حوار مع القاص والروائي التونسي محسن بن هنية
تاريخ النشر : 2020-08-22
حوار مع القاص والروائي التونسي محسن بن هنية


محمد المحسن

مع القاص والروائي التونسي الألمعي محسن بن هنية

(الكتابة محاولة افلات من كل ضغط)

إذا كان أحد المؤرخين قد تحدث من قبل عن الوجه الانساني للثقافة محددا شروط انسانية المثقف: رحابة الخيال والتسامح والبساطة وروح الدعابة فان محسن بن هنية ـ يمتلك هذه الشروط فضلا عن ثقافة موسوعية تجعل الجالس اليه ينتقل من التاريخ الى الفلسفة الى العلوم الى الشعر قديمه وحديثه ورغم هذا لم يكن بن هنية عجولا فقد عاش وانفعل لكي يكتب ما كتبه ولم يكن الوضع سهلا بل من المحال ان تكون الخطوة مريحة داخل ساحة الابداع او على حلبته «الملتهبة» ولعل ما حصل عليه ـ بن هنية ـ من مكاسب الاعجاب والحب من قبل قرّائه كان امرا عسيرا لولا تمكنه من معرفة سايكولوجية قارئ الرواية ولولا ثرائه اللغوي ومعرفته باصول السرد ودقة الاسلوب واحتمالية الرؤية.. ومن هنا فان الاسئلة التي يمكن ان تطرح عليه كثيرة ومتعددة ويعتبر هذا الحوار الذي اجريناه معه محاولة للدخول الى عالمه الابداعي واضاءة جوانب اساسية من هذا العالم الذي لا يزال مشرعا على رؤية تتجدد باستمرار.

*بداية لا بد من السؤال على التجريب في تجربتك الادبية، فانت دائم البحث والتجديد في رؤيتك فهل يعكس ذلك محاولتك لمواكبة الجديد في عالم الادب ام يعبر عن حاجة ذاتية هي التي تفرض ذلك على مسيرتك الابداعية؟

-هناك أمران قد انبثقا عن سؤالك وكأنك تريد ان تقود اجابتي الى احدهما او كليهما الاول عن الحاجة الى التجديد والبحث وهو من صفات الحداثة التي تقودنا اليها طبيعة العصر والثاني هو محاولة مواكبة الجديد في الادب وفيه التجلي الاكيد لغريزة الثقافة الابداعية والامران يبدوان مؤهلين لسد ثغرة في التساؤل الملح عن التجريب كما انهما لا يبتعدان عن نتائج يصل اليها التجريب ليس مذهبا ومدرسة ادبية كما هو الحال في الرومانسية او الواقعية مثلا بل هو اسلوب تفكير اهتدى اليه العقل الانساني لمواجهة المساحات القائمة والواقع المسيطر والثوابت التي يقف منها في وجه الاجتهاد المطالب به العقل ابدا. والتجريب هو امتحان لاسلوب الكاتب في الوصول الى صيغ تعبر بشكل افضل عن المعنى وهو تفحص مستمر لما كانت عليه الكتابة من قبل لفسح المجال امام الاستمرار فيها او الانتقال الى حالات اخرى وبمعنى ما فان التجريب هو الوليد المعرفي للاساليب العامية في النظر الى الظواهر والافعال والطرائق المتداولة في مسيرة الحياة..ان ثقافتنا المعاصرة تمر بمحنة قد تكون امتحانا قاسيا وحاسما فهي تتأرجح بين ما هو حال متصلب الشرائين مقاوم للتطور وبين ما هو حداثوي لا يستند معظمه الى قواعد تفاعل الثقافة من الداخل فيصبح في كثير من الاحيان فريسة لاستلاب خارجي الا ان هذه الثقافة ترغب مع ذلك في البحث عن طرائق مختلفة لاثبات ذاتها بالاجتهاد والانفتاح على وجوه المعرفة المتعددة والتي يشكل العلم واحدا منها والمنطق العقلاني وجها آخر والمغامرة الروحية وجها ثالثا يتمثل في النزوع الى الاضافة والتجريب لدى الباحث عما يمكن ان يحقق الطموح الازلي للنفس ويبدو انني قد تملكتني الرغبة في اختيار الطرف المؤهل للانتصار.

