أدب المقاومة محكم الفكرة الفلسطينية في اطلالة الشعراء على مدينة القدس
تاريخ النشر : 2020-07-29
أدب المقاومة محكم الفكرة الفلسطينية في اطلالة الشعراء على مدينة القدس


أدب المقاومة محكم الفكرة الفلسطينية في اطلالة الشعراء على مدينة القدس 
***************************
د. حنان احمد عواد
رئيس فرع فلسطين
الرابطة الدولية الرابطة الدولية للقلم
رئيس دائرة العلاقات الدولية
اتحاد الكتاب والادباء الفلسطينيين
عضو المجلس الوطني

نيسان-2020


تقديم

تتصدر القدس شرايين العلاقة الزمانية والمكانية، لتسرد فعل الشموخ الأسطوري،وهي تتمثل في صورة ابداعية،ورؤية فنية سياسية منسوجة بالحنين الأخاذ، وموجات الغضب،ليتجلى ضمن محاور شمولية الوطن والأرض المكللة بمنظور الالتحام بها،والزفاف اليها،وأيضا ضمن الخصوصية المعلقة على ألواح الشمس في اشراقها وتعاليها، وفي التشكل النسبي والمطلق في دلالته الوجودية، ضمن افق فلسطين في مدنها وقراها،سهولها وروابيها،أنهارها وقمرها الدائم الاضاءة،وشمسها التي لا تغيب.

فالمكان شكل نبراسا للهوية،أضاء ملامحها الجمالية الخالدة،وظلت مدائنها لوحات صخب وصفاء في روح القصيدة الفلسطينية،وجاءت القدس لتتجلى عروسا مخلدة لفلسطين،عبر التاريخ،تتسارع فيها قطيرات الندى في الاشارات الالهية لنور نهار لا ينحسر،لينتصر المصلوب على أخشاب العشق المتوارية، خلف تراكمات صورة البناء،وأرجوحة تصارع زمنها،وزمن صريع،وصرخات ميلاد، نسوة تختال،وزمن يغتال،وأرباع الربع متشنجة،خائفة الايواء في عرين قد تتفلت خيوطه عند عزف أهزوجة اللأمان المبرمج ،والمنظوم لتغيير معالم المدينة.

ولا بد من تصويب الأنظار للأماكن، للدوائر،وأوراق مختومة الشهود،في اللحظات الاخيرة في معانقة النصر والفجر،لتكون الروح مكنونة في مهرجانات الأثير المكبل بعبق الياسمين،والليلك المزروع على قافلة الوطن،وعلى أقفال بوابات الصمت،على روابي وطن يغفو ويستيقظ،ليستقبل شارات العبور في الذاكرة،الى خصب التوهج في الروح،والمتوج في ألوان الليلك المنتظر طائر الفينيق.

المكان وذاكرته،وتفاصيل هذه الذاكرة،نقش الوان اللوحة الشعرية،وخارطة الروح المتوسدة أجنحة المطلق،والضمائر الحية والحلم الذي لا ينتهي .

وفلسطين هي المعشوقة المثلى في فضاءاتها الواسعة،والأم التي تحتضن القدس عند كل نبض يتشكل في القلب الملائكي ،الذي يبعث الحياة في الوجود،ليتحقق في ارتداد النص المطلق الى تخصيص الرؤيا،وبعث التصور الواعي في روح الأنا الأعلى،ليورق الابداع الخاص في تصوير القدس، بنصوص خطها الشعراء في لوحات ابداعية، بترسيم مجدول بالموقف والتحدي في حمل الأمانة.

وفي هذا البحث،سأقدم نبذة عن أدب المقاومة ،ودلالاته الابداعية والسياسية، وانعكاسه في رؤيا شعراء المقاومة لمدينة القدس،والصور الخاصة والمميزة التي خصها الشعراء بها، وذلك ضمن محاور ثلاثة:

المحور الأول:المحور الجغرافي، وذلك باطلالة على المكان والتاريخ ،وملامح المدينة ،وكيفية تصويرها ،والتعبير عنها.

المحور الثاني: المحور الزماني، وذلك برسم وقائع الحقب التاريخية، و الأحداث، وانعكاسها في القصائد المخصصة للقدس،بدءا من انعكاسات النكبة على روح القصيدة،وتواترا مع كل ما جرى من الأحداث،وخاصة الانتفاضة المباركة،وحضورها الفني في ابداعات الشعراء.

المحور الثالث:المحور الانساني،وذلك باطلالة على أعماق التجليات الانسانية والكفاحية، في رسم صورة مدينة القدس.

وهذه المحاور تتداخل معا في القصائد المقاومة،وتسير بنسج حلولي واحد،مما يجعل الحديث عنها ،وتحليلها،يأتي في سياق التعبيرعن القدس بروح استثنائية،تفاضلية،تتكامل في لوحة واحدة ،ضمن المحاور المذكورة ، استنادا على مقاطع شعرية ناطقة بها،تحمل آفاق الرؤيا الشمولية والمعمقة، في أهمية الكلمة المقاومة في صياغة صورة القدس، بألوانها وتفاصيلها.

