حَــذَّاءَةٌ بقلم:صلاح بوزيّان
تاريخ النشر : 2020-08-05
حَــذَّاءَةٌ بقلم:صلاح بوزيّان


حَــذَّاءَةٌ ..
قصّة قصيرة للكاتب: صلاح بوزيّـــان / القيروان * تونس

لا أعرف صاحب الحُوت .. قرأت حكايات ألف ليلة وليلة في ليالي الشّتاء .. و لا أدري من هو صاحب الحوت ، و لا تتخايل لي صوته البتّة .. ويلاه إلى أين الآن أإلى المجهول أم إلى الغُربة تَجُرّني إليها جرًّا ؟.. السّاعةَ تركتُ الدّكان مفتوحا ، وهجرتُ الأحذية ، و أكوام الجلد ، و المطرقة و المسامير و الخيوط و الإبرة .. طفح الكيل .ز الأجرة لم تتغيّر .. وضع البيت لم يتغيّر .. إخوتي لم يتغيّروا .. المدينة لم تتغيّر .. أفٍّ للقصص البالية .. حَذّاءَةٌ أنا و تجارتي بائرة .. و لكنّني حالمة يحاصرني القُبح و المكر و الكذب والعراء .. نمتُ مرّة واحدة منذ ثلاثة أشهر بعد أن أكلتُ الخبز و العسل تخت نخلة .. الغربة تحاصرني .. نومي متقطّع و بطني خاوية .. نقعت وجهي في ماء زمزم و لكنّ الجراح لم تندملْ .. لستُ مولعة بأحمر الشفاه و لا بالأحذية و لا بالفساتين .. أنا أعشقُ الخبز وعرق الجبين و الماء و الملح .. عزفتُ عن الرّجال عزوفا شديدا بعد أن رأيتُ زوج زميلتي يضربها في السّوق و يفتكّ فلوسها .. و يسبّها و هي تبكي منكّسة الرّأس .. استغلّ يُتمها و خراب بيت أبيها .. وفي اللّيل غشيتهُ طائفة من الجند .. هو روى ذلك لزوجته .. جلدوهُ بالسياط و هشّموا عظامه بالدبابيس و العصي .. فاستفاق من نومه بأعجوبة ، فمهُ جافّ ، وأثرُ الضّرب على لحمه .. اللّحمُ كلّه أزرقٌ .. و تعجّبتْ زوجته و استرابت بكلامه ، ولكنّ العلامات الزّرقاء الدّاكنة على لحمه بدّدتْ الشكَّ ، و أسرّتِ الشماتة خوفا من بطشه .. أنا لا يهمنّي أمره .. و قد اتّخذت قرار مقاطعة الرّجال بسببه ولأسباب أخرى منها الفقرُ .. و لماذا سأتزوّج ؟ لو كان الزّواج مُربحٌ لربحتْ أمّي من أبي .. و أختي من زوجها منير حارس العلبة اللّيلة .. منير أطرد أختي ليلة الإعلان عن الحظر الصّحي و الكرونة .. قال لها : { وجهك مشوم .. هاو سكّرتْ البواتا .. منين مش ناكلو } ، وكأنّ أختي هي التي جلبت الكورونا .. هكذا تحدُث الأشياء في هذه المدينة الغامضة .. ساعة التّحرّر يخذلك الجميع .. و تجد نفسك في دوّامة الغُربة .. تتفرّس في الملامح وأنّى لك أن تُفلح في شدّ انتباه الأشباح .. أشباحٌ هائمة و موغلة في الغفلة والتّيه .. أجساد منهَكة .. عتمات بعضها إثر بعض .. تمضي السنون و النّاس في ضياع و دهشة .. و فوق ذلك عندما هجرتُ الدّكان لم يتجرّأ جيراننا التّجار الأشدّ قربى في سوق البلاغجية على ملاطفتي .. و لم يعيروا الأمر اهتماما .. و مهما يكن من قول فهُمْ ليسوا شامتين و لا شامتات .. و لكنّهم سُكارى و ما هم بسكارى .. سمعتُ صوتا هامسا يتردّد صداه في سقف السّوق يقول : هيتَ لكِ .. فانطلقتُ تاركة ورائي كلّ أصناف الخونة و المارقين والمُنهَكين و الأشرار .. أيّها