تلّة أبي صبحي وشوشانا(*) بقلم:عامر خالد
تاريخ النشر : 2020-08-04
تلّة أبي صبحي وشوشانا (*)

لم يكن قادراً على استعمال البارودة لإعاقة في يده اليمنى منذ الولادة، رغم انه كان يمتلك جسماً قوياً، بل كان قادراً على ليّ عنق ثور بيده اليسرى فقط.

كان يتمنى دائماً أن يعود الزمان قروناً إلى الخلف، لتعود الحروب بالسيف والرمح كسيرتها الأولى ، علّه يستطيع أن يستعمل يده اليسرى القوية في مقارعة اليهود.

كان يمتلك صوتاً جهورياً ، عالياً، حتى أنه كان قادراً على مناداة اي شخص، ولو كان على بعد أميال عديدة، بصوته ذي الترددات العجيبة، والرجع الغريب...

رغم إعاقتة ، قابل مراراً القائد العام للثورة في شمال فلسطين (ابا درة) عندما كان يزور قرية عين غزال ، وعبر له كثيراً عن رغبته في مساعدة الثوار، وألح في طلبه هذا.
كانت أمانيه هذه تقابل بالرفض والاعتذار، بسبب إعاقته، وكان ابو درة يقول له : إن من نوى الجهاد ولم يستطع فله أجر المجاهد، لكن هذا الكلام لم يكن ليشفي غليله وشوقه في المشاركة ومحاربة عصابات اليهود، التي كانت تهاجم القرية ، كلما حانت الفرصة لها.

لم يقتنع بإعاقته، بل كان يجد في نفسة القدرة على القتال، فبقي متسلحاً بعصاة وبيده اليسرى، يجوب القرية، هضابها وأوديتها ، ليل نهار غير آبه ببرودة الجو في الشتاء وحرارته في الصيف.

كان يتفقد الثوار كل ليلة في خنادقهم التي حفروها في الجهة الغربية من القرية، والمطلة على الطريق الحيوي الواصل بين ميناء حيفا وتل أبيب، جالباً لهم الماء والطعام، مباركاً لهم صمودهم وسهرهم ، محدقا بحرقة وشوق بتلك البنادق السمراء التي حرمته يد القدر من استعمالها، وكلما سنحت له الفرصة كان يمسح بيده بحنان على أي بندقية، انشغل عنها صاحبها بطعام أو شراب.

تلك الجهة الحصينة التي كان الثوار يعتقدون انها الجهة الوحيدة التي سيحصل منها الهجوم على القرية في حال قرر اليهود اقتحامها بحكم اطلالها على ذلك الطريق الاستراتيجي.

يبدأ أبو صبحي (*) ليلته بزيارة الثوار في المنطقة الغربية من البلدة، حيث خنادق الرباط، لتنتهي جولتة في الجهة الشرقية من البلدة وفي مدرسة القرية المتربعة على سفح الجبل المطل على القرية من الناحية الشرقية، والمسمى (بتلة الرأس)، لكي يأخذ استراحتة القصيرة، ويستمر بتجواله بعدها...

اشتدت هجمات العصابات اليهودية ابتداء من شهر مارس عام ١٩٤٨ ولكن الثوار وبحكم موقع القرية الحصين من الناحية الغربية، استطاعوا أن يصدوا كافة الهجمات ، بل استطاعوا كذلك ان يقطعوا هذا الشريان الاستراتيجي.

كانت ليلة مظلمة من اواسط شهر مارس ذلك العام، وكان سكون الليل ينقل إلى أسماع المرابطين في الجهة الغربية من البلدة وقع ضربات لفؤوس قادمة من الجهة الشرقية،تخترق عتمة الليل الدامس وصمته الرهيب.
ظن الثوار ان بضعاً من النساء يقمن بجمع الحطب من سفح (تلة الرأس)، وفي الليل، فطلبوا من أبي صبحي أن يكمل جولته باتجاه الشرق، وأن يطلب من النساء الحطابات العودة إلى بيوتهن لخطورة الموقف في تلك الأيام.

لم يجد أبو صبحي أحدا من النساء، فاستلقى في ساحة المدرسة متدثرا بمعطفه الثقيل وقد غلبه النعاس.

وما بين صحو ونوم سمع أصواتنا، وباللغة العبرية التي كان يجيدها، فنهض بسرعة، وفرك عينيه، وتسلل بهدوء إلى جهة الصوت، وإذا بمجموعة من أفراد (الهاغانا) تتقدم في عتمة الليل باتجاه القرية، هذه المرة من الناحية الشرقية التي لم يكن الثوار يعتقدون ان اليهود يمكن أن يفكروا بالهجوم منها، لوعورتها، وصعوبة وصول الآليات إليها.

كانو يقودون مجموعة من البغال المحملة بالأسلحة والذخائر
بينما أخذ قسم منهم بإنشاء تحصيناته، وحفر خنادقه ومكامنه.

لم يكن وقع الأصوات التي سمعها الثوار، سوى صدى لضربات فؤوس المجموعة الغازية هذه، وهي تقوم بحفر مكامنها، استعدادا للهجوم على القرية مع بزوغ ضوء الصباح، ومن تلك الجهة غير المتوقعة.

أخذت الحيرة أبا صبحي فيما سيفعل، فهو غير قادر على مجابهتهم بعصاه، وبنفس الوقت ليس لدية الوقت الكافي ليذهب إلى غرب البلدة ليخبر الثوار بما رأى ، فالمسافة بضعة أميال.
بل ليس بقادر حتى على الهروب والابتعاد، لأن المجموعة المهاجمة ستكون قادرة على سماع وقع اقدامه في سكون الليل، وبالتالي اصطياده.
احتمى أبو صبحي بالمدرسة، بينما أخذ المؤذن يؤذن لصلاة الفجر من فوق مئذنة القرية.
تذكر صوته العالي الجهوري، وحنجرته الرنانة، وأخذ يردد ما يقوله المؤذن في سره، منتظرا انتهاء الأذان، وما أن انتهى المؤذن حتى صدح أبو صبحي بصوته ذي الرجع العجيب.

وينهم الشباب... وينهم النشاما... الله حيّهم..
ابو محمد أنت ومجموعتك... حاصروهم من الجنوب...
ابو فيصل أنت وجماعتك... حاصروهم من الشمال....
سليم ومجموعتك... عليكم الالتفاف من الخلف.
يالله يا شباب... قولوا الله.. وبدأ يكبر في أعلى صوته...

كان رجع صوته يدمي عتمة الليل وسكونه، وقد سمعه المرابطون في الجهة الغربية، كما سمعه كل سكان القرية... فهرعوا للنجدة...
وسمعه كذلك المهاجمون، الذين ظنوا أنهم وقعوا في كمين لم يكونوا قد حسبوا له أي حساب ، بينما لم يكن هناك في تلك الجهة لا رجال ولا مدافعون...

بدأت المجموعة المهاجمة بالهروب عشوائيا متخبطة في تضاريس الأرض الصعبة في عتمة الليل، تاركة ورائها بغالها المحملة بالذخيرة والاسلحة ، ومواد الإسعاف الأولي، وقد تعثر الكثير من أفرادها بالصخور والحفر ، التي تملأ تلك المنطقة الوعرة من الجبل.

سمع ابو صبحي صراخهم واستغاثاتهم أثناء هروبهم، وتأوهات من سقط منهم في الحفر وفي الجروف العميقة، ومما استرعى انتباهه ، ان مع المهاجمين سيدة شابة وتدعى (شوشانا) ، كان يحثها أحدهم على السرعة في الهروب، بقوله باللغة العبرية (كَادِيمَا شُوْشَانَا) اي تقدمي يا شوشانا... بينما كانت تجيبه باكية ( آنِي لُوْيْ خُوْلآ لَمْشِي خَلَآ) اي لا استطيع الاستمرار.

وصل الثوار بعد أن كانت الفرقة المهاجمة قد أكملت انسحابها وهروبها، فوجدوا ابا صبحي كامنا خلف المدرسة بعصاه،
والى جانبه أربعة بغال محملة.

عاد الرجال إلى مكامنهم تملؤهم الغبطة والسرور يسوقون غنيمتهم أمامهم ، يهزجون الأهازيج الحماسية ، التي تثني على أبي صبحي وشجاعته، بينما كان أبو صبحي يمشي بينهم فخورا شامخا ، قافزا تارة، وملوحا بعصاه تارة أخرى.

