عودة إلى الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني بقلم: د.يسري عبد الغني
تاريخ النشر : 2020-08-29
عودة الى الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني بقلم/ د.يسري عبد الغني
أما المآخذ التي تؤخذ على الأصفهاني في كتابه الأغاني : فإنه وقد تأثر بأخلاقه الشخصية وبمنهجه في التأليف اهتم بسرد الجوانب الإنسانية في حياة الشعراء ، وركز على جانب الخلاعة والمجون في تصرفاتهم ، وأهمل الجاد الرزين المعتدل منها ، مما يوهم القارئ ، وقد أوهم بعضهم فعلاً ، بأن بغداد لم تكن على أيامه غير مدينة حافلة بالمجان والخلعاء والقيان والسكارى ، ولقد كان في بغداد هذا اللون من الحياة حقًا ، ولكن الحق أن هذا الجانب لم يكن كل ما هنالك ، وإنما تقوم إلى جانبه ، وعلى نحو أكثر إشراقًا ، حياة علمية جادة ، ودعوات صوفيه صافية زاهدة .
إنه قصد بكتابه الإمتاع لا التاريخ ، ولذلك فهو يهمل من الأخبار ما ليس جذابًا حتى ولو كانت فيه فائدة ، ويعمد إلى كل ما هو شائق وفيه تسلية من القصص والحكايات والفضائح (ويبدو أنه في تراثنا كان مؤسسًا لصحافة الفضائح) ، حتى ولو كان قليل الأهمية ، ومن ثم فإن أخباره ، على أهميتها تمثل جانبًا واحدًا من الحياة أرخ لها لا كل جوانب الحياة ، ومن هنا تحتم على كل مؤرخ أراد أن يجعل من الأغاني مصدرًا يعتمد عليه ، عليه الحيطة والحذر ، وإتباع المهج العلمي النقدي عندما يتعامل مع الأصفهاني وكتابه الأغاني .
ونضيف هنا أن المادة التي جمعها الأصفهاني في كتابه يمكن أن تعد ذخيرة ثمينة لمؤرخ الأدب ودارس الأحوال الاجتماعية في الحياة العربية ، وقد اختصر الكتاب أو هذبه طائفة من الأدباء في عصور مختلفة ، منهم : ابن المغربي ، وابن المسبحي ، وابن واصل الحموي ، وابن منظور الإفريقي ، ومحمد الخضري وغيرهم .. وغيرهم ..
كما أن أخباره عن خلفاء الدولة الأموية أو بني أمية وقد كتبت في ظل العباسيين ، وما رواه عن الخلفاء العباسيين أنفسهم ، يجب علينا كباحثين وقراء ، أن نأخذه بحذر شديد لأنه استند فيها إلى أخبار القصاص الواهية ، هذا فضلاً عن أنه يخطئ في روايته على قلة ، ونلاحظ إغفاله ترجمة الشاعر العباسي الكبير / أبي نواس (النواسي) إغفالاً تامًا على الرغم من اتفاقهما في المنزع الأخلاقي ، كما أغفل شاعر الفكرة والعقل الشاعر العباسي الكبير / ابن الرومي ، على مكانته الشعرية وحسه الإبداعي الراقي ، بينما أفاض في أخبار آخرين أقل منه قدرًا .
ويجدر بالذكر هنا أن كتاب الأغاني تم طبعه بدار الكتب المصرية بالقاهرة ، طبعة محققة مفهرسة مشروحة بدأت من سنة 1345 هـ = 1927 م ، وخرج منها ستة عشر جزأ ، وكان قد طبع هذا الكتاب قبل ذلك بالمطبعة الأميرية سنة 1285 هـ ، في عشرين جزأ تنتهي بأخبار عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير ، كما نشر المستشرق الأمريكي / رودلف برونو جزأ تم طبعه في ليدن الهولندية سنة 1305 هـ = 1888 ، وقال إنه : الجزء الحادي والعشرون من الأغاني ، ولكن بعض الباحثين ـ ونحن منهم ـ نشكك في صحة هذا الجزء لأنه على غير طريقة أبي الفرج وأسلوبه ، وطبع الأغاني طبعة ثانية بمطبعة التقدم بمصر سنة 1323 هـ ، بتصحيح السيد / أحمد الشنقيطي ، ولهذه الطبعة فهارس تفصيلية مهمة في أربعة أجزاء .
وأخيرًا فقد لقى هذا الكتاب من العناية بشأنه أكبر مما لقيته (ألف ليله وليله) ، هذا الاهتمام الذي تمثل في العناية بطبعه ، وإخراجه ونشره وإذاعته ، ثم في الدراسات والأبحاث حوله ، ثم تيسيره وإتاحته لكافة المستويات على هيئة : تجريد الأغاني ، وتهذيب الأغاني ، ومختارات الأغاني ، ثم أيضًا حلقات إذاعية ومسلسلات ، ورغم ذلك نحن نطالب بإتباع المنهج العلمي في التعامل مع هذا الكتاب ، فليس من المعقول أن يصبح عند البعض هو المصدر الأول لكل الدراسات الأدبية تقريبًا ، ويتعدى الأمر إلى جعله مصدرًا للتاريخ ، وقد كتبنا ذلك وأكدنا عليه في العديد من مؤلفاتنا وأبحاثنا ومقالاتنا .