ديوان تهداب أنس مصطفى بقلم:رائد الحواري
تاريخ النشر : 2020-09-15
ديوان تهداب أنس مصطفى بقلم:رائد الحواري


ديوان تهداب
قمر يتنهد في عتمة الشظايا
أنس مصطفى
عندما يُمتع الأدب القارئ فهذا يعني أن الكاتب أوصل رسالته، فبعد المتعة الأدبية كل شيء مفبول، عنوان الديوان يأخذنا إلى الفرح "قمر يتنهد" وإلى السواد "عتمة الشظايا" وهاذين الأمرين قريبا جدا من الشاعر، لأنهما "بالقرب من العين، في "هدب/تهداب" وكأن العنوان يشير إلى حرص الشاعر على حماية الفرح والالم معا، فهل هذا منطقي؟، أم أن له أسباب ودواعي، منطقيا يمكننا ان نقبل الحفاظ على الفرح وحمايته، لكن ـ منطقيا ـ لا يمكن ان نقبل الاحتفاظ بالألم وحمايته، لأنه ألم مواجع لنا، فنحن نسعى لهروب منه، نسيانه/تجاهله، لكن بعد ان نقرأ الديوان سنجد أن هذا الألم، قدم بشكل (جميل)، من خلال اللغة والصورة الشعرية، مما جعله ألما (خفيف الظل)، وحتى في ذروة الألم، نجد (انفعال) الشاعر ينعكس على (شكل) التقديم، بحيث قدم الألم بوتيرة سريعة ومتواصلة، وكأنه يريد أن ينهي هذا الالم بأسرع وقت ممكن، فلا مجال لوضع فراغات/مساحات بين الفقرات، كل هذا ساهم في ازالة الألم ، والتخفيف من أثره.
ومن الوسائل التي استخدمها الشاعر لجعل الألم (جميل/خفيف) الاستعانة بالمرأة والطبيعة، وهما من عناصر التخفيف/الفرح، كالكتابة، والتمرد/الثورة، من هنا سنبدأ الحديث عن جمالية تصوير الألم، يقول في قصيدة "مثل طير أخذته الزرقة والجمار":
"كنت القطرة التي سالت على صخرة الحياة
كنت الممرات تفضي إلى النهر
كنت الوقت الذي اخضر قربي
كنت الجهات التي أمطرت فيها،
ويداك كانت تربتا على وحش الليل
فتستحيل عصافير وحنان" ص10،
الشاعر يقدم المرأة على هيئة "عشتار" فهي من (يحضر/يأتي) بالخصب والخير والجمال للطبيعة وللناس، وهي من تزيل/تمنع الشر والخرب عنهم، واللافت ان الشاعر يستخدم "الماء" بالمنظور الثقافي الأدبي القديم: "القطرة، سالت، النهر، امطرت" فكل هذه الألفاظ متعلقة بالماء، أما أثره فنجده في "الحياة، اخضر، عصافير" هذا على مستوى الخير والخصب، ويضاف إليه أعمالها في منع الشر/الجذب، والذي نجده في "صخرة، وحش/الليل"، لكن أثرها لا يقتصر على الماديات، فالإنسان ليس (حيوان) همه الأكل والشرب والتناسل، بل له اهتمامات روحية، فنية، من هنا يتم تناول أثرها النفسي/الجمالي/الروحي من خلال: "الوقت اخضر قربي، الجهات امطرت، عصافير وحنان" فالوقت نجد أثره النفسي على الشاعر من خلال "قربي" بمعنى أنه اطمأن بوجدها وبأفعالها، كما أن هناك جمال في "أخضر" فحصل على متعة فنية، وهذا يؤثر إيجابا على نفسية الشاعر، وهناك جانب اجتمع/تزاوج فيه الروحي/الاخلاقي مع الجمالي/الطبيعي، والذي جاء في: "عصافير وحنان" بمعنى أن المرأة/عشتار تصقل الشاعر وتجعله أكثر روحانية، وتفهما/معرفا بمتعة الجمال.
ومن آثار المرأة/عشتار الإيجابية على الشاعر معرفته للطريق وللجهات: "الممرات تفضي إلى النهر، الجهات" وهذا يشير ـ بطريقة غير مباشرة ـ إلى نجمة الصباح/ إلى عشتار، التي يستدل بها لمعرفة المسار الصحيح، وإذا ما توقفنا عند: "كنت الممرات تفضي إلى النهر" يمكننا القول أن الشاعر رمز إلى فلسطين، إلى الطريق/الممرات التي توصله إلى الوطن/النهر. ويشير استخدام كلمة "الممرات" التي يتكرر فيها حرف الميم، إلى العقل الباطن للشاعر، إلى العلاقة الحميمة التي تجمعه بالنهر، كما أن معنى ممرات، الكثرة وتعدد الطريق، وكلها توصل/تؤدي إل الوطن/النهر.
