نجوم خلف الأسلاك الشائكة بقلم:محمود الجاف
تاريخ النشر : 2020-08-12
نجوم خلف الأسلاك الشائكة بقلم:محمود الجاف


بسم الله الرحمن الرحيم
نجوم خلف الاسلاك الشائكة
محمود الجاف
إختلف ألناس في فهم وتفسير معنى ألرجولة . فمنهم من قال : إنها القوة والشجاعة والحزم والكرم . وآخرين قالوا : هي الصدق في العهود وقوةٌ في القول وإستعلاء على المُغريات ورأيٌ سديد وتضامن . أما في ميزان الإسلام فهي الأعمال الفاضلة والأخلاق الحسنة والإيمان . كلها تظهر عند الحاجة إلى رجال لايخافون في الله لومة لائم . وهي ليست بالأعمار المُتقدمة فكم من شيخ كبير سلوكه يُشبه طفلا صغيراً ذو لحية وشارب . حاصر خالد بن الوليد الحيرة فطلب من أبي بكر مدداً فأرسل له القعقاع بن عمرو التميمي وقال : لا يُهزم جيش فيه مثله . وان لصوته في الجيش خيرٌ من ألف مقاتل! ...

عندما هبطت بي الطائرة ( بلاك هوك Black Hawk )‏ في سجن ابو غريب في ( 2003 . 09 . 26 ) وجدت رجالا من نوع خاص . صبراً وخُلُقاً وشهامة . كانت من أصعب ألأيام التي مرت في حياتي واكثرها إيلاما فقد عاصرت الحرب مع إيران إلا انني لم ارى الذل والمصير المجهول والأرهاب الذي رأيناه . فقد كانت اول مرة في حياتي أرى فيها الزمن يتوقف . بل أحيانا يعود الى الخلف والأحلام تموت والليالي تبدو دهوراً . يطول فيها الانتظار حتى تنقضي تلك الذكريات المريرة التي حفرت في أرواحنا آثاراً لا تنسى ... وجدت كواكباً خلف الاسلاك الشائكة . دموعهم وعذابهم ودمائهم حولت تُرابه الى افضل انواع الحِنّاء . وكشفت صورة الديمقراطية الحقيقية . الخدعة التي دَمَروا وَقَتَلوا مِن خِلالِها الشعوب وَصادَروا حُرياتِهم . وجدناها عجوزٌ شمطاء كذابة مُنحرفة تَقطُر الدماء مِن انيابها ويَجري خَلفَها الكَثير مِن الجِراء الصفوية القَذِرَة التي تَنثُرُ المَوتَ وَالعَذاب حَيثُما حَلَت . احتجزونا بين اربعة جدران كونكريتية على التراب صيفا وشتاءاً حفاة شبه عُراة ومنعوا عنا حتى ورق الكارتون الذي كنا نودُ ان نضعه تحت اجسادنا ليحمينا من البرد القارص . يأتينا الماء في جلكانات ويوزع لكل منا اربع او خمس قناني يتم تبريدها صيفا من خلال لفها بقطعة قماش او الجوارب وتترك في العراء وعندما يريد احدنا ان يغتسل عليه الانتظار مدة قد تطول شهراً او يجمع من الخيرين او ينتظر سقوط الامطار . وتحدث لي بعض الاخوة عن ما يسمى ( الخوطة ) وهي جمع فضلاتهم ثم سكب النفط او الكاز عليها وخلطها ثم حرقها في تكريت لأني لم اراها فقد نقلت مباشرة دون المرور بها ...