*هنالك محاولات لاستثمار الرؤية الصوفية في بعض اعمالك الروائية فالى اي حد حاولت ان تستفيد من هذه العوامل الروحية والتراثية في تلك الاعمال؟

-الرؤية الصوفية هي خلاصة نقية للتجربة الانسانية وهي اعلى درجات التعلق الروحي بالقيم السامية للحياة وانا بصفتي ـ كاتبا تجريبيا ـ مايزال يبحث عن تحقق نفسه وعن الطريقة التي يتواصل بها الى افضل مما هو عليه في الوقت الراهن اعترف باني لم اتوصل الى تلك الرؤية الصافية الا انني لا انكر التأثير العميق للفكر الصوفي في نفسي والذي يشكل احد الجوانب الفكرية المتعددة القوية وهي تؤثر في تكويني الروحي... وبشكل عام الرواية لها علاقة وثيقة بالزمن وقد تكون ممثلا دائما للزمن. والماضي هو الزمن المتحول الى خزان الذكريات لذا فهو اخطر انواع الزمن في تقويمه للحياة وفي الكشف عن الزمن الحاضر وللمساعدة في السعي الى الزمن القادم بوعي ورؤية ناشطة وعليه فان الرواية عندما تتحدث عن اي زمن فانها تنطلق اصلا من رحم الزمن المنصرم ومن هنا تأتي العلاقة بين الرواية او القص بشكل اعم وما هو تراثي، لان معمل الزمن هو الذي يخمر التاريخ ليصبح جانبا منه تراثا يؤكد على ارتباطنا العضوي بالماضي كما يفجر حلمنا بمستقبل نتطلع اليه. ومن طرف آخر فان الافكار التي تتفاعل في نفسي لتأخذ شكل رواية لم تبتعد عن المخزون الروحي والتراثي الذي يتسرب الى الرواية دون ارادة مني، فالكتابة عندي اصلا هي الاستجابة الغريزية لمحتويات البطارية المعرفية التي يرتب مفرداتها التفاعل الكيماوي للقيم الروحية والحقائق التراثية مع الحاضر الذي تكتب خلاله لغة النص. لذا فان الرواية هي سجل لجانب ضئيل من الزمن الكبير في دلالته التي يستخذمها الادب لتفحص مسيرة الزمن.

*شخصياتك الروائية يبدو وجودها مرتبطا بانتاج الدلالة في النص،فهل هذه الشخصيات تولد لديك كاملة ام انها تتمرد على المصير الذي تحاول ان ترسمه لها وتفرض بالتالي خروجا على مسار السرد الحكائي المرسوم؟

-لقد علمتني ـ التجربة الابداعية ـ ان أدرّب نفسي على المساعدة في اطلاق الحرية الكاملة للشخوص التي تحرك الاحداث في العمل الروائي او اي عمل فني آخر.وهذا يعني ان الفكرة الاساسية للرواية هي التي تجتذب الى تحققها النماذج الانسانية فيها. وان خروج شخصية ما عن مسار الفكرة احيانا يأتي في سياق تصحيح تلك الفكرة فكأنها بذلك تؤكد على ديمقراطية الافكار الفنية. ولاريب في ان الابداع يجد الوسائل من داخله ليجعل الارتباط بين الفكرة والشخص يسعى دوما الى تأكيد حرية للنص في التعبير عن نفسه من اجل تحقيق اكتماله ان لم نقل كماله المستحيل...