الصوتُ المنادي أخدمُ في الدّكان من السّاعة الثامنة صباحا إلى الخامسة مساء بأجرة سبعة دنانير .. بها أشتري كسكروت الكفتاجي و أشحن هاتفي الجّوالي بدينار لأكلّم أمّي أو الزّبائن و لا أشتري الماء المعدني مثلما يفعل كثير من النّاس .. بل أملأ قارورتي من ميضة الجامع .. حياة مقرفة تستحقّ التّلف.. حرائق و بيوت مهدّمة و بئر معطّلة في داخلي .. أنا الآن أمشي منذ الصّباح لم أتوقّف بعدُ .. أمشي و أتعارك مع الخيوط و و أمواج الرّماد و البؤس الرّجراجة .. كلّ الأزقّة تعرفني حقّ المعرفة .. ألِفتني و ألفتها .. أشتكي إليها جوعي و أسمعُ حكاياتها .. أجلسُ معها وأسندي ظهري وأحيانا حينما تكون مقفرة ، أتمدّدُ و لا أبالي بعيون الفضوليين المتلصّصة من الشرفات والأسطح .. قد يستطيع سكّان المدينة الصّبر على الطّعام و لكنّهم لا يصبرون على ترك ما لا يعنيهم و القيل و القال .. الألسنة تسلّم و القلوب تتعارك .. محنة عسراء .. الأزقّةُ حبيبة قلبي .. سأجلسُ هنا الآن قرب سيدي سيوري و الجامع الأعظم .. علّني أستريحُ فليلا وأقرّر إلى أين المفرّ .. الصّحراء لا تُطاقُ هذه الأيّام .. و معامل قصر هلال أوصدت أبوابها .. و لا أظنّ أنّني سأعثرُ على شغل في معامل المنستير .. الأماكن محجوزة منذ 2005 .. كلّ بنات أرياف الوسط تشتغلُ هناك .. زد على ذلك أنا لا أملك النّقود الكافية للتّنقل واكتراء غرفة مع بنات أخريات .. و هبْ أنّني أذهبُ فالشغل ليس متأكّدا .. فما الفائدة من العناء و الضّيق .. السّياحة فسدت والفنادق أغلقت أبوابها .. سأسكن هذه الأيّام في زاوية أبي زمعة البلوي .. و لكنّ الحُرّاس سيمنعونني .. ما العمل ؟ . الخطر يحيط بالمدينة .. الخوف منتشر في الطرقات و تحت الأشجار .. سمعتُ مرّة شجرة تحدّث أختها فتقول :{ يا أختي هم لم يفلحوا في أحوالهم فلا نستغرب قسوتهم علينا .. أحرقونا و قطعوا أغصاننا بلا رحمة .. عن أيّ رحمة يتحدّثون ؟} وقفت قرب دكّان يبيع كسكروت الكفتاجي ، وبقيتُ أتأمّل الزّبائن يأكلون و يضحكون و يسردون النكات و يتناقشون .. الفلفل الحارّ ألهبهم .. حبّات العرق تملأ وجوههم .. الدّكانُ نظيف و أنيق .. كنت خائفة ولكنّ الجوع دفعني إلى الوقوف ..علّني أحصلُ على كسكروت .. وجدتُ نفسي غير قادرة على السّير .. وجهي مبلّل .. و عصافير بطني تزقزقُ .. أنظرُ إلى السّماء مرّة و إلى البطاطا و إلى صحفة بلورية يتأرّجُ منها شذى الهريسة الخضراء مرّات و مرّات .. يأخذ منها القليل ليعمّر به الكسكروت مع بيضة و ملعقة هريسة حمراء .. ألاحقُ أصابعه التي تحرّك الملعقة بسرعة .. وتخلط العناصر داخل نصف خبزة .. الكسكروت لذيذ .. مواضع كثيرة على الطّاولة أمام صاحب الدُّكان .. موضع للهريسة الخضراء وموضع للهريسة الحمراء وموضع للمعدنوس والبصل وموضع للملح و موضع للسلاطة .. وعلى شماله طبق البطاطا..