قصة قصيرة بعنوان:
أيام معدودات مع قاتل خفي
إهداء:
لكل من التزم بالحجر الصحي
الفصل الأول:
إِنِّي يَا أَخِي مُصَابٌ أَنْتَظِرُ هَاِدمَ اللذَّةِ
فِي غُرْفَةٍ صَغِيرةٍ خَيَّمَ السُّكُونُ عَلَيْهَا بِشِدَّةٍ.
بعد أن انتقلت من غرفتي الصغيرة بالبيت إلى غرفة الإنعاش رقم (128) جراء إصابتي بفيروس "كورونا" (covide-19)، والتي قضيت بها زهاء عشرين يوما، أدركت أن الشعور بالفسحة إنما هو حالة نفسية يبعثها في الغالب انشراح الصدر وانبساط النفس. ولذلك فإن الغرفة (128) هي فسيحة ضيقتها أجواء السكون، التي تبعث في النفس الذعر والرهبة.
وعلى سرير مريح، بدأت تراودني خواطر مفارقة الحياة، وأنا الذي كنت أطمح لنيل شهادة الماجستير هذه السنة، والتقدم في السنة التي تليها لخطبة ابنة خالتي سعاد المجاورة لنا.
وقت سماعنا خبر هذا الفيروس المستجد منذ أن ظهر لأول مرة في الصين، تفاعلنا معه بكل سخرية واستهتار، واعتقدنا أنه من البعيد جدا أن يقتحم بلدنا المغرب.
- قالت سعاد مازحة: "خليل ! أنا لن أصافحك إذا أصبت بهذا الفيروس".
- قلت: "إنك لا تستطيعين ذلك سعاد".
- قالت: "متأكد؟ تثق في نفسك كثيرا ... إذا أُصبتَ فلن أستطيع لا أنا ولا غيري رؤيتك، فضلا عن مصافحتك ههه".
- قلت: "كفى، لا يعجبني الفأل السيء، كنت أحسب أنك لن تسمحي بأخذي إلى غرفة العزل ههه".
فلم يمر على حديثنا هذا خمسة أيام، حتى علمنا بأن الفيروس قد اقتحم بلدنا، وأن أولى الحالات المصابة قد رصدت بمدينة الدار البيضاء.
وفي اليوم نفسه، ذهبت إلى المطار لملاقاة أخي الذي كان عائدا من مؤتمر دولي عُقد بفرنسا إلى دارنا، لأن شهر رمضان قد اقترب، وهو مغرم كثيرا بأجوائه، ولا يفضل قضاءه وحيدا بعيدا عن أهله في شقته بمدينة أكادير، ولذلك فقد حجز رحلته من باريس مباشرة إلى وجدة.
عند وصوله لم ألتفت البتة لإجراءات السلامة الصحية. غير أن الأمور تبدو عادية، في زحمة شديدة بين المسافرين وذويهم.
وضعنا الحقائب في سيارة الأجرة، وتوجهنا إلى البيت.
الفصل الثاني
إِنِّي يَا أَخِي مَمَنُوعٌ مِنْ مُدَانَاةِ الخَلْقِ مُدَّةً
إِلا مِنْ رِجَالٍ عَلَيْهِمْ أَقْنِعَةٌ وَثِيَابٌ بِيضٌ لَيْسُوا عِدَّةً
بعد أسبوع من عودة أخي، بدأت تظهر عليه أعراض فيروس كورونا، التي أصبح الكل عالما بها خاشيا منها؛ سعال وحمى، رعدة في الجسم، ودوار خفيف، اعتقدنا أنها أعراض الإنفلونزا الموسمية.
فرضت عودة أخي إلى الدار أن أتقاسم معه غرفتي الصغيرة، يفصل بيني وبينه مكتب صغير وسجادة للصلاة. أناوله الدواء الذي كان عبارة عن مسكنات لألم الرأس، وبعض المشروبات التي كانت تحضّرها أمي، إلا أنها لم تكن تحسب أن الذي أصابه هو فيروس "كورونا" الذي لا ينفع معه "الحليب وسكينجبير" و"الزيت والكمون"، ولا غيرهما من المشروبات التي أظهرت التجربة فعاليتها في معالجة الإنفلونزا الموسمية.
رفضنا الخروج من الغرفة، وعزلنا أنفسنا داخلها احتياطا من أن يكون سبب الأعراض هو الفيروس؛ لا يورد علينا أحد، إلا من بعض الأطعمة والأشربة التي كانت تحضّرها الوالدة، وتمدنا إياها بحائل من ثوب تعقمه كلما حان موعد وجبة أخرى.
تكلمني أمي باستمرار من وراء الباب.