وفي قصيدة "خبز الغريب" نجد "المرأة/عشتار حاضرة وبكل جلاها:
"ثم أبصرتك تحملين الغدران ثانية فيرتوي كل شيء بطيوبك، ترتوي الأنهار والصحارى، الناس والشجر، السهد والمواقد، ويغفو كل تعب على عتباتك، ثم أبصرك أعيادا في البيوت المنسية، أطراقا في التلويحات الأخيرة، أبصرك أغنيات لا تزال على شفاه المواقيت، فوانيس تتخافت عند حافة الفجر وعبر الظلام" ص97.
هناك وتيرة متواصلة والسريعة في الحديث، وهذا يشير إلى (انفعال) الشاعر، فجاءت الصورة الشعرية أقل جمالية مما جاءت في البداية، ونجد هذا (الانفعال) من خلال استخدم الشاعر لضمير المتكلم، "أبصرتك" أنا، وصفات وأعمال وقدرات وأثار عشتار/المرأة حاضر وفعال على الطبيعة والكائنات والناس معا، "فيرتوي كل شيء، ترتوي الأنهار..."واعتقد أن الشاعر لو لم يكن (متأثرا) لما اسهب في التفاصيل، "الأنهار ... المواقد" لكن موضوع القصيدة "خبز الغريب" جعله يقدم على هذا(التوضيح والتفصيل).
ولكن هناك جمالية تطرق إليها الشاعر والتي تكمن في طقوس الفرح التي تقام احتفاء بقدوم "المرأة/عشتار"، والتي نجدها في "الأعياد، أغنيات، فوانيس" وقد حدد وقت انتهاء الاحتفاء والذي ينتهي مع بزوغ الفجر: "فوانيس تتخافت عند حافة الفجر وعبر الظلام" ولم يحدد وقت البدء، لكن "فوانيس تتخافت" تشير إلى انها بدأت بعد الغروب مباشرة، لهذا (تعبت الفوانيس)، كما تعب الناس لطول وقت الغناء والفرح الذي قضوه.
الشاعر في ديوانه لا يذكر اسم أي المكان/أو جغرافيا ولا يحددها، وهذا ما جعل الجغرافيا/المكان الذي تحدث عنه عام لكن الناس الذين هجروا من بيوتهم غصبا وكرها، وهذا ما يُحيي (الحنين) إلى المكان عند كافة المهاجرين والمهجرين، يقول في "مثل طير أخذته الزرقة والجمار":
"في الليل تصحو النواحي القديمة،
تتوه في الطريق القديم،
الطريق الذي ضيعته البيوت.
البيوت ستذكر سكانها
في الجهات البعيدة،
انسامها في الخريف البعيد." ص12.
إذا ما توقفنا عند الألفاظ المجردة سنجد هناك عدد من الألفاظ القاسية: "تتوه، ضيعته، البعيدة، الخريف، البعيد" وهذا يشير إلى (خريفية) الفكرة، وأن الشاعر (ممتعض) من الناس بحيث أنه أهملهم وتجاهلهم، حتى أنه جعل "النواحي، البيوت" هي من يتوه وليس الناس، وهذا يشير إلى (غضبه) منهم وعليهم، وحتى عندما استخدم لفظ "سكانها" جعلهم بهيئة (جماد) وجعل البيوت الأحياء، تستذكر/هم.
يشير الشاعر إلى (غضبه) من الهجرة وعلى تركه المكان، من خلال استخدامه: "النواحي، الخطى، الطريق (مكررة)، البيوت (مكررة)، الجهات، البعيدة، البعيد" وهذا ما يجعل النص متكامل ومنسجم، تجتمع فيه الفكرة والألفاظ، فيمكن للقارئ أن يصل إلى فكرة، قسوة الهجرة من خلال الألفاظ المجردة أضافة إلى المعنى.
كما أن تكرار "الطريق، البيوت، بعيد/ة" تثير انتباه القارئ، وأن هناك ألم يكمن خلف هذه الكلمات، وما كان تكرارها إلا تأكيد على حالة الألم الذي يعانيه الشاعر.
أما طريقة تخفيف الألم على القارئ فجاءت من خلال جمالية الصورة في " تصحو النواحي القديمة، الطريق الذي ضيعته البيوت، البيوت ستذكر سكانها" فيبدو الحديث وكأنه يدور حول اشاء جامدة، "بيوت نواحي، طريق" ولا علاقة للناس فيها، وهذا اسهم في اخفاء الألم الإنساني من خلال إزاحته خلف الستار، وبهذا تصل الفكرة بأقل الأضرار على المتلقي.

