إيجار جديد بقلم محمود فودة
تاريخ النشر : 2020-07-29
إيجار جديد بقلم محمود فودة


نعم: أعترف بأنني فعلتُها، قالتها دون أن يهتز لها جفن، فعلتُها انتقاما لنفسي، نظر إليها القاضي شذرا وقال بنبرة حادة: وأي انتقام هذا الذي يدفع إلى القتل والتمثيل بالجثمان؟ رفعتْ رأسها ونظرتْ إليه، وخطان من الدموع ينحدران على وجنتيها الشاحبتين، الشرف يا سيدي غالٍ، أنا لست بحاجة لمحامٕ يدافع عني، اتكأتْ على كتف من تجلس بجوارها، وقفتْ وقد نال الإعياء منها، كفكفتْ دموعها بطرف كمها، خيم السكون على قاعة المحكمة، تعلقتْ العيون بها وهي تقف خلف قضبان القفص الحديدي... قطعتْ الصمت: منذ أن التحق والدي بالأزهر الشريف وهو يعشق ضوضاء القاهرة، يكره الفلاحة ويراها غير مجدية، جمع شقاء زهرة عمره بالخليج، مع ثمن خمسة أفدنة باعها من ميراثه بأقصى الصعيد، بعد معارضة كبيرة من إخوته، اشترى قطعة أرض قرب النيل بنى عليها عمارة سكنية، كفلت حصيلة الإيجار لنا الحياة الكريمة، لم تمهل يد القدر والدي طويلا ضنّ به علينا، اضطررتنا لأن نبيع بقية ميراثنا بثمن بخس بسبب نزاعات الميراث وسوء معاملة أعمامي لأمي، انتقلنا إلى القاهرة، سكنا بشقة قريبة من بيتنا، مرتْ سنوات وسنوات... عجزتْ حصيلة إيجار البيت كاملة عن تلبية احتياجاتنا أمام جنون الأسعار، الفواتير، ارتفاع إيجار شقتنا التي نعيش بها، بيت طويل عريض قريب من النيل به ست شقق وأربعة محلات لم يكن كافيا لدفع إيجار شقة جديدة، بالكاد حصلت على دبلوم التجارة، بحثت عن عمل يحفظ لنا كرامتنا، كما تراني أمامك سيدي القاضي أمامك، كنت مطمعا لأصحاب الجيوب الملأى والعيون الفارغة، ما تركت أحدا يَمسّ مني شعرة، أنتِ جوهرة فلا تدعي أحد ينالك إلا بحقها، هكذا قالت لي أمي-الله يرحمها- ثلاثون وردة من عمري تفتحتْ وأنا عازفة عن الزواج، كثر خطابي، وقلتْ حيلتي، من سيرعى أمي المكلومة بحزمة لابأس بها من الأمراض المزمنة؟ ومن سيتحمل تكاليف تعليم أخي؟ وأنَّى لي بتكاليف الزواج ونحن نعيش بالكاد؟ مرضت أمي بالسرطان، كادتْ تسقط لولا أنها تشبثتْ بقضبان القفص، بدرتْ دمعة من عينها، مسحتها بمنديل ورقي وهي تنتحب، نفد ما معنا من مال، مرتبي الأسبوعي من عملي في محل الملابس النسائية، لا يسد الرمق، نظرات صاحب المحل الطامعة لا تفارتني، لا تنتهي محاولات تحرشه بي بكلام أو لمس، تركت العمل، ذهبت إلى المستأجرين أرجوهم أن يزيدوا مبلغ الإيجارات لكنهم رفضوا، شكوتْ ولا تنفع الشكوى أمام سلطان قانون جائر، أغلقت كل الأبواب في وجهي، اسودت الدنيا في عيني، ينهش المرض اللعين جسد أمي، أخي مازال زرعا غضا لم يؤتِ ثماره بعد، يمر قطار العمر بلا محطات، أصابها الوجوم، يعم القاعة صمت مريب، لا يقطعه سوى نحيبها، تمالكتْ نفسها قليلا... جمع الإيجارات كان مهمتي، بضعة مئات من الجنيهات أستخرجها من جيوب المستأجرين بنزع الروح ، أشعر أنني أتسول منهم، أراهم يفترسون جسدي بعيونهم، وأقابل ذلك بابتسامة باهتة ساخرة، يسكن إحدى شقق الدور الثالث شاب، ورث الشقة عن أبيه،هيئته وسلوكه أجبراني على التعامل معه بحذر، ماتتْ أمي... ذهبتُ... كعادتي لأحصل الإيجارات، أمام باب شقته وقفتْ، فتح الباب، قبل أن أفتح فمي بكلمة شدني وأغلق الباب، وضعتْ وجهها بين كفيها، اغتصبني سيدي القاضي، سلب الجوهرة بلا مقابل، لم يترك وراءه دليلا واحداً يدينه، لم أحكِ لأخي مصيبتنا، مازال الدم الصعيدي يجري في شرايينه، خشيتُ تهوره، قررتُ الانتقام بعدما ضاع كل شيء... عرفتُ طريق الانحراف و الرذيلة، أنشأتُ حسابًا علي الفيس بوك، من خلاله جذبتُ راغبي المتعة الحرام، صار جسدي للإيجار بالساعة... إيجار جديد سيدي القاضي، تأبى الكلمات أن تخرج من فمها تفتح فمها وتغلقه دونما صوت وكأنها حشرجة الروح في الحلق، لم أستغرق كثيراً من الوقت لأوقعه في حبائلي، حددت معه موعدًا، يومها تفننت في الزينة، لبست تحت عباءتي ما يفتنه عن نفسه، لم يعرفني، في نفس الشقة في بيتنا وضعتُ له المخدر في الخمر و على سريره ذبحته بدم بارد وقطعتُ منه أعز ما يملك ...
يعلو الضجيج قاعة المحكمة، يطلب القاضي من الحضور أن يصمتوا
أقبل بأي حكم سيدي القاضي لكني أرجوكم يا أهل العدل أن تعدموا القانون الذي يعطي من لا يملك مالا يستحق... الإيجار القديم وكل القوانين الجائرة يا سيدي، اجمعوا كل الضمائر العفنة وادفنوها في أعماق الأرض كما تدفن النفايات خوفا من خطر إشعاعها، قاطعها القاضي بصوت به شيء من الغضب:
ترفع الجلسة للمداولة، اقترب أخوها من القفص الحديدي، شبك أطراف أصابعه بأصابعها من خلال الفتحات الحديدية، تسيل دموعه، يرمقها وقد شحب وجهها واصفر لونها، ترتعش يداها، ترتعد فرائصها وتصدر أزيزا كأزيز المرجل فوق النار، أشار إليها أن تلصق أذنها بحديد القفص، همس إليها:ألا تعلمين أن القاضي يسكن في شقة بالإيجار القديم على النيل؟
٢٠٢٠/٧/٢٤