- تقول: "خليل، كيف هو حال أخيك؟ هل هو بخير؟ كيف كان نومه البارحة؟ أسمع سعاله من غرفتي، أنا أخشى أن يكون الذي أصابه هو هذا المرض الخطير، يا ليته لم يسافر، اللهم لطفك".
- أقول: "لا بأس عليه يا أمي، إنها أعراض الإنفلونزا لا غير، سيكون بخير إن شاء الله...".
كنت أطمئنها لا أقل ولا أكثر، لأن حالة أخي الصحية تزداد سوءا وتعقيدا. في تلك الليلة أصبت بنوبة هلع شديدة عندما رأيت أخي يجد صعوبة كبيرة في التنفس، وطلب مني بكلام متقطع أن أطلب له الإسعاف.
- قلت: "أخي ما بك؟ هل أساعدك في شيء؟ أرى أنك متعب جدا؟".
- قال: "لم أعد أستطيع التنفس بارتياح، أجد صعوبة كبيرة، هلا طلبت الإسعاف".
- قلت: "أبشر، سأخبر والدي بذلك على الفور".
ناديت على أبي من غرفتي، فاستجاب مسرعا للنداء، وأخبرته أن حالة أخي لا تبشر بخير، وأن الأمر يستدعي نقله إلى المشفى. وبعد الاتصال بالوقاية المدنية وإخبارها أن أخي يعاني من أعراض فيروس "كورونا"، خاصة وأن عودته من فرنسا لم يمر عليها أسبوع من الزمن، أُرسلوا إلينا سيارة إسعاف عليها طاقم طبي متكون من ثلاثة أشخاص لا ترى منهم إلا ثيابهم البيض، والأقنعة على وجوههم. صعد إلى الغرفة واحد منهم فيما بقي الآخران يعقمان عتبة البيت ومدخله. فتحتُ له باب الغرفة، وطلب مني مساعدته على إيصال أخي إلى السيارة، وقبل خروجه حث أبي على عدم مغادرة البيت، وأن علينا جميعا عزل أنفسنا، وخاصة أنا الذي كنت معه في الغرفة أناوله كل ما يريد.
في صباح الغد تلقينا خبر إصابة أخي بالفيروس كالصاعقة. وقد أعادوا من جديد حثنا على ملازمة البيت وألا نخرج منه مطلقا، لأننا في عداد المخالطين، في حكم المصابين، كما اطمأنوا على وضعنا الصحي وأننا لا نعاني لحد الساعة من أية أعراض، وطلبوا منا موافاتهم بكل جديد بخصوص تطور وضعنا الصحي.
خيم السكون على البيت، وكأننا ننتظر من تبلغه النوبة ليلتحق بأخي، بل خيم السكون على الحي كله، فلقد علم الجيران بإصابة أخي، تيقنت من ذلك حينما أرسلت لي سعاد رسالة قصيرة تريد التأكد من صحة الخبر.
إن ما أصبح يشغلني حينئذ هو وضع أخي الصحي، ولذلك بادرت مسرعا إلى الاتصال به بواسطة الهاتف إلا أنني وجدت الخط مغلقا، كان يوما مشؤوما للغاية، لقد وجدت نفسي مكتوف اليدين حائرا لا أعرف ماذا أفعل، وماذا بأخي سيُفعل؟؟. وفي اليوم الموالي أرسل لي أخي رسالة على "الواتس اب" مفادها أنه بخير رغم شعوره بالضجر والملل لأن لا أحد يقاسمه الغرفة (120) التي تم حجره داخلها. إلا من بعض الممرضين الذين كانوا يقدّمون له ما يحتاج من قوت وغطاء. استبشرنا خيرا، وعادت الأمور نوعا ما إلى وضعها الطبيعي.
الفصل الثالث
إِنِّي يَا أَخِي لا أَرْجُو العَوْدَةَ إِلَى البَلْدَةِ
أَيَذْهَبُ بِي المَرَضُ إِلى حَيْثُ ذَهَبَتِ الجَدَّةُ؟
بعد أربعة أيام، أصبت بالأعراض نفسها التي أصابت أخي في بداية مرضه، لكنها لم تكن بنفس الحدة. لقد كنت متأكدا من أن الفيروس قد دخل جسمي قبل أن تظهر الأعراض، لأنني كنت قد لازمت أخي كثيرا، دون مراعاة لشروط السلامة الصحية، كيف أراعيها وهو يشاركني غرفتي الصغيرة أناوله كل ما يحتاج، من قوت ودواء وغطاء...
وفي المساء أخبرت والدي بأن الأمر يحتاج فعلا إلى إخبار الجهة المعنية. وفور إخبارهم، حلّ الطاقم الطبي نفسه الذي زارنا قبل خمسة أيام في البيت.