وقد طافت أقلام الشعراء،وحلقت في فضاءات روح القدس،بكم نوعي من القصائد التي أرخت للمدينة،وحملتها على سواعد الشوق والابداع.

ونظرا لحضور القدس المكثف في ابداعات الشعراء،فانني سأعتمد على المنهج التحليلي والنفسي في دراسة انتقائية للنصوص،مرتكزة أساسا على نماذج مما أبدع به عدد من شعراء المقاومةالفلسطينيين المعروفين،وعلى رأسهم الشاعر عبد الكريم الكرمي،محمود درويش وهارون هاشم رشيد،في رسم ملامح اعجازية للمدينة،بتفنن الشاعر وروح الفنان المميز.

كما سأعتمد أيضا، على نماذج متفرقة مما كتبه شعراء فلسطين في حقب متتالية،وما كتبه شعراء  المقاومة في العالم العربي .ولا أراني أقف موقف الناقد الشمولي،لأن ذلك يستدعي قراءة أخرى مغايرة،تستلهم جميع الأبعاد الفنية،من صور تعبيرية،ولغة،وايقاع وعروض.

وقد أردت أن أقدم في هذا البحث،صورة جمالية تنصيصية، لما فاضت به أقلام شعرائنا المقاومين حول مدينة القدس المباركة،في حقب عديدة،وأن أفرد مساحة للمتلقي،للاطلاع على هذه النماذج الابداعية، التي شكلت حضورها التاريخي،والتي تستأهل التعمق بها،وتسطيرها،كعلامات هامة في ميزان الوعي والابداع،واشارات تعبيرية عن الحق التاريخي الذي ندافع عنه، ونثور لأجله ،ومرجعية أدبية ثقافية لأدب المقاومة.

ولا بد من الاشارة الى أن الفكرة الفلسطينية، والدفاع عنها، تأتي في السياق المعمق في اطلالة وعي النصوص.

وفي الختام،سأقدم موقفا تحليليا لنتائج ابداع الشعراء في رسم القدس، والتغني بها، والتضحية لأجلها.

أدب المقاومة

في هذه المداخلة،أتوقف أمام وقائع التداخلات السياسية المتعددة، التي عاشها الانسان الفلسطيني بشكل عام،والكاتب الفلسطيني بشكل خاص،لألقي في اطلالة الاضاءة النوعية،نظرة على الأدب الفلسطيني المقاوم،حينما تتصدر الكلمات الملتزمة وقائع المقاومة.

فمنذ توارد النكبات،والاحتلال،وفقدان الأرض،نبض القلم الفلسطيني بصرخاته الموجهه،والتي تناطح جميع قوى الظلم،وتتصدى لكل شكل من أشكال الاحتلال،وجاء الشعر،ليشكل الرسالة الموجزة، والمعجزة،أو البيان العسكري ذا الايقاع الخاص في المعركة،ليكون ترسيما وترسيخا،بأن الكلمة بدء لهدف أسمى،واستراتيجية سياسية،انسانية وثقافية،ينقل أبعادها المبدع بكل أدواته الابداعية،مستندا على أن فلسطين التاريخية محكم الفكرة الفلسطينية ،التي لا يشوبها الشك،مهما امتدت يد الاحتلال اليها،لان التاريخ الفلسطيني متجذر بها، بحلول الروح فيها،ولأجلها،في سالك اشراق الحب الأبدي السرمدي.

وهذه التشكلات الفكرية المستنيرة،تجلت  في مفهوم"أدب المقاومة،أدب الثورة "،كما  تحدث عنه غسان كنفاني،رجاء النقاش،احسان عباس،غالي شكري،حسين مروة،محمد دكروب،وآخرون من الكتاب والمفكرين الفلسطينيين،العرب،وكتاب العالم.

وقد أبدع الأدب الفلسطيني الملتزم أدب المقاومة،ليصبح مدرسة ابداعية،فكرية،نضالية، يحتذى بها، وامتدت المقاومة والثورة في حضورها ،ضمن تاريخية الحدث السياسي،واعتبارية ذاكرة الفكرة المقدسة التي أطلقت روح الأقلام الفلسطينية، لتكون قناديل مضيئة، للذود عن الذاكرة،وحمايتها.

وكانت الحرية الثقافية والكرامة الوطنية، هي أساس ابداع تشكل الفكرة المعجزة،الفكرة المحكم التي لا ينتابها التشابه، أو الشبهة.

واذا كانت استراتيجية انشاء الدولة الفلسطينية المستقلة،تسير ضمن سياسة الممكن،وممكن الممكن،فان الفكرة بقيت مطلقة،عظيمة،مترامية الأطراف والفضاءات.