كانت عينايا تتنقّلان بين الطّعام وآكليه .. ولكنّ لم ينتبه أيّ واحد منهم إلى جوعي .. لم يتساءل أيّ آكلٍ عن سبب المجيء و الصمّت .. فجأة التفتت إليَّ عجوزة ، سحبت السفساري وأسفرت عن وجهها وهمست في أذني :{ خوذ كسكروت بنيّتي راك جيعانة } ، سارعت إلى إكرامي وأمرت صاحب الدّكان بإعداد خبزة كفتاجي .. كنتُ مذهولة والإعياء أخذ منّي مأخذا ، تردّدتُ و لكّنني انتبهتُ وأنا منغمسة في خبزة كفتاجي كاملة .. انبريتُ أتناول الطّعام مطمئنة .. أكلتها كلّها و العجوزة تتأمّلني مبتسمة مستبشرة ، لم أفهم و لا أعلمُ كيف تمّ ذلك ، و كلّ ما دخل مخّي الآن هو أنّني أمشي رفقة العجوزة فاطمة و أحكي لها قصّتي وأردّد اسمها : يا خالتي فاطمة .. لا أشتكي إليها آلام الحياة المقرف .. أكتفي فقط بسرد قصّة حياتي وهي تبتسمُ و تسمعُ في أناة وصبرٍ .. خرجنا من المدينة بشقّ الأنفس بسبب الحرّ و عيون الفضوليين .. التّجار و الباعة والسابلة مندهشين .. ينظرون إلينا و يتهامسون .. و تكرّر السّؤال عند كلّ ممرّ :{ آش جاب الصبابطية لأمّك فاطمة إلّي ماتت منذ 100 سنه ؟ }.. أدفعُ نظراتهم القبيحة بقبضة يدي في زهو و خيلاء .. وأنا أردّد في دخيلة نفسي : { انتصرتُ عليكم أيّها الباردون ، خلعتُ نحوسكم هذه هجرة لا تقدرون عليها } خالتي فاطمة هادئة ، تتلفَّتُ بين الفينة والأخرى أثناء المشي .. تطهّرتُ بسرعة من أوجاعي و حيرتي منذ أن التقيتها و كأنّني أعرفها من زمان .. لم يبق أثر من آثار الحزن و الجوع و القهر في باطني .. أهيمُ في بساتين الفرج .. أويتُ معها إلى مغارة خارج المدينة منذ وقت قليل .. كلب باسط ذراعيه في فم المغارة يُحدّقُ فيَّ و لا ينبحُ .. و كبش سمين يرتع في المرج .. كلّفتني بغسل الصّوف كلّ يوم عند النّهر المحاذي للمغارة مقابل دراهم معدودات أحتفظ بها لنفسي .. سلّمتني منذ حين نقودا ذهبية ليطمئنّ قلبي على العهد الذي قطعته معي .. منذ الوهلة الأولى سحرتني خالتي فاطمة ، ووجدتُ في رقّة شمائلها ما أبحثُ عنه من زمان .. و لا أخفي سرّا فقد استهوتني النقود و تساءلتُ :{ من أين أتت بهذه النّقود و بالحوت ؟}.. طفقتُ أخالسُ النّظرَ علّني أجدُ إجابة .. دخلتُ المغارة .. توغّلتُ في أعماقها .. باردة و الهواء نظيف .. تيّار لطيف منعش ممزوج برائحة الإكليل والزعتر يخترق المكان .. بهرتِ الشّمسُ المغارة ، فتراءت لي تشبه القصر .. هدوء و سكينة .. و جعلتُ أراجعُ البصرَ و أتفقّد الأدباش و الأثاث .. كراسي وثيرة و نمارق مصفوفة و سجاجيدٌ و زرابي مبثوثة .. الأشياء كلّها جديدة و متقونة .. لا غبار و لا تراب .. مكنسة ضخمة متكئة على صخرة .. صناديق خشبية ملوّنة .. يا إلهي هذه صورة خالتي فاطمة و رجل والكلب والخروف .. و أسفل الصّورة تاريخ وكلمات : فاطمة و صاحب الحوت ، تونس عام 1920 .. لثمتُ الصّورة و من فيها .. و أخذتُ كومة الصّوف و يمّمتُ شطر النّهر يتبعني الكلبُ و أنا أقول :{ هذا مستقرّي المبارك ، فأنا لا أقدر على لذع الأسنّة و الرّماح يا أهل مدينتي } .