المصرية القبطية
تاريخ النشر : 2020-09-17
المصرية القبطية


المصرية القبطية
   د. إبراهيم صبيح 

كان اسمها أم ثروت فإبنها الأكبر ثروت طبيب اسنان أما بقية أبنائها فهم هاني طالب الثانوية العامة و إحسان الطالب في كلية الطب.

زوجها توفاه الله وأبنائها صغار فقامت لوحدها بتربيتهم ورعايتهم. كانت هذه العائلة المصرية القبطية تسكن في بيت متواضع في شارع الجواهر في حي الحضرة  بالإسكندرية .ولكن كم كانت هذه العائلة الفقيرة غنية بالحب والحنان والعطف والمحبة. اذكر جيداً كم كنت فرحاً عندما التحقت بكلية طب جامعة الإسكندرية واطلعت على أسماء مجموعتي الدراسية في السنة الأولى فوجدت أنها تحتوي على اسم إحسان و إكرام. قلت في نفسي لابد أن وجود اثنتين من البنات وسط اثني عشر شاباً سوف يساعد على تلطيف الأجواء الدراسية. كان هذا قبل أن اعرف أن إحسان و إكرام هما شابان "خناشير" مثل بقية المجموعة.

تزاملنا أنا وإحسان و أصبحنا صديقان لا يفترقان فكنا إما ندرس في شقتي المتواضعة أو في منزل أم ثروت. ساعات الدراسة الطويلة كان لا يزيل كربها سوى مائدة الطعام الشهية التي كانت أم ثروت تعده لنا: البيض المقلي بالسمنة البلدية والجبنة الرومي والزيتون الأخضر والخبز الأسمر الذي كانت أم ثروت تخبزه في المنزل ويتبع ذلك الشاي الكشري. أما في الأعياد فكانت أم ثروت تصنع الكعك والبسبوسة المصرية وتخصني بحصة كبيرة. لم يكن الطعام هو ما قدمته لي هذه العائلة فحسب بل قدمت لي منزلاً الجأ إليه وعائلة احتمي بها وإخوة أعيش معهم في غربتي وفوق ذلك كله حنان الأم في الغربة.

ذات مساء كنت ادرس مع إحسان في منزلهم عندما فتحت أم ثروت باب الغرفة وأعربت عن قلقها من تأخر ابنها هاني في العودة إلى المنزل حيث كان قد ذهب للسباحة في بحر الإسكندرية منذ الصباح. خرجنا أنا و إحسان وقمنا بالبحث في مراكز الشرطة والمستشفيات وأخيرا وفي منتصف الليل تعرفنا على جثته في المشرحة حيث كان قد قضى نحبه غرقاً. وقع علي الاختيار لإخبار أم ثروت عن وفاة هاني ولم يكن سهلاً أن تنقل لها خبراً كهذا. عندما أخبرتها لم تتمالك السيدة نفسها فانهارت بكاءً. عندما تماسكت أمسكت بي ونظرت إلي بعيون جف منها الدمع وقالت: "لقد عوضني الله عن هاني بك"، وفعلاً فقد أصبحت فرداً من عائلة تادرس طيلة سنوات دراستي في الإسكندرية.

رجعت إلى الإسكندرية لأول مرة بعد خمسة عشر عاماً من تخرجي. بحثت عن صديقي إحسان فوجدته يعمل طبيب جراحة في مستشفى رأس التين في الإسكندرية وكان قد تزوج وأنجب أطفالا. سألته عن والدته فاخبرني أنها فقدت بصرها وأنها مقعدة نتيجة لمرض السكري المزمن الذي أنهك قواها. طلبت منه أن يأخذني لزيارتها فقال: لا تتفاجأ إذا لم تعرفك. دلفنا إلى منزل أم ثروت وكانت تجلس على كرسي متحرك تحدق في الفضاء البعيد. قال لها إحسان بصوت عالٍ حتى تسمع: لدينا ضيف يا والدتي .قالت: من؟ قال لها إحسان: لن أخبرك. جثوت على ركبتي أمام الكرسي المتحرك وقلت لها:إزيك يا أم ثروت.

فاض وجهها بتعابير متباينة وتحركت عيونها في كل الاتجاهات وأمسكت بكتفي وقالت:إزيك يا صبيح يا ابني.

بكت المرأة وأبكتني واختلطت دموعنا وهي تحتضنني بشدة إلى صدرها.

كانت تلك آخر مرة أشاهد فيها أم ثروت فقد فاضت روحها إلى بارئها بعد ذلك اللقاء بسنتين.

رحمك الله يا أم ثروت .... يا ابنة النيل الأصيلة.... رحمك الله أيتها القبطية النبيلة.
                                 
Email:  [email protected]