*هذه الاجابة المستفيضة ـ تنقلنا لسؤال آخر: ان جميع رواياتك تثير سؤالا عن الحالة التي تكتب تحت ضغطها حتى يبدو لي وكأن هناك شعورا بالاحباط ومحاولة للافلات والخلاص!؟

-هذا السؤال يحمل الجواب والسؤال معا. فالكتابة بديهيا لا تكون الا تحت حالة ضغط وان اختلفت الحالات فكلها ضاغطة، فقمة الفرح دافع ضغط وكذا الحزن والمأساة وحتى التأمل والتفلسف. هذه كلها شحنات ضاغطة على الذات الكاتبة اذ يحصل بعد «انفجار» او افراغ في شكل لغة مشحونة بهذه الضغوطات مترصدة بالذات القارئة لتنفث فيها الشحنة. قد تمتلئ بها حد الشعور بالمتعة ـ متعة النص ـ او السلبية درجة الاشمئزاز... وهكذا نفهم ان الكتابة هي في اصل دوافعها محاولة افلات وتخلص من ضغط ما. او لا معنى لها او ضرورة منها... اما الشعور بالاحباط فهذا شعور خاطئ الا في حالة سوء الفهم. لان الكتابة تساوي في حد ذاتها رفضا للاحباط ونفيا للصمت والخنوع والاستسلام.

*أفهم من كلامك انك تقف ـ بنصك الابداعي ـ عند تقاطع البساطة والتعقيد لابراز حقيقة المعنى المتجذر في اعماقك؟

-تبدو لي اسئلتك لجوجة،شعوري في نهاية الامر مرتبط بصورة جذرية بالإختبار الداخلي وباتصال هذا الاختبار بالتعبير عنه عن طريق اللغة..

*سأكون جريئا معك اكثر:ما هو جانب الابداع والتخييل في اعمالك؟

-كل وجودي مشكّل من الخيالي والواقعي وأنا أحاول أن اكون خلاصتهما..

*كيف ترى تطور الرواية العربية وصولا الى اللحظة الراهنة؟

-قد لا ابالغ اذا قلت ان الرواية العربية قد ولدت على يد «المويلحي» في حديث عيسى بن هشام قبل بداية القرن العشرين بعامين ورغم كثرة السجع الذي كان من خصائص الشكل التقليدي للمقامة في هذا النثر لكنه جاء منشغلا بحياة الناس الفعلية وما تعرضت له من تغييرات والشيء اللافت للنظر تخلص هذا الجنس الوليد بسرعة من اغلال النثر التقليدي ودخوله عالم الرواية المواكبة لرياح الواقعية التي جلبتها الثورة الوطنية في اعقاب الحرب الكونية الاولى، لكن اجهاض هذه الثورة ألقى بالمجتمع من جديد في هاوية الاحباط ودفع بالرواية الى شراك الرومانسية والافتعال والخواء.وجاءت الحرب الكونية الثانية لتؤجج طموح فئات جديدة من الطبقات المتوسطة والطبقات الشعبية الاخرى ولتضع قضية الاستقلال والمشروع القومي في جدول الاعمال بعد ان هزت كثيرا من الانظمة الاجتماعية والاخلاقية السائدة في العالم العربي وازدهرت القصة بمولد تيار واقعي جديد في مختلف اتجاهات الفنون وباستمدادها لشخوصها من صميم الواقع الفعلي ولغته الفعلية حيث لم يعد هناك مانع من الاستعانة بالعامية،نتيجة لهذا بدأنا نجد مكان الرواية التقليدية مغامرات تعتمد التجريب والتغريب وتتخلص من عنصر الزمن تحاول الغاء عنصر المكان وتقلل من شأن الحدث والتشخيص السيكولوجي والتموضع الاجتماعي وتفجر اللغة وتلج عالم الحلم وتهويمات تيار الوعي الداخلي وتنفي العاطفية والغنائية والانفعال وبدأنا نجد تماهيا عند البعض مع جانب احادي من التراث وتسللت الرؤية الصوفية الى النصوص بجناحيها: الاعتراض والانسحاب وجرى الاحتفاء بهذا الاتجاه على انه تأصيل «للشكل الروائي العربي»... في الطرف الاخر وجدنا قناعة بان الكتابة ليست قيمة شكلية فقط بل هي اساسا قيمة دلالية تحاول اختراق العتمة المسدلة حولها حيث تحجب الدول الحقائق والمعلومات من خلال سيطرتها على اجهزة الاعلام التي تحجب الحقائق او تشوهها. ومن ثم تسللت الى الكتابة الادبية اشكال الخطاب السياسي والخبر الصحفي والوثيقة التاريخية والفيلم السينمائي والنص المسرحي فضلا عن التعبير الشعري وكثيرا ما تم المزج بين اشكال جديدة في بناء متكامل.. من هذا المنطلق نلمس الخيط الذي يربط بين هذا التمرد الذي حدث للرواية وبين نشأة الرواية العربية ألا و هو محاولة الامساك بالواقع بكل تفاصيله وان ذلك هو العنصر الرئيسي في عملية الابداع وتطويره..

