هذا هو الإسلام بقلم:د.تيسير رجب التميمي
تاريخ النشر : 2020-08-15
هذا هو الإسلام  بقلم:د.تيسير رجب التميمي


هذا هو الإسلام
الحرم الإبراهيمي الشريف ومدينة خليل الرحمن عصيَّان على الضم
الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس
أوامر عسكرية اتخذت منذ مدة ، وأحكام قضائية صدرت مؤخراً بتمكين المستوطنين من إقامة مصعد كهربائي في الحرم الإبراهيمي الشريف ، ولأغراض التنفيذ صودرت مساحات واسعة من أراضي المواطنين وأراضي الأوقاف حول الحرم ، إنها بداية لتطبيق إسرائيل مؤامرة الضم الخبيثة ، مستغلة انشغال العالم بمرض فيروس “كورونا” ، فهي تسابق الزمن للعمل على وضع رؤيتها وبسط هيمنتها على كامل الحرم الإبراهيمي الشريف من خلال فرض الأمر الواقع .
يعتبر الحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة الخليل المسجد الرابع في الأهمية والمكانة الدينية عند المسلمين بعد المسجد الحرام في مكة المكرمة ، والمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة ، والمسجد الأقصى المبارك في مدينة القدس ، ففيه ضريح سيدنا إبراهيم عليه السلام وأضرحة بعض آل بيته ، جد المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم وأبي الأنبياء الذين بُعِثُوا بعقيدة التوحيد ، قال تعالى {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } آل عمران 68 .
فالقرآن الكريم كما قرر هوية المسجد الأقصى المبارك وإسلاميته من فوق سبع سماوات ، فكذلك حددت هذه الآية الكريمة هوية مدينة الخليل وبالتالي هوية الحرم الإبراهيمي الشريف ، فهو مسجد يختص به المسلمون وحدهم ولا علاقة لغيرهم فيه من قريب ولا من بعيد ، وكل ما تقوم به سلطات الاحتلال الإسرائيلية وجنودها ومستوطنوها فيه من تعديات وانتهاكات هي إجراءات باطلة بكل المقاييس والمبادئ والقواعد الدولية والقانونية والدينية والأخلاقية ، وسيأتي يوم تنتهي فيه هذه الحقبة الزمنية التي مكنت للاحتلال سيطرته على أرض فلسطين ، وسيتحرر الحرم الإبراهيمي الشريف وتصبح هذه الإجراءات تاريخاً أسود ستطوى صفحاته كما طويت صفحات سوداء سابقة من سجل هذه المدينة الخالدة وسجل حرمها ومسجدها الإبراهيمي الشريف .
وأما قصة وتاريخ الحرم الإبراهيمي الشريف فقبل العهد البيزنطي كان مجرد سور حول الحديقة والمغارة ، وفي العهد البيزنطي قاموا بسقف السور وفتحوا فيه باباً ، وأقيمت فيه كنيسة على الطراز البيزنطي لتُصبح مكانًا للعبادة بعد اعتناقهم المسيحية ، وبعد أكثر من ثلاثمائة عام تم فتح فلسطين في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقيادة عمرو بن العاص بعد معركة أجنادين مع البيزنطيين ، وفي تلك الفترة كان المسجد الإبراهيمي مُجرّد سور مُهمَل ، وبعد اعتناق الأهالي الإسلام عمروه واعتبروه مكانًا مقدّساً فاتخذوه مسجدًا وأقاموا المساكن حوله ، وفي عهد الفرنجة قام الصليبيون بتحويل المسجد إلى كنيسة أطلقوا عليها اسم كنيسة القدّيس أبراهام ، ولما حرر صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس بعد معركة حطين مع الفرنجة حرر مدينة الخليل وتمت إعادة الحرم الإبراهيمي مسجداً من جديد ، وفي بداية الانتداب البريطاني تم تحويل المسجد إدارة عسكرية ، لكن تمت إعادته مسجداً .
وفي يوم الخميس 8/6/1967م وقعت مدينة الخليل في قبضة الاحتلال الإسرائيلي الغاشم ، ومنذ اللحظات الأولى باشرت سلطات الاحتلال اعتداءاتها على الحرم الإبراهيمي الشريف ؛ فقد دخله جنود الاحتلال عنوة ومعهم كبير الحاخامين، ورفعوا العلم الإسرائيلي عليه بضعة أيام ، ومنعوا المصلين المسلمين دخوله فترة من الزمن ، ثم توالت الاعتداءات عليه حتى اليوم ،
من ذلك مثلاً قيام سلطات الاحتلال بوضع البوابات الإلكترونية على مداخله ، ومنع المصلين دخوله والصلاة فيه ، ونشر الحواجز العسكرية على مداخل قلب المدينة القديمة لعرقلة الوصول إليه وتحويله ثكنة عسكرية ، وكثيراً ما يتم منع رفع الأذان من على مآذنه بما يفوق ستين مرة في الشهر ، فالمؤامرات الاحتلالية التي تستهدفه لا تقل خطورة عن المؤامرات التي تحاك ضد المسجد الأقصى المبارك لأن مدينة الخليل أكبر أهمية عندهم من مدينة القدس .
وفي عام 2010 قررت سلطات الاحتلال ضم الحرم الإبراهيمي الشريف وغيره من المقدسات الإسلامية إلى قائمة المواقع الأثرية والتراثية اليهودية ، وقد أكدتُ يومها أن هذا القرار وما شابهه باطل ولا ينشئ لليهود حقاً فيه ولا يمكن أن يلغي هويته الإسلامية بتاتاً . لكن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) وهي المؤسسة المناط بها حماية الممتلكات والتراث الثقافي العالمي من التدمير والنهب والتزوير ؛ قررت هذه المنظمة بعد ستة أشهر إسلامية الحرم الإبراهيمي الشريف (وغيره من المعالم الإسلامية الفلسطينية) وطالبت سلطات الاحتلال الإسرائيلية بشطبها من قائمة المعالم التاريخية الاسرائيلية ،
وفي عام 2017م قررت اليونسكو إدراج المدينة القديمة في الخليل والحرم الإبراهيمي الشريف ضمن قائمة مواقع التراث العالمي المهددة بالأخطار ، وفي الحقيقة والواقع يعتبر التهويد وطمس المعالم وتزييف التاريخ والهوية أخطر ما يتهددها ، لقد جاء هذا القرار على الرغم من منع سلطات الاحتلال فريق اليونسكو القيام بجولة ميدانية في الخليل قبيل هذا التصويت ، وعلى الرغم من المحاولات الإسرائيلية المستميتة لعرقلة عملية التصويت لصالح القرار ، وعلى الرغم من بذلها الجهد لتأجيل التصويت عامين او حتى جعله سرياً ، إلاَّ أن كل ذلك لم يمنع التصويت العلني لصالح القرار ، وحتى بعد صدوره حاول كثير من ساستها التقليل من شأنه ، وفي الوقت ذاته أظهرت غضبها منه ومن الجهات التي صوتت معه ، بل ومن منظمة اليونسكو ووصفتها بالتسييس وبمعاداة السامية ، وتوعدتها بإجراءات عقابية كوقف التعامل والتعاون معها ، وأعلنت تخفيض مساهمتها المالية في ميزانيتها بأكثر من مليون دولار .
إن القرارين السابقين يدلان بوضوح على أن المجتمع الدولي يستطيع التدخل لمنع سلطات الاحتلال الإسرائيلية ممارسة أي عدوان على المقدسات في فلسطين إن أراد ذلك ، ولهذا فإنني أطالب المجتمع الدولي بالتحرك الفوري لمنع الإجراءات الإسرائيلية العنصرية المدمرة والمنافية للقوانين والاتفاقيات الدولية ، وباتخاذ إجراءات ملموسة تلزم إسرائيل إلغاء سائر قراراتها الاحتلالية وغير القانونية التي تتخذها في الأراضي الفلسطينية المحتلة ، وأطالبه كذلك بكبح تنفيذ هذه القرارات الباطلة على أرض الواقع وبحماية القرارات الدولية ووضعها موضع التنفيذ .
وبخصوص القرار الثاني الصادر عام 2017 فتأتي أهميته لترسيخه وإثباته عروبة وإسلامية مدينة الخليل المحتلة وبلدتها القديمة والحرم الإبراهيمي الشريف ، وبأنه أظهر مدى هشاشة اتفاق الخليل الذي وقع عام 97 والذي أسفر عن تقسيمها إلى قسمين : H1 ، H2 ، بل كرّس هذا القرار وحدتها الجغرافية وحضارتها العربية والإسلامية ، وأبطل الرواية الإسرائيلية حول مزاعمهم فيها زوراً وبهتاناً .
وإنني أؤكد مجدداً أن الحرم الإبراهيمي الشريف بكل أجزائه ومكوناته من ساحات وأروقة وأبواب ومحاريب هو مسجد إسلامي خالص ولا علاقة لغير المسلمين به من قريب أو بعيد ، وأن هيمنة الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين عليه هي هيمنة غصب بقوة السلاح الغاشمة والتي ستزول بزوال الاحتلال بإذن الله كما زالت كل الاحتلالات السابقة ، وأؤكد بطلان جميع إجراءات سلطات الاحتلال فيه وفي المسجد الأقصى المبارك وفي سائر المقدسات والمدن الفلسطينية قبل قرارات اليونسكو وبعدها ، لانتهاكها حقوقنا الشرعية الثابتة ، ولمخالفتها مبادئ الشرائع الإلهية والاتفاقيات والمواثيق الدولية ، فالمبادئ القانونية والأخلاقية تحرم ازدواجية العبادة في مكان واحد لأكثر من دين ، وأن مدينة الخليل المحتلة ستبقى مدينة عربية إسلامية ، وأن الحياة فيها لن تعود إلى طبيعتها ولن يتحقق الأمن والسلام فيها إلاَّ بإزالة المستوطنات وخروج جيش الاحتلال منها .
وأؤكد أيضاً أن الخليل مدينة محتلة كسائر المدن الفلسطينية التي وقعت في براثن الاحتلال عام 67 ، وهي مدينة آبائنا وأجدادنا ومسقط رأسنا ومرقد أنبياء الله والصالحين الأخيار من أسلافنا ، وأن كل أراضيها وقف إسلامي إما وقف خليل الرحمن عليه السلام ، وإما وقف الرسول محمد صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل تميم بن أوس الداري رضي الله عنه وذريته إلى يوم الدين ، فهي أرض إسلامية لا يجوز التفريط فيها أو التنازل عنها أو التقاعس عن حمايتها أو إقرار الاحتلال على ممارساته الاستيطانية فيها .
وأدعو أبناء مدينة الخليل الصابرين المصابرين في مدينتهم المحتلة مدينة الآباء والأجداد إلى تكثيف حضورهم الدائم في الحرم الإبراهيمي الشريف لإفشال مؤامرات الهيمنة عليه وتهويده ، والمواظبة على الصلاة فيه ، وإحياء اقتصاد البلدة القديمة بالتسوق في أسواقها والعودة إلى السكنى فيها ، ومؤازرة أهلها باستحقاقهم الأولوية في أموال الزكاة وصدقات التطوع بأنواعها دعماً لمرابطتهم فيها وتعزيزاً لصمودهم على أرضها .