبعدها، زرت السودان مشاركة في المؤتمر القومي العربي الذي استضافته السودان.. وكان في الخرطوم.. كان لقاءً هاماً ومثمراً.. وعلى هامش المؤتمر، زرت مواقع كثيرة وشخصيات عديدة..

عشت فرحها، وأدركت حجم المؤامرات عليها... وكان لقائي بالطيب صالح في الجزائر كما تحدثت سابقاً.. هذا اللقاء الذي يعيش في أعماقي لكاتب حملت له كل تقدير وحب.

وظللت أتابع ما يجري، والقلب مجروح، أتابع الأصوات والكلمات.. أخاف على السودان ولا أخاف، لأنني اؤمن بأنها ستتغلب على الصعب، وستعيد البوصلة إلى مكانها الأمثل، مهما اشتدت التحولات، لأن الاصالة تفرض نفسها في النهاية...

تحية كل التحية للسودان حكومة وشعباً..

وتحية لأحرارها في كل مكان..

وتحية لاتحاد الكتاب ولجميع المبدعين السودانيين في كل المواقع...

من رحاب القدس والمسجد الأقصى.