*ومن هنا على ما أحسب،جاءت شخصياتك محددة المواقف واضحة لها إسم وواقع اجتماعي تتحرك فيه و لها «زمان» وإن لم يكن لها مكان محدد...؟

-الشخصية الروائية الواقعية لا تعني بالضرورة الشخصية الموجودة فعلا في الواقع وانما الممكنة الوجود التي تعيش في شروط معينة تحدد لها منطقها ونظرتها وطريقتها في مواجهة الواقع والانسان اي انسان وان كان من لحم ودم ويعيش في واقع. ومن الممكن ان يفرزه هذا الواقع لا بد ان تكون له فلسفة كاملة تجاه كل شيء. قد لا يكون قادرا على التعبير بوضوح عما يفكر به ويحلم ويريد... وقد تكون ردات فعله في بعض الاحيان غير متوازنة مع الواقع... لكن هناك في اعماق الوجدان واعماق العقل ثوابت فكرية ووجدانية هي التي تملي عليه الفعل او رد الفعل... احد الاخطاء التي يقع فيها بعض الكتّاب هو ان الكاتب يعجز عن الوصول الى التصور الدقيق والحقيقي للشخصية الامر الذي ينتهي به الى خلق شخصيات من شمع، شخصيات موهومة يمكن ان تثرثر بافكار كثيرة لكن الشيء الاساسي المفقود هو الروح... هو الدم الذي يعطي الشخصية وجودها وواقعيتها وبالتالي نكهتها المتميزة من خلال هذه «الواقعية المفترضة» ـ اي الممكنة الوجود وحتى لو لم تكن موجودة فعلا، اما بخصوص المكان فعدم تحديده في احيان معينة يأتي بهدف التعميم...وايضا لبعض الاعتبارات ـ الاخرى ـ ولكن عدم التخصيص في احيان كثــيرة هو

بحد ذاته تخصيص اي انه ليس هروبا من تحديد المــكان بـقدر ما يراد منه ان يكون المكان واسعا وعاما بحيث يشمل ويعني حتى الذين يتوهمون انهم غير معنيين...

*ما رأيك ان نغير ـ بسؤالنا هذا ـ دفة الحديث قليلا: ما العمل الذي حلمت ان تكتبه ولم تفعل؟ ثم في اي مرحلة من مسيرتك الابداعية تعتبر نفسك الآن؟

-العمل الذي حلمت ان اكتبه ولم اكتبه بعد هو رواية لم ـ تكتب من قبل ـولا مثيل لها فيما كتبت، خارقة وغير مألوفة.هذا الذي احلم به دائما وهو إلى رضا الناس اقرب اما في اي مرحلة؟ فالجواب بديهي عند الكاتب حيث يظل يلهث خلف نقطة الاكتمال وهي تتماهى وتتخفى ولذلك انا لا اشذ عن هذه القاعدة التي تنتهي بنا الى نقطة البداية.