أقيمت الدبكات في اليوم الثاني في ساحة القرية، ونحرت الخراف ابتهاجا بصنيع أبي صبحي، بينما كانت زوجته تزغرد فخورة بين النساء اللائي كن يمجدن بطولة حسن بأغانيهن الجميلة...

يا حسن(*) ناديتو واسم الله عليه... يا زرع كطفتو من شطك يا واد..

يا حسن ناديتو من بين لجواد.... يا زرع كطفتو من شط لمجاد

يا حسن ناديدو من بين الفوارس...... يا زرع كطفتو من روس الموارس..

تنبه المدافعون بعد تلك الواقعة إلى خطورة الجهة الشرقية من القرية، تلك الثغرة الضعيفة في تحصيناتهم، وبدأوا بحفر استحكاماتهم بها استعدادا لأي هجمة منها.

وفي كل معركة بعد هذه الحادثة، كان أبو صبحي يطلق العنان لصوته ولتكبيراته، حاثاً الثوار على الثبات والصمود، ومتجولاً بين مكامنهم ، يحمل على ظهرة قربة كبيرة من الماء وكيسا من الطعام، وكانت تكبيرات أبي صبحي كفيلة في دب الرعب في صفوف المهاجمين، بالإضافة إلى دورها في تثبيت أقدام المدافعين واستبسالهم...

في الحادي والعشرين من شهر تموز عام ١٩٤٨ تعرضت القرية لهجمة شديدة من البر والبحر والجو.

اصيب أبو صبحي برشقة مباشرة من طائرة معتدية، بينما كان يصدح بتكبيراته، واستُشهد في الحال.

وفي اليوم الثاني شيعت القرية ابا صبحي وكان الحزن يلف القرية، بكاه الثوار والنساء والأطفال .كانت النساء تمشي خلف جثمان الشهيد، تزغرد وتبكي، وتغني للشهيد البطل، و (تهاهي)...له.

إيويها لزينة الشباب وزينة الحارة

إيويها إن وصفت بالوصف ما وفيك...

إيويها ابو صبحي وتلبك له الإمارة

إيويها بحنة مكة جيت إحنيك....

إيويها يا بدر ضاوي والحلى كله ليك

إيويها ما تلبك الحنة إلا لإيديك..

لم يدفن أبو صبحي في مقبرة القرية لصعوبة الوصول إليها في تلك الأيام العصيبة ، بل دفنه الثوار.في مكان استشهاده ، وفي التلّة التي صدّ فيها مجموعة الهاغانا في تلك الليلة المشهورة وبصوته فقط ...
ومن يومها أصبحت التلة واستحقت أن تسمى ..

بتلِّة.. أبي....صبحي...

عامر خالد

*****************************

* - أبو صبحي واسمه حسن الحمد، استشهد في الحادي والعشرين من شهر يوليو عام ١٩٤٨ في قريته عين غزال.
نتيجة لاصابته برشقة من طائرة صهيونية، بينما كان يصدح بالتكبيرات، ويحث المجاهدين على الثبات.

* -شوشانا أربيلي الموزلينو ، شاركت في تلك الهجمة المذكورة، الصهيونية (شوشانا أربيلي ألموزلينو) اليهودية العراقية وكان عمرها ٢٢ عاما، وقد أصبحت وزيرة الصحة... في حكومة إسحاق شامير عام ١٩٨٦ وقد ذكرت هذه الواقعة في مذكراتها وشرحت صعوبة الانسحاب في تلك الرقعة الوعرة، كما ذكرت ان كثيرا من المنسحبين قد اصيبوا بالجروح والرضوض والكسور من جراء تعثرهم وسقوطهم من المرتفعات بسبب وعورة المنطقة.
أكد كبار السن مشاركة شوشانا المذكورة في تلك العملية، نقلا عن الشهيد حسن الحمد الذي ذكر أنه سمع أحد الجنود المنسحبين يحث فتاة على الانسحاب بقوله : (كاديما.. شوشانا) أي تقدمي يا شوشانا، حيث كانت عاجزة عن تجاوز عقبة واجهتها أثناء انسحابها.
وما زال كبار السن يتندرون بعبارة... (كاديما شوشانا) ...

.