الطبقية عند العرب بقلم:عادل بن مليح الأنصاري
تاريخ النشر : 2020-07-29
الطبقية عند العرب بقلم:عادل بن مليح الأنصاري


الطبقية عند العرب

(عادل بن مليح الأنصاري)

هل يحتاج المجتمع العربي لإعادة دراسة لبعض المتغيرات التي طرأت عليه في العصر الحديث من قِبل مراكز البحث ؟
وهل توجد متغيرات أصلا ؟
للمجتمع العربي خصائص ومميزات ربما لم تتوفر لغيره من المجتمعات , والمجتمع العربي الذي نقصده هو ما يقع بين الخليج العربي والمحيط الأطلسي , أو دول جامعة الدول العربية , فرغم نشأة وخروج العرب الأوائل من جزيرة العرب واليمن , إلى أن تلك الهجرات حملت معها الكثير من خصائص العرب الأوائل , وإن كانت تلك الخصائص تختلف كثرة وقلة بين شعب وأخر , ولكن لن يختلف اثنان أن عرب الجزيرة (بكل دولها) , مازالت الأكثر احتفاظا ببعض خصائص العرب الأوائل , فالعرب في جزيرتهم كانوا شبه معزولين عن حضارات الأمم السابقة , فحياتهم بسيطو وشاقة بما يكفي لمحاولة التواصل مع العالم القديم , فصحراؤهم شاسعة وقاسية وحارقة , ومدنهم صغيرة ولم تنعم بالكثير من صور الرفاهية والرقي كبقية عواصم العالم البعيد , فلذلك رسمت تلك البيئة القاسية مميزاتها على حياتهم , فالتنقل والبحث عن الماء والكلأ تتسبب تلقائيا في تصادم المجموعات البشرية المنتشرة في الصحراء , وتلك التصادمات وخاصة الدموية أفرزت صفات لا بد منها , كالقوة والشجاعة وأحيان المروءة , والاعتزاز بالقبيلة والأسرة , ثم الكرم الذ أفرزته حاجة الجائع والملهوف للغني والمقتدر والقوي .
وحتى ولادة القبيلة لم تكن من باب الرفاهية أو التطور الاجتماعي التلقائي , فتكون الأسر والأقارب في محيط واحد , وداخل بيئة صعبة وتحيط بها الأخطار والحاجة للغذاء والماء والأمن , أفرز الحاجة للتكتل ثم الحاجة لوجود زعماء يقودون تلك التكتلات , ثم ولدت القبيلة التي تتشابك أنسابها وجمعها اسم واحد تتغنى به وتفتخر , ومع ظهور الإبداع اللغوي العربي بدأ شعراء تلك القبائل في إشعال روح الحماسة والفخر بالقبيلة ومحاولة تخويف القبائل الأخرى بقوتها وكثرة عددها وشجاعة رجالها , من هذه الخاصية بدأ التنافس على مواطن الفخر والقوة وحتى الأماكن الرعوية الجيدة , فبدأت قصة الحروب المتبادلة بينهم , والتاريخ يخبرنا ببعضها كحرب البسوس وداحس والغبراء وغيرها , تلك الحروب التي كانت لأسباب ربما أحيانا تافهة في نظر أبناء اليوم , إلى أنها كانت قصة مصير ووجود وفخر يشعل ناره أحيانا الشعر والتفاخر بالقبيلة .
بساطة الحياة وفضاء الصحراء وخلوها من أساليب التسلية واللهو كما هو اليوم , تجسد في تلك الخصائص القتالية والشعر والعشق العذري والتفاخر بالقبيلة والكرم , حتى نشوء الثورة الاجتماعية كما نعرف عن الصعاليك كانت لأسباب عديدة , كرفض المجتمع لممارساتهم إما العدائية أو الأخلاقية (المتمثلة في فحش الغزل أو عدم تقبل أهل المحبوبة لهم وغيرها كالثارات ) .
في تلك البيئة المنعزلة عن العالم كانت الطبقية تتمثل في زعيم القبيلة وأسرته , ثم أقربائه وجلسائه الأقربين , ثم طبقة الملاك (ملاك الأبل ) والتجار , ثم الفرسان والشعراء , أما بقية القبيلة فهم طبقة واحدة لا تمييز بينهم , والتواصل مع المدنية القريبة كالشام واليمن ومصر والعراق , لم تكن مؤثرة على يد بعض التجار الذين يتنقلون بين تلك المدن , فالصحراء كانت كالقوقعة التي تحمي ما بداخلها عن الغرباء والمتطفلين , كما أنها تخلو من مغريات التواصل من تلك المدنيات نظرا لقساوة بيئتها والأهم ربما رفض أبناءها أي تواصل مع الغرباء , فالقبيلة منظومة اجتماعية تربطها قيود التقارب والأسرة الواحدة , والغرباء يمثلون خطرا وتلوثا لبيئتهم المحافظة , ومن هنا ربما نعرف لماذا كانت جزيرة العرب بعيدة عن الغزوات والاحتلال الأجنبي , فهي بيئة قاسية وخالية من الثروات والمغريات المادية , ويتمتع سكانها بالقوة والبأس وربما أحيانا جلافة الأخلاق في التعامل مع الغرباء .
إلى هنا وكانت الطبقية لا تخرج عن شيخ القبيلة ومن يدور في فلكه من أسرته وأقربائه ومريديه , ونستطيع أن نسميها طبقية سياسية واجتماعية واقتصادية متداخلة , فشيخ القبيلة هو السلطة وهو المرجع والقائد والأب , وعادة هو الأغنى , وكانت طبقية طبيعية ومقبولة ولا مناص منها للحفاظ على أمن القبيلة وقوتها ومصدر تفاخرها .
ثم تغيرت الأحوال كثيرا بعد ظهور الإسلام , ففي البداية كانت مكة أقرب لروح المدنية من بقية أجزاء الصحراء العربية , ولا نعني اليمن هنا لأنها منطقة لها تاريخ مدني وحضاري منذ القدم , ولكن تأثيرها شبه معدوم على داخل الجزيرة العربية لقلقة أو عدم وجود تواصل ثقافي أو حضاري بين اليمن وداخل الجزيرة العربية , عدا بعض الأحداث التي ليس لها علاقة في طبيعة البيئة الصحراوية العربية كبعض المناوشات الحربية وقصة أبرهة , فبعد ظهور الإسلام وما أحدثه من تغيير على البيئة المكية , كانت الطبقية في مكة انتقلت تلك البيئة من حكم سادات قريش الذين يملكون مفاتح القوة من مال وتجارة وعبيد وسلطة دينية على البيت العتيق , وكانت الطبقية في المجتمع المكي لا تخرج كثيرا عن الطبقية القبلية في باقي صحراء العرب , فطبقة سادات قريش هم أصحاب النفوذ السياسي والديني والاقتصادي والاجتماعي الذي يتحكم في ذلك المجتمع , وبعد استحواذ الدين الجديد على المجتمع المكي , انتقلت القيادة الدينية والروحية والاقتصادية والسياسية لمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم , وبقية في مكة الطبقية محصورة في سادات قريش كطبقية اجتماعية , وحتى القيادة الدينية انتقلت للمدينة وصارت مكة متلقية لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده رضوان الله عليهم .
كانت المدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم لها مقسمة بين الأوس والخزرج واليهود , وما يذكره التاريخ من أحداث وقعت بينهم , فلما استقبل الأوس والخزرج النبي صلى الله عليه وسلم , أصبحوا يعرفوا بالأنصار واختفت تسمية الأوس والخزرج , ثم يذكر لنا التاريخ الكثير من الأحداث عن تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم لدين الله الجديد وطرد اليهود والعديد من الحروب حتى خرجت من صحراء العرب لكل الحضارات المتاخمة .
ولكن هل نستطيع أن نقول أن هناك طبقية من نوع ما ولدت في المجتمع المدني المسلم الجديد ؟
كان سكان المدينة ومن فيها من مختلف القبائل يكنون احتراما وتقديسا للنبي صلى الله عليه وسلم لهدف جلي , فهو رسول الأمة والذي أمر الله المسلمين بحبه وتعظيمه , ومنها نشأ بطبيعة الحال حب وتعظيم أسرته وذريته كطبيعة إيمانية فطرية , ولكن من باب علم الاجتماع هل يمكن أن نسميها نوعا من الطبقية الاجتماعية , فهناك أشراف وهناك عامة , وهل يمكن أن نقول أن الطبقية الدينية كانت موجودة , متمثلة في الخلفاء والعلماء وكبار الصحابة وهناك عامة , وهل يمكن أن نقول أن هناك طبقية سياسية متمثلة في الخلفاء والقادة , وهل يمكن أن نقول أن هناك طبقية اقتصادية , فهناك فقراء وهناك أغنياء .
هل يقدس العرب الطبقية ؟ أم هل الطبقية أسلوب حياة متوارث ومتأصل فيهم ؟
لو نظرنا اليوم للعالم ربما نجد أن الغرب والشرق يتصف أيضا بنوع من الطبقية , ولكن هل هي مؤثرة اجتماعيا ولها قبول أو وزن , فطبقة الأغنياء وطبقة الفقراء هي فقط التي تكاد تتضح معالمها في العالم الغربي اليوم , ومع ذلك يكاد القانون أن يحفظ حق كل منهم في طبقته , فلا يحق للغني أن يتعدى على الفقير (نظاما وقانونا) , ولا يحق للفقير التعدي على مال الغني , وقد توجد اختلافات من ناحية قدرة كل مجتمع على التحايل على القانون فقط .