تعمدوا اعطاء المُعتقلين طعاما اصابهُم بالإسهال الشديد ولايوجد سوى مرافق عدد اثنين فقط لحوالي 200 شخص ولكم ان تتخيلوا ماجرى . ما اقوله ليس من قصص الف ليلة وليلة بل حقائق مازال الكثير من شخوصها احياء ولهذا كل حين كان يسقط احدنا ميتا من الحزن والتفكير ومنهم اللواء الركن عجيمي برع أحمد الخطاب رحمه الله . كان الابطال يتسللون ليلاً من تحت الاسلاك الشائكة ويأتونا بأكياس الطعام المكدس قرب خيمة الحراس ليطعموا الجياع . وتخيلوا ان شابّاً يُدعى عادل زبار الجميلي في مُعتقل لايسمح لنا فيه بالاتصال بأحد والانوار الكاشفة موجهة علينا ويُراقبنا الجنود من كل الاتجاهات ليلاً ونهاراً ويُمنع إشعال النار فلا ناكل الا الطعام البارد طيلة مدة بقائنا في مايسمى ( الثقيلة ) ومع هذا يصنع القهوة بطريقة تجعلك تتساءل من هؤلاء وكيف تربوا واي امهات انجبتهم واي ظهر كريم انبتهم . كان يخلطها مع الماء في قنينة صغيرة ويضعها تحت اشعة الشمس حتى تجهز ثم يسقينا والفنجان هو الغطاء . وكان عادل مع خالد علي عباس وحامد نايف وعمر اسماعيل يكتبون على المناديل الورقية ( الكلينكس ) الرسائل ويلفونها على حصى ويُغلفوها بالنايلون ويقذفها حامد الى الخفيفة وهي مسافة بعيدة جدا وبدورهم يجيبون على ما نريد ويعيدوها بنفس الطريقة . معتقلين في سجن داخل سجن وتمكنوا من ارسال واستلام الرسائل فمن أي معدن خلق هذا الشعب ...

كان بعض الإمعات يدخلون لتنظيف المرافق الصحية من الذين طالت السنتهم الان . نطلب منهم الاتصال بذوينا ولكنهم لا يلتفتوا الينا لانهم سعداء بالدولارات التي انكروها الان . كثير منا كان يريد ان يعرف هل اعتقلوا عائلته ام لا ؟ لأنهم اخبروا البعض منّا انهم قد جاءوا بهم وانا منهم وهذا الامر دمر اعصابنا ولولا فضل الله لكاد القلق والالم ان يفتك بنا . ثم بدأ يدخل الينا صباح مع عجلته التي ينقل فيها الطعام وهو من الفلوجة ايضا ولكنهم حاصروه يوما وبدأوا تفتشيه بشكل مفاجئ والحمد لله لم يكتشفوا شيء لكنهُ منع من العودة مرة اخرى فقد اتهم بنقل الرسائل ايضا . وبعد ايام دخلت سيارات مع شفل لفرش الحصى امام نقطة الحراسة لان الارض كانت موحلة جدا ومعهم رجلا يُدير العمل ولكنه بدأ يسأل عن الاسماء وارقام الهواتف وتبين انهم دخلوا بهذه الحجة وهم من الفلوجة ايضا . هذه المدينة التي حفرت اسمها في ذاكرتنا بحُروف من نور ...

كان عدد الكمبات 5 احدها للمرضى وانا في Vigeland . . B الذي يضم بين ثناياه عربا واكرادا . سنة وشيعة وتركمان ونصارى من خيار القوم ومنهم الفريق الركن علي اللهيبي الذي كان يجاهد من اجل ان يحصل لنا على ملابس او طعام والفريق الركن نوري داوود المشعل رحمه الله والحاج رشيد الدليمي والدكتور عمر عبد الستار والصيدلاني محمد علو والاستاذ عبد الاحد النصراني ( ابو وسام ) والشيخ صدام من السعدية والسيد طه النعيمي واللواء الركن هيثم والعقيد رياض برع والملازم واثق غالب غايب وسالم عبد المحسن رحمه الله الذي تمت تصفيته بعد اطلاق سراحه لأنه كان ضابط مخابرات وغياث بركة وشقيقه غزوان والهبارية جماعة الشيخ متعب الهذال وادريس قبع من الموصل والرائد رفعت حامد ( ابو نور ) ومُعتصم السامرائي وعبد الله الاردني ومكين السوري واربعة سعوديين وجمعة من البوعجيل والحاج مثنى من الرحمانية والاستاذ حامد الجواري والشيخ جمال من الفلوجة والشيخ ايوب يوسف والاخ عماد الجنابي . والاخ فائز الذي قطع من لحم جسده بواسطة الكتر في البغدادي وكان مشلولا تقريبا وكنا نسمع احيانا صراخ النساء وفي طريقي الى التحقيق يوما رأيت إحداهُنَّ وقد مُزق ثوبها من الامام فخاطته بسلك لتستر عورتها . واخرين جيء بهم عراة وصور اخرى كثيرة فقد كانوا يتعمدون اهانتنا خُصوصا اثناء التفتيش .