الشاعر يركز على ذكر النهر في أكثر من موضع، حتى أنه أقرن عنوان قصيدة بالمكان/النهر، "كان النهر يجري والينابيع تنادي" وهذا يشير إلى فلسطين والنهر الذي يفصلها عن المشرق العربي، يقول فيها:
"5
ها تصفو كغمامة في رقة الفجر.
يبتل قلبك بالحياة ثانية،
تتفقد الأيام حولك،
عطشان مثل قرى غادرتها الينابيع
تغرق في أوقاتك النائية.
مصقولا ووحيدا
كالسيف الذي يلمع في خاصرتك،
في عزلتك الآسرة." ص37و38.
من خلال هذا المقطع يمكننا القول أن الشاعر وجد/وصل أرض النجاة، لهذا افتتح المقطع بالبياض: "تصفو، كغمامة، رقة، الفجر، يبتل، قلبك، بالحياة" لكن هذا البياض لا يلبي (طموح/رغبة/حاجة) الشاعر الروحية والنفسية والعاطفية، ولهذا نجده يتذكر الماضي، فيقرن نفسه بالقرى والعطش، والجميل في هذه الصورة ـ رغم ألمها وقسوتها ـ أنها جاءت بصيغة أنا، تتداعي ضمير المخاطب، فالشاعر يخاطب نفسه، وهذا يخفف شيئا من الألم على القارئ، فالمخاطب (مجهول)، كما أن الصورة الشعرية: "عطشان مثل قرى غادرتها الينابيع" تعطيه مساحة لتمتع بالجمال، قرى وينابيع، فالطبيعة الريفية تمنح الهدوء والسكينة، وإذا اضافنا إلى ما سبق، أن جمالها يترك أثرا نفسيا ايجابيا على القارئ، يمكننا القول أن القتامة والسواد اختفت ولم يعد لها وجود.
وإذا تقدمنا من المكان/فلسطين سنجد أن هناك اشارة استخدمها الشاعر من خلال : "كالسيف الذي يلمع في خاصرتك" فهل هو سيف اغنية "فيروز" "سيفا فليشهر"؟، بما أن هناك قرى وينابيع ونهر، كل هذا يأخذنا إلى فلسطين، إلى أن الجغرافيا التي ينتمي إليها الشاعر، فهي خلف النهر.
أكثر قصيدة تتحدث عن الألم، "خبز الغريب" وهذا يظهر من خلال اكثر استخدام لفظ "غريب" ومن خلال المعنى الألفاظ:
"تلك مساكنك البعيدة يا غريب، تلك مساكنك مشغولة بالأمل، تلك مساكنك عند نحر الظهيرات فهل تراها؟ تلك مساكنك برواكيبها التي من ذهب المقيل وليمونها، تلك مساكنك أيها الغريب بكسرة إفطارها وقهوة فجرها تفتح البيبان لك، تغدق أحضانها على نواحيك فخذها، وانهر اليأس المقرفص في عتباتك يا غريب وخذها" ص76.
تكرار "مساكنك" خمس مرات، واسم الاشارة "تلك" خمس مرات، و"يا غريب غريب" ثلاث مرات/ يشير إلى اهتمام الشاعر بالمكان، وبصاحب المكان/الغريب، لكن اهتمامه بالمكان أكثر، لهذا سبق واقرن لفظ "مسكنك" بتلك، وكأنه ينبه الغريب إلى أهمية المكان، ليحثه على التقدم منه، كما أنه يرسم صورة المكان الحي، لهذا نجده يتطرق إلى "برواكيبها، ليمونها، إفطارها، قهوة فجرها، احضانها" واللافت أن الشاعر لا يتناول الماديات فحسب، بل الجماليات/الروحانيات أيضا، من هنا اقرن وجمع كل ما هو مادي مع ما هو الروحي، فالمكان كالإنسان يتكون من مادة/جسد وروح.
والجميل في هذا المقطع خاتمته جاءت بصورة مذهلة، "وانهر اليأس المقرفص في عتباتك يا غريب وخذها" فجاء اليأس على صورة شخص (مقرفص) بلا عمل/خامل، وأين؟ على عتبة الغريب، لهذا وجب نهره وصرفه.
كلما أراد الشاعر الحديث عن الألم/القسوة/القهر يتقدم العقل الباطن للشاعر، ويلجأ إلى الصور الشعرية، ليخفف بها ـ قدر الامكان ـ على القارئ، فالباطن فيه (يعي) أن الحديث عن الألم ألم، ويتعب المتلقي، من هنا تأتي دوافع الصورة الشعرية:
"12
رهق مضن لا محالة،
خفير متعب في جنائن الروح يسهر" ص84، وهنا أيضا الشاعر يستعين بما هو بشري ليصور التعب/اليأس، فقدم ال"رهق" بصورة رجل أمن/خفير ومتعب وفي ذات الوقت يستمر في حراسته/يسهر.
الديوان من منشورات جيل جديد الثقافة، الكتاب (21).