الفلسطيني يسكنه وطنه بقلم:مهند إبراهيم أبو لطيفة
تاريخ النشر : 2020-08-15
الفلسطيني يسكنه وطنه بقلم:مهند إبراهيم أبو لطيفة


الفلسطيني يسكنه وطنه
من قرية صُرغة المدمرة إلى المنفى
مهند إبراهيم أبو لطيفة

طالما بقي الإحتلال الإسرائيلي جاثما على صدر الأرض الفلسطينية، لن تنتهي حكايات جرائم الإقتلاع والتشريد التي يتعرض لها الشعب العربي الفلسطيني، كشواهد حية على طبيعته الإستعمارية التوسعية منذ النكبة.
من بين مئات القرى الفلسطينية التي لقيت هذا المصير، قرية صرعة التي تبعد قرابة 25 كم إلى الغرب من مدينة القدس ، وحوالي 28 كيلومتر جنوب- شرق الرملة.، والتي تم تشريد أهلها منها والبالع عددهم قرابة 400 نسمة، ومصادرة أراضيهم البالغة مساحتها 5000 دونم أو ما يزيد.
أقام الإحتلال الصهيوني على أراضي القرية - بعد تدمير بيوتها- مستعمرتي "كيبوتس تسورعة" و " تاروم" عام 1948.
تقع قرية صرعة فوق أحد التلال الأثرية الذي يشرف على سهول اللد والرملة. وترتفع 370 مترا عن سطح البحر.
وجد بالقرية كهوف وقبور قديمة وصهاريج منقورة في الصخر، وعيون ماء في قيعان الأودية ، ومعصرة قديمة للكرمة ما زالت آثارها موجودة، مما يدل على عراقتها وجذورها الكنعانية العربية، وذُكرت في العهد القديم ( التورة) أكثر من مرة وتحديدا في سفر القضاة ( الإصحاحات 13-19 ).
تحت إدعاء صهيوني بأن الشخصية التوراتية " شمشون الجبار " قد ولد في القرية، حول الإختلال القرية إلى مزار سياحي ديني، وعمل على طمس معالمها الكنعانية، متناسيا أن عظام الأجداد المدفونة منذ آلاف السنين ، تشهد على عروبتها .
ذكرت القرية في رسائل تل العمارنة في مصر في القرن الرابع عشر قبل الميلاد بأسم "تسورعة"
يوجد في القرية أيضا، مقام للشيخ عبدالله بن شهاب الدين أحمد بن محمد شمس الدين، والذي أطلق عليه أهل القرية لقب "الشيخ الصامت" أو " الشيخ صامت"، وهو شيخ الطريقة القادرية بالقدس الشريف. قامت قوات الإحتلال عام 2000 بهدم قبة المقام، وتحويل المقام إلى قبر ، وادعت- تزويرا للتاريخ - أنه لشمشون ، بالرغم من أن الرواية التوراتية تؤكد زيف هذه الإدعاء، وتذكر التوراة الرواية الكاملة عن كيف مات شمشون في غزة ودفن تحت الأنقاض ( سفر القضاة ، الإصحاح 16 ).
ورد ذكر القرية في عدد من القواميس وكتب الرحلات ، التي دونها الرحالة الأوروبيون ، خصوصا المهتمين بالجغرافية والتاريخ التوراتي، ومنهم عالم الكتاب المقدس أدوارد روبنسون (1794-1963)، الذي ذكر أنه مر بالقرية سنة 1841 بعد مغادرته اللطرون التي تقع على طريق القدس- يافا.
ويعتبر أدوارد روبنسون من أشهر الباحثين الأمريكان المتخصصين في الجغرافيا التوراتية، ويطلق عليه لقب : " مؤسس علم الآثار التوراتي الحديث ".
كما تجدر الإشارة ، إلى أن قرية صرعة ، ذُكرت أواخر القرن التاسع عشر ، في كتاب " مسح فلسطين الغربية " الذي أشرف عليه مساحون بريطانيون.
كان يسكن القرية عدد من العائلات وهي : أبو لطيفة (فرع من عائلة الدغمة- عبسان) ، عائلة عثمان، عائلة لافي ، عائلة السجدية ، عائلة زهران ، عائلة سهيل ، عائلة حمدان.
بالرغم من محاولتهم الدفاع عن قريتهم ونظرا لإمكانياتهم البدائية التي لا تكاد تُذكر، تمكنت العصابات الصهيونية عبر عملية عسكرية أطلق عليها إسم " داني " نسلة للتسمية التوراتية لسبط ( أو قبيلة) داني المذكورة في التوراة، من تشريد أهالي القرية وتدمير بيوتها الريفية .
مارست الكتيبة الرابعة التابعة للواء" هارئيل" تطهيرا عرقيا في حق السكان بتاريخ 14.7.1948 مما دفع من تبقى منهم للبحث عن ملاذ آمن تلو الأخر، وتشردوا في فلسطين (مخيم قلندية) وخارجها، وسكن معظمهم بداية في مدينة عمان الأردنية (مخيم الحسين، مخيم شنلر ، جبل النزهة).
لم يستسلم أهل قرية صرعة لليأس، بالرغم من الجروح العميقة التي تركتها النكبة ونتائجها النفسية ،الإجتماعية والإقتصادية، وكباقي أهالي القرى العربية الأخرى المدمرة، رفضوا أن يتحول تاريخهم إلى نسيان، أستمروا بالتمسك بحقهم في العودة إلى ديارهم وتحرير وطنهم، ودفعهم إحساسهم بذل اللجوء إلى ترسيخ الإنتماء العملي الوطني في نفوس أبنائهم، وتقديم تضحيات كبيرة من أجل تعليمهم وتأهيلهم العلمي والمهني، وتخرج أولادهم ووبناتهم من المعاهد والجامعات واحتلوا في أماكن تواجدهم مناصب أكاديمية وإدارية ، وحققوا نجاحات كبيرة.
على مدار سنوات المنفى الطويلة، كان أهل هذه القرية المنكوبة ، يتذكرون معيشتهم في وطنهم وفوق أرضهم ، يسردون الحكايات عن التين والزيتون والبساتين والينابيع، عن الخيل والجمال، عن الرعي وهجمات الضباع في الجبال، عن سهرات السمر وإحتفالات الأعراس والأفراح والمناسبات الدينية.
من يسمعهم يتحدثون بحسرة ممزوجة بالغضب على الواقع العربي، عبرشهادتهم الحية -والتي تم تسجيل بعضها بالصوت والصورة - عن صرعة، يُخيل إليه ، أنهم يرددون أسطورة كنعانية عن " الفردوس المفقود " .
ربما إستطاع الإحتلال تشريد القرية وإقتلاعهم من أرضهم، ولكنه فشل في أن يسيطر على ذاكرتهم الحية وحلمهم بالعودة إلى أرض الآباء والأجداد، فشل أن يقتلع أرضهم من أفئدتهم.
وبدلا من 400 شخص يتمسكون بالقرية ، هناك الآن ما يزيد عن ثلاثة آلاف "صرعاوي" ، تسكن فلسطين وقريتهم والذكريات في قلوبهم.
لم يرحل أهل صرعة المهجرة من أمثال : أبو فتحي، أبو ربحي، أبو هاني، أبو عبدالله، أبو زهير ، أبو فريد...وغيرهم عن وطنهم فهو حاضر فيهم وفي ذريتهم، وسيبقون في الذاكرة الوطنية حتى العودة والحرية والإستقلال، وإلى ذلك الحين سيكون لسان حالهم جميعا:
هديت لك هدية يا بن شعبي
عشر أبيات تفهمها الذكاة
وأول بيت أقول أستغفر الله
إله العرش لا يُعبد سواه
وثاني بيت أقول الُمُلك لله
بسط الأرض ورفع السماء
وثالث بيت توصى باليتامى
وقاض العدل لا تذكر سواه
ورابع بيت أقول الله أكبر
على الغدار ولا تنسى آذاه
وخامس بيت صهيون غدرني
شوف الجرح يعطيك النبأه
وسادس بيت خليك يا بن شعبي
شديد البأس قهار العداه
وسابع بيت فلسطيني كون رجال
لأخذ الُثأر لا تعطي وناه
وثامن بيت بالك لا تخلي
لا صهيون ولا محتل ولا سواه
وتاسع بيت بالك لا تصالح
وإن صالحت شكوتك للإله
وعاشر بيت إن خالفت قولي
أنا وياك لقاضي القضاة