أما العالم العربي حديثا , فتكاد تلك السمة أن تشمله أيضا , ولكن (كرأي شخصي) لو تحرينا الدقة سنلاحظ أن بعض المجتمعات العربية مازالت تسيطر عليها العديد من الطبقيات لليوم , فالطبقية الدينية واضحة بين بعض تلك المجتمعات , وكذلك الطبقية السياسية والاجتماعية والاقتصادية , وحتى القبلية .
ولكن هل كل ذلك يعتبر من الناحية الحضارية والاجتماعية سيئا ؟
هل يمكن (لبعض العرب) أن يتخلصوا من بعض تلك الطبقيات ؟ أم أنها تتوالد في جيناتهم الوراثية ولا مفر من الدوران في فلكها ؟
هل يمكن تصور عالم عربي خالٍ تماما من الطبقيات بكل أنواعها ؟
ربما لو كُتب لها الانحسار ذات يوم ( في بعض المجتمعات) , فسيكون انحسارا بطيئا وطويل الأمد لأبعد الخيال .
فتعاليم الدين الإسلامي الحنيف لم تستطع كثيرا ومنذ 1441 سنة من تغير تلك المنظومة الطبقية رغم كل الآيات والأحاديث التي تنادي بأنه لا فرق بين الناس , ولا بين فقير وغني , ولا بين أسود وأبيض , ولا بين عظيم وبسيط , ولا حتى الثقافات العالمية والفلسفة والحكمة , ولا حتى كليلة ودمنة , لم تستطع تغيير النظرة الطبقية لديهم ( إلا من رحم ربي وألهمه الهداية والصواب والخلق القويم ) .