ذاكرة المخيم...أبو عيدة بقلم: خالد أبو الرز
تاريخ النشر : 2020-08-04
رحل البارحة و تزامن رحيله مع ذكرى رحيل الفنان ناجي العلي ابو حنظلة..هي مصادفة ،ربما لترتبط بذاكرتي عَظَمَة الاثنين معاً..على الأقل بالنسبة لي، كون ابو عيدة لا يعرفه إلّا أهالي مخيم خان الشيح.
بالنسبة لي أقول: لو كان في خان الشيح جبالاً ،لرددّت الجبال الصدى ..صدى صوت ابو عيدة الذي لا زال يرن في أذني من زمن الطفولة حاضراً الآن يكسر صمت بيوت المخيم الطينية مدوياً في تلك الفضاءات المفتوحة على ليلٍ طويل.
اقترب ابو عيدة في محاذاتنا،. كان يمشي ببطء مستعينا بعكازته الخشبية..كان ضرير العينين لا يرى . لقد اعتقله رجال المباحث أو ما كان يسمى "المكتب الثاني" في بداية النكبة الفلسطينية وانهالوا عليه ضرباً على رأسه حتى فقد البصر...هذه هي حال كل مخابرات العالم في كل الأزمنة.
كانت أُمّي تقشر حبتين من البطاطا لتعمل لنا وجبة عشاء اسمها " مفرّكة بطاطا" و كانت تعتبر وليمة كبيرة لنا في حينها حيث كنّا نسمع عن ناس بأنهم يأكلون لحمة و دجاج و لدرجة أن الاستاذ في المدرسة طلب منّا مرّة أن نرسم موزة و لم نعرف و بدأنا نتخيّلها و نرسم أشكالًا دائرية..ربما لأننا لا نعرف في نهاراتنا غير الشمس و القمر و قرص عبّاد الشمس الذي كنّا نراه في الحقول المجاورة للمخيم و في بعض الحواكير.تركت أُمّي حبة البطاطا و قالت : "دخيلك ياصوت" و هي تقول لقد وقّف شعر رأسي .لأن من يسمع صوت المنادي عليه الانصات لرهبة ذلك النداء ..كان ابو عيدة ينادي بأعلى صوته قائلًا: "يا سامعين الصوت ، صلّم عالنبي، أوّلكم محمّد و ثانيكم علي، و الثالثة فاطمة بنت النبي،يا من شاف يا من دري اسوارة ذهب مبرومة و اللي ينكرها ينكر ماله و عياله"...كان أبو عيدة منادي المخيم.عندما تضيع أي شغلة أو تُسرق إحدى الأشياء من الناس في المخيم يستدعيه صاحب الحاجة المفقودة و يطلب منه المناداة عليها. وكان السارق أو الذي وجد الغرض المفقود يقشعر بدنه عند سماع هذا النداء و يسارع الى ارجاعه فورا..كان ذلك في زمن لم تكن فيه لا مساجد و لا جوامع في المخيم..لا توجد شيوخ و لا رجالات دين أو عمائم..كان الله للجميع..كان الله بسيطا و الدين بسيطا و الإيمان بسيطاً لكن المحبة كانت تعانق الغيوم و تهطل كمطر صيف...تطحننا و تعيدنا كالثلج أنقياء.و كان صوت ابو عيده بسيطاً لكن الناس كانت تتسمّر عند سماعه.أتذكر في تلك الليلة رجعت إسوارة الذهب الى صاحبتها فاطمة التي كانت تستعد للزفاف قريبا.
سالم الطلال لم يكن أعمى منذ ولادته..كان شاباً وسيما جميلاً تتسابق الفتيات في الأعراس و الدبكة ليمسكن بيده و هو يغني للعاشقين (ريتك ما هلّيت يا شهر الفراق...فرّقت ما بينا و بين احبابينا )...كان يشارك في كل أعراس المخيم و يشعل الدبكة بالغناء على عزف يرغول العم أبو حسن فياض.
سلاماً لروحك يا أبو عيدة .. برحيلك فَقَدَ المخيم علامة بارزة من معالمه الجميلة.. يا إلهي كم فقدنا من الأحبة و نحن في هذا الغياب..