بعد سبعة شهور ونصف نودي على الرقم ( 151092 ) الوسام الذي منحني الله اياه كرما منهُ ومِنَّةً ومعي الاخ الحبيب الفريق الركن ابو وضاح رحمه الله والاخ طه ثم جيء بالشيخ غازي الحنش رحمه الله وبعض الاخوة الاخرين . اخذوا الشيخ غازي وقيدوه بقسوة ووضعوا الكيس على رأسه فاقلقنا هذا الامر واعتقدنا اننا سنرحل الى مكان اخر اكثر بُؤسا ولكن تم نقلنا الى الخفيفة وتبين انه كان مجرد استعراضا حقيرا فعلوه كثيرا مع غيرنا على امل اصابتنا بالجلطة الدماغية او القلبية ... المكان الجديد اكثر راحة ويمكنك ان تغتسل وقتما تشاء وتأكل الطعام الحار وتمكنت من رؤية احد اشقائي بعد 8 شهور وعرفت ان اهلي في مكان آمن منذ اعتقالي ولكنهم طردوه بسرعة واعادوني لكنني حصلت على ما اريد فقد عرفت مصير عائلتي ... في الخفيفة وجدت الاخ ظافر الشيخ حسين محاي النعيمي والاخ قاسم الجيسي من الاسحاقي والاخ صدام والاستاذ صالح والاخ ابو رشا من مدينة بهرز والشيخ احمد ابن الشيخ عبد الله الجنابي والاخ عبد الحكيم زبار شقيق عادل والاخ الحبيب البطل الذي اذاق المُحتل الامرَّين جيهان رشيد الدليمي رحمه الله الذي تمت تصفيته بعد خروجه من قبل عملائهم الذين يدعون المُقاومة الان . هذا الرجل الذي ترك فقدانه في قلبي جرحا غائرا لا يندمل ابداً . جهز لي فراشا مع وسادة وضعت عليها رأسي اول مرة بعد تلك المعاناة لأننا كنا نغفوا على حفنة من التراب وكان يتوسل بي كي اتناول الطعام لأني كنت نحيفا جدا فقد كنا هناك جثثاً تمشي على الارض .

في يوم الجمعة وبعد عام كامل تم نقلنا الى بغداد بحماية الامريكان في باصات كبيرة لإطلاق سراحنا ولكنهم توقفوا في الطريق وطلبوا مني النزول في الشارع لوحدي في خطوة سخيفة لم افهمها فتوقف لي احد الاخوة الذي تبين انه كان يتبعنا في سيارته واحتضنني وسلم علي واراد ان يأخذني الى بيتهم لاغتسل واتناول الطعام واغير ملابسي ثم اذهب الى عائلتي فشكرته وطلبت منه ايصالي الى كراج العلاوي ومن هناك استأجرت التكسي الى مدينتي الحبيبة بعقوبة ...

ابو غريب كان شاهداً على شجاعة وصبر هذا الشعب العظيم وتفاهة وجُبُن وكذب دعاة الحرية وحقوق الانسان وشاهداً على من قاوم ومن تخاذل ومن الذي من خلال جهله بالدين وسلوكه الخاطئ وعنجهيته الفارغة ضيع تلك الانتصارات الرائعة وخدم المحتل ونظام الملالي ... العراقيون ورغم كل المؤامرات التي حيكت عليهم قدموا كل ما استطاعوا فلا تتهموا او تنكلوا بأحد لان سماء العراق الان تغطيها غيوم الاحتلال ولهذا لا يمكن التمييز بين الاقمار والنجوم فانتظروا حتى تشرق شمس التغيير وعندها ستفهمون كل شيء ... واخيرا في التحقيق كنت اريد ان انقذ نفسي فأردد دوما اننا اكراد ونحن معكم ولكن المحقق مصر على ان المعلومات التي يملكها عني صحيحة واخيرا نظر في عيني مباشرة وقال لي بشكلً مُفاجئ . هل كلامك هذا يعني انك لست عراقيا ؟

احزنني ان اقول لا ... حتى لو بقيت سجينا طوال حياتي . عينانا كانتا قد التقتا بُرهة وانا افكر ثم ابتسمت وقلت له انا عراقي ونُص .

واعتقد ان هذه كانت هي جريمتي ...