صعدت إلى سيارة الإسعاف، ثم دار بيننا الحوار التالي:
- الممرض: "أخوك قد أصيب قبل خمسة أيام من الآن، وأنت كنت تشاركه الغرفة، ألا تعتقد أن احتمال إصابتك بالفيروس هو عال جدا".
- أجبته باقتضاب: "هذا أمر بديهي".
أخرج الممرض جهاز الكشف ووضعه داخل أنفي، أخذ عينة، ثم استأنفنا الحوار.
- قال: "هذه العينة سنأخذها إلى المختبر لفحصها، ومهما كانت النتائج فإنك ملزم بالإيمان بقضاء الله وقدره، لأن ذلك من تمام إيمان المسلم".
- رددت عليه قائلا: "خيرا إن شاء الله، ومتى تظهر النتيجة سيدي؟".
- قال: "غدا صباحا إن شاء الله".
توقفت السيارة أمام المركز الاستشفائي الجامعي، ثم توجهت رفقة الممرض إلى غرفة العزل رقم (128)، وقبل الوصول إليها، مررنا عبر ممر ضيق ومرعب؛ ضوء خافت، أبواب ونوافذ مغلقة، وبرد خفيف يخيم على المكان. حينما وصلنا إلى الغرفة (120) أخبرني الممرض بأن أخي يتواجد داخلها، وأن الأمور معنا ستكون بخير إذا آمنا بالشفاء، وتشبثنا بروح الرجاء والأمل، كما أخبرني أنه سيزورني غدا صباحا ليطلعني على نتيجة الاختبار. دخلت إلى الغرفة أنتظر صباح الغد بفارغ الصبر.
استيقظت في الصباح الباكر متعبا، ثم فتحت الهاتف لأجد مجموعة من الرسائل القصيرة على "الواتس اب"، لم ألتفت إلا لرسالة أخي الذي أخبرني بأن حالته الصحية قد ازدادت سوءا، وبأنه على علم بتواجدي في الغرفة (128) أنتظر النتيجة.
أرسلت له رسالة مطمئنة، حتى يتعلق قلبه بروح الأمل والرجاء، ولئلا تشتد عليه حرارة القنوط واليأس.
الفصل الرابع
إِنِي يَا أَخِي قَدْ أُصِيبَ تَنَفُسِي بِحِدَّةٍ
وَكَأَنَ عَلَى صَدْرِي أَلْفَ أَلْفَ عُقْدَةٍ
لم يأت الممرض في الصباح كما أخبرني، وسألت الله أن يكون المانع خيرا.
وفي المساء، فتح الممرض الباب وأخبرني بصوت مكسور أنني مصاب بالفيروس. لم أتلق الخبر بصدمة كما كنت تلقيتها عند سماع إصابة أخي، لأن نسبة احتمال إصابتي كانت عالية جدا.
قدر الله وما شاء فعل، لقد أصبحت تراودني خواطر مفارقة الحياة، وشعرت بأن أحلامي قد تحولت إلى سراب، شاب في مقتبل العمر حرمه الفيروس المستجد من مواصلة مشواره وتحقيق أحلامه...
لقد كنت أستأنس في تلك الأجواء الساكنة بالرسائل التي كنت أتبادلها مع أخي، كنت أستأنس بها كي أهزم خوفي وخوفه معا، وأتمنى ألا تتوقف المحادثة...، كان يخبرني أن حالته الصحية تزداد سوءا، وأنه يجد صعوبة في التنفس رغم استعانته بجهاز التنفس الاصطناعي...، ثم نغير الموضوع لنتحدث عن مستجدات الوباء، وعن أعماله التي يحضرها مستقبلا، وعن ذكريات الطفولة، وعن أشياء أخرى...
يومان قد مرا دون أن يقرأ أخي آخر رسالة أرسلتها له، حاولت الاتصال به لعدة مرات والنتيجة واحدة، الهاتف مغلق.
لقد انقطعت عني أخباره، وسألت الله عز وجل أن لا يكون قد أصابه مكروه...، في تلك اللحظات توصلت برسالة من سعاد تقول: "السلام عليكم خليل، عساك بخير، لقد تسلمنا جثة أخيك مساء البارحة، وسوف يتم دفنه بعد الزوال، أرجو أن تتحلى بالصبر والقوة، أنا بجانبك ولن أتركك مهما حصل..."
تلقيت الخبر في ذهول، وانهمرت بالبكاء إثر الصدمة...، انتابتني مشاعر غضب عارمة، وقمت من سريري أطرق الباب بقوة وأنادي على أحدهم ليفتح لي الباب، فقد كنت أريد الحضور لمراسيم دفن أخي. فتح الممرض الباب متسائلا عن أسباب الفوضى التي أحدثتها، وقد دار بيينا الحوار الآتي:
- الممرض: "ماذا هناك، ما الذي يجري معك يا بني؟".
- أجبته غاضبا: "كيف لا تخبرني بوفاة أخي؟ !، كيف تخفي عني أمرا كهذا؟".
- الممرض: "لقد حاولت إخبارك، ولكن بعد أن نظرت في الأمر، تراجعت عن ذلك لأنك لن تتقبل وفاة أخيك، وربما تسوء حالتك، آسف يا ولدي، إنا لله وإنا إليه راجعون".
- قلت: "طيب، أريد الحضور لمراسيم دفن أخي، فهل أستطيع ذلك؟".
- أجابني بنبرة حسرة وأسى: "نتأسف، فليس إلى ذلك سبيل، اصبر واحتسب...، تريديني أن أساعدك في شيء؟".
- أجبته: "لا شكرا، أريد فقط أن أبقى وحدي"
انصرف من الغرفة، وأغلق الباب خلفه، تجمدت في مكاني وبقيت أفكر في أبواي، كيف حالهما؟ وكيف يصبران على مفارقة أخي؟، وربما يحصل معي الأمر نفسه، لأننا كنا نعاني قبل إصابتنا بالفيروس من ضيق في التنفس، ولأني لست بخير رغم أني قد اكتشفت الإصابة مبكرا.
إنني أعاني الأمرين، مرارة الفراق، ومرارة الإصابة بالفيروس... لست بخير، سأتوقف عن الكتابة لأشتغل بأمور أخرى...
أمي، أبي، أختي، سعاد، رفاقي، وداعا يا أحبتي...
الفصل الخامس والأخير
إِنِي يَا أَخِي وَعَيْتُ أَنَّ القَضَاءَ عَلَيْهِ لا يَحْتَاجُ إِلَى عَتَادٍ وَعُدَّةٍ
وَأَنَّ الوِقَايَةِ فَضْلٌ وَسُدَّةٌ وَالاسْتِهْتَارَ جُرْمٌ وَرِدَّةٌ
توفي خليل، ونقلناه إلى غرفة الأموات...
دخلت هذه المرة إلى الغرفة (128) ولم أجد خليل. كانت آخر مرة أشاهده فيها عندما تحسست نبضات قلبه فوجدتها قد توقفت معلنة عن وفاته...
باشرت عملية التعقيم ووجدت تحت السرير دفترا وقلما، دفترا يبدو أنه كان أقرب إليه من أي شخص آخر. فقد كان يكتب فيه قصته مع القاتل الخفي. فأخذته معي وأحرقته بعد أن قرأته كلمة كلمة أكثر من عشرين مرة.
أحرقته بعد أن التقطت صورا لصفحاته وفاء لروح خليل، وزاد إعجابي به لطموحه وقوة تحمله.
بدأت أستعيد ما حصل في ذاكرتي لأستوعب تلك النهاية !
أي وجع ذاك الذي آلمه حد الموت وحيدا على سريره؟؟؟ !
وأي نوع من الممرضين أنا الذي رفضت طلبه لحضور مراسيم دفن أخيه. شاب تكالبت عليه المصائب، ولم يجد من يعينه إلا الله...
أيعقل أنه كان يعلم بأنه سيموت بعد أربعة أيام، ليكتب ما كتبه على صفحته مودعا به أمه، وأباه، وأخته، وسعاد، ورفاقه؟
لقد أدرجت الأبيات التي كتبها له أخوه قبل وفاته مع القصة، لتخرج على هذا النحو، قصة جمعت مشاعر المحبة والاشتياق والحزن والألم والفراق...
قصة شابين فارقا الحياة بسبب فيروس مجهري مسماري أقام الدنيا وأقعدها... فيروس يمكن تجنبه بالحفاظ على نظافة اليدين، والابتعاد قدر الإمكان عن التجمعات، إضافة إلى تجنب المخالطة اللصيقة، مع ضرورة ارتداء كمامة واقية ...
رحم الله خليل وأخاه...
النهاية...
هذه القصة من وحي الخيال، ولا علاقة لها بالواقع، وأي تشابه في الأحداث أو الأسماء فهو محض صدفة.
كتبها: حمزة شرعي
Hamza CHARAI
ماجستير المذهب المالكي: الخصائص، الأصول، الامتداد الافريقي.
كلية الآداب والعلوم الإنسانية/ وجدة
الرقم الجامعي: 1501092
أيام معدودات مع قاتل خفي بقلم: حمزة شرعي
تاريخ النشر : 2020-08-05
