ديوجين.. رحلة البحث عن الإنسان بقلم:د. محمد سعيد حسب النبي
تاريخ النشر : 2020-09-16
ديوجين.. رحلة البحث عن الإنسان بقلم:د. محمد سعيد حسب النبي


ديوجين.. رحلة البحث عن الإنسان
د. محمد سعيد حسب النبي| أكاديمي مصري        

خرج في رائعة النهار يحمل في يده مصباحاً منيراً، وراح يبحث وينقب ويفتش، والناس من حوله يضحكون ويسخرون ويتعجبون، عن أي شيء يبحث؟ وما حاجته للمصباح! وقد كفته الشمس بأشعتها مؤونة حمل المصباح وضوئه، ولما سأله القوم عن هذا الذي يبحث عنه، جاءت إجابته عجيبة مثيرة، فقال: أبحث عن إنسان! إنه الفيلسوف اليوناني والحكيم الإنساني “ديوجين”. 

ومن المؤكد أن هذا الفيلسوف لم يكن يبحث عن إنسان بالمعنى التقليدي؛ وإنما يبحث عن القيم الإنسانية، عن القيم المطلقة، عن الحق والخير والجمال، عن الصدق والعدل والوفاء. والعجيب في الأمر أن هذه القيم لا تزال في حاجة إلى بحث من عصر “ديوجين” وإلى الآن، وما زلنا نبحث عن إنسان يحمل هذه القيم الراقية، والمعاني الإنسانية النبيلة. 

والسؤال الذي لطالما تردد، هل هذه القيم عزيزة على الوجود؟ هل كانت موجودة في عصر ما، ثم غابت نتيجة أسباب أو ظروف أو أحوال؟ وبعد بحث وتأمل أستطيع أن أقول صراحة؛ إن هذه القيم الإنسانية تتولد لدينا جميعاً، تتولد لدينا مطلقة ونقية ونبيلة، تولد معنا كاملة في مرحلة الطفولة، فالطفل هو الإنسان في أرقى معانيه، ولو تركناه على فطرته لحافظنا على الإنسانية في إخلاصها وإبداعها ورقيها وارتقائها، ولكن التدخلات التي تعترض طريق الفطرة قد تقود إلى انحراف إنساني يؤدي في النهاية إلى نضوب نبع الإنسانية؛ مما يستلزم بحثاً على النهج الذي قام به “ديوجين” في عصره، وسنحتاج إلى مصابيح كثيرة في رحلة لا تنتهي للبحث عن الإنسان الكامن فينا، ولا ندري أنه بين أيدينا، يحتاج فقط إلى رعاية وصقل لقيمه التي تولدت فيه بالفطرة النقية الطاهرة. 

وقد صار من اليقين التربوي أن الفطرة التي يولد بها الطفل هي بذور الإنسانية الخالصة والتي توفرت فيها عوامل بقاء ذاتي، وآليات نمو طبيعي شريطة عدم التدخل الذي يقود إلى انحرافها عن الطريق الأقوم الذي رُسم لها في أصل نشأتها؛ فأي اعوجاج يصيب الفطرة فهو بما كسبت أيدي الناس. ولقد اقترب جبران من هذا المعنى حين قال: إن أطفالكم ما هم بأطفالكم؛ فلقد وَلَدهم شوقُ الحياة إلى ذاتها، بِكُمْ يَخرجون إلى الحياة، ولكن ليس مِنكُم، قد تمنَحونَهُم حُبَّكُم؛ ولكن دونَ أفكارِكم، فلَهُمْ أفكارُهم، ولقد تؤون أجسادَهم لا أرواحهم؛ فأرواحُهُم تَسْكُنُ في دار الغد، وهيهات أن تلموا به، ولو في خَطَرات أحلامكم. وفي وسْعِكُم السَّعي لتكونوا مِثلهم، ولكن لا تُحاولوا أن تَجْعَلوهُم مِثْلكم، فالحياة لا تعود القهقرى، ولا تَتَمَهَّل عِنْد الأمس، أنتم الأقواس، منها ينطلق أبناؤكم سِهاماً حَيَّة.