فكما قال الشاعر محمود درويش:"ما أعظم الفكرة وما أصغر الدولة".(1)

والأديب هو حامل الفكرة ومبدؤها الأول،والمدافع عنها .(2)

وقد اتسعت رؤيا الأدباء،بفعل انتمائهم،وبلغة الابداع،لتحمل فيض التعبير عن الوفاء للأرض،وشكلت عباراتها وتعابيرها الخاصة، الوجود الحتمي والفني، كما نرى في ابداعات الرعيل الأول،عبد الكريم الكرمي(أبو سلمى)،ابراهيم طوقان،عبد الرحيم محمود،حسن البحيري،هارون هاشم رشيد،حنا أبو حنا،توفيق زياد،يوسف الخطيب،وغيرهم.وتجلت صوفية العلاقة التوحدية في معالم الوجود الفلسطيني،حتى غدت اشاراتها الترميزية آفاقا لحق التعبير عن الأرض والانسان،بابداعات معاني الحالات في رحلة روحية،تتلخص فيها تجربة الحلول.

القدس والنص الثائر

تألقت القدس في روح الشعراء،وامتد ألقها من عمق المشاعر، بفيض الروح في وجدانهم،من عرفها عن قرب وعاش بها، واستحضر الذاكرة في ابداعية جمالها الأخاذ،ومن لم يعش بها،واستشرف حضورها الذهني،وطاف بها بكلماته،بايقاع التجلي،لتكون عروس الكبرياء الوطني،والحلم الراسخ في الفؤاد.

ومن رسمها في حلم العودة،وسالت دموعه أنهارا في البحث عنها،وارادة تخليصها من أنياب المحتل،في حضور ايقاعي،برسم صورها،وتجسيد ملامحها، في ابداعية الخلق الالهي والقدسي،لتظل عصية على الغياب،ولتشكل صورة متفردة للمدينة،ضمن محاور ابداع صورة الوطن الأشمل-فلسطين التاريخية،في ملامحها الجمالية والنضالية،لتكون قلب الوطن النابض.

وتشكلت روح المقاومة في نصوص الابداع،لتكون مدرسة فكرية نضالية،أبدعت أدب المقاومة،أدب الثورة،بايقاع خاص، وظلت الكلمة المقاتلة سلاح الثائر المعادل للبندقية،بترميز خاص،وبلغة الكفاح.

وقد ارتقت القدس اسما وتاريخا وواقعا،وبرزت في أعمال الشعراء بأسمائها المتعددة،وملامحها المتجددة،وحازت على لغة الحضور المتوخ بنبض اسمها،وعنوانا لدواوين ارتبطت بها،وملامح خاصة زينت وجه التاريخ،بنور قناديلها،وشموخ أسوارها،وابداعات مثقفيها ومناضليها.

وحين يطل هذا الاسم المعجز في حروف القصائد،وفي ايقاع النص،تطوف أمواج في الروح،لتعتلي ناصية الثورة ،بأبعادها المختلفة،وتلتف حول ترانيم القلب، لتبقى الأعز.

واطلالة على أمنيات العشق الأبدي،وتواصلات التاريخ،وهبوب العواصف،ندرك الماهية المرسومة لها في نص الكبرياء الوطني ،المنظوم في الوفاء،وفي عمق القلب،واشعاعات ساحرة، تلقي بضوئها على عاشقيها في رحلة السجود،وفي ألق الصمود،وفي عتق الشوق المخزون بها،ولها، في رحلة الحرية والمجد.

وحينما تتصفح دواوين شعراء المقاومة،يبهرك هذا التكثيف الرمزي والواقعي في رحلة التنصيص،وتخصيص الابداع، ليقارب الصورة،ويقترب بها،ويتقرب اليها، معشوقة أبدية ،لا يواريها الغياب،ولا يمحو حروفها العذاب.

قدسية المكان

واطلالة على قصائد الشعراء،والتعمق بها،تستشرف نصوص ابداعية خاصة،وسمات أدبية مميزة،تدنو من التقديس أحيانا،وتحلق في الحلم والأمل،لتشعل النيران ضد المحتل.

فما كتبه الشاعر عبد الكريم الكرمي(أبو سلمى) عن فلسطين،وعن القدس،يشعرك بمدى التعمق الوجداني في روح القدس، وروح فلسطين،حين يقول:

" من فلسطين ريشتي وبياني

فعلى الخلد والهوى يدرجان. "(3).

ويستطرد الشاعر في رسم المكان،وترسيم فلسطين في مدنها العديدة، والتغني بها،ويعبر الى عمق مدينة القدس في عبورها الصعب،وهي تتلفع بالسواد،كلما صرخ الأقصى، وأطلق آذان النجدة،حين يقول:

"ريشتي في حفيفها جهشة الأقصى

على أهله ونواح الآذان

"دير ياسين"في الشباة مع :القسطل"

خلف السواد يعتنقان " (4).

ويبرز المكان جليا في هذا النص،الصرح الديني والتاريخي"المسجد الأقصى"،العلامة الدالة والمميزة للقدس،بصوت الآذان،وكذلك "دير ياسين"والقسطل،وهي جزء تاريخي ونضالي من مدينة القدس.

ويسترسل ابو سلمى،ناقشا من مداد الروح صورة تفصيلية لملامح فلسطين،ويتجلى التاريخ صارخا في ملامح القدس،فترى المسجد الأقصى، يشكل التاريخ الجمالي والحضاري للمدينة،فهو في قلب المدينة القديمة الناطقة بالتاريخ،ينشر أريجها باكتمال الