متسولون*
كانت الساعة تقترب من السادسة و النصف مساءً ، حيث بدأ الناس يتوافدون إلى الاستراحة المطلة على البحر من علٍ ، فارين من قيظ آب ، و نزوحاً عن البيوت التي تصير بهذا الوقت من السنة أشبه بالدفيئات ، إلى حيث نسيم البحر المحمل بالرطوبة و الملح ، و لكنه على أية حال أفضل من التصبب عرقاً داخل البيوت.
و لكن رؤوف لم يهرب من كل هذا فحسب ، فالمسألة عنده أكبر من التعرق في بيت الصفيح الذي يسكن فيه هو و مديحة و سبعة قرود كما يسميهم!
فالحر و الرطوبة و التعرق بالنسبة لرؤوف هي أمور يمكن للمرء احتمالها و التعايش معها ، أما مديحة وشكواها المكررة و صراخها عليه و على عيالها ، و شعرها المنكوش كمكنسة قديمة ، و روائح الطبخ التي تنبعث في كل مكان في البيت ، و هذا الصغير المزعج الذي يحبو على حين غرة ليضع أصبعه في عين رؤوف أو في فمه و أحياناً في أنفه.
كل هذا يدفع رؤوف كل يوم لمغادرة البيت متجهاً إلى هذه الاستراحة ، حيث يختار لنفسه مكاناً بعيداً عن الناس و ضجيجهم ، و يجلس يتأمل البحر في خشوع غير تام، فلا زالت مديحة تطارده حتى بينه و بين نفسه ، في صمته ، في خياله ، و لا زال
صراخها و عويلها يقتحمان عليه أفكاره و تأملاته اقتحاماً.
و بينما هو على هذه الحال ، إذ بادره صوت عليه مسحة من الحزن و المسكنة المفتعلة:
- كيس (بزر) بشيكل
فالتفت رؤوف إلى يمينه ، فإذا بطفل لا يتجاوز العاشرة من عمره ، حافي القدمين، تبدو على وجهه السمرة المحدثة ، يحمل بين يديه الصغيرتين النحيلتين كأعواد الثقاب صندوقاً فيه أصنافاً مختلفة من المسكرات القديمة.
فألقى إليه رؤوف نظرة خاطفة، و قال له دون اهتمام واضح:
- شكراً ، لا أحبه.
ألح الطفل عليه بمزيد من التوسل و الاستجداء المفتعلين:
- أمانة تشتري مني.
- يا حبيبي شكراً ، لا أحبه.
- أمانة تشتري مني ، الله يخليلك أولادك.
لقد بدا في عيني رؤوف في هذه اللحظة الانزعاج و الغضب ، و زجر الطفل بنظرة حادة و صوت مرتفع:
- اذهب عني يا أخي، لا أريد!
و بعد أن يئس الطفل من رؤوف ، حمل بضاعته و مضى إلى طريقه بين الناس...
، و لم يكد رؤوف أن يعدل من جلسته عائداً إلى سكونه و تأملاته بعد أن أفسدها غضبه من الطفل حتى حتى بادره صوت طفولي آخر:
- الصحنين بشيكل
فالتفت إلى مصدر الصوت ، و إذا بطفلة تحمل مجموعة من صحون البلاستيك رديئة الجودة، يبدو في عينيها الذابلتين التعب و الإرهاق ...
مسح رؤوف وجهه بشيء من الغضب ، متأففاً ، ثم تمتم :
- ماذا عساي أن أفعل بهذه الصحون أيضاً؟!
و التفت إلى الطفلة ، و نظر إليها نظرة الملول اليائس ، و أردف:
- شكراً لا أريد.
- أمانة تشتري
- يا حبيبتي لا أريد ، ماذا سأفعل هنا بالصحون؟!
و تلح عليه الطفلة بشيء من التمسكن و التباكي:
- أمانة تشتري.
في هذه اللحظة لم يتمالك رؤوف نفسه ، فنظر إلى هاتفه على عجل كمن تذكر موعداً قد أدركه الوقت ، فانتفض من مكانه كما ينتفض الإنسان الذي يباغته خطر داهم يوشك أن يوقع به ، قائلاً:
- سأترك لكم المكان كله!
و حمل نفسه و مضى إلى حيث تقوده خطاه المترددة ، حتى غاب في الزحام...
------
الكاتب : نبيل محجز
متسولون بقلم: نبيل محجز
تاريخ النشر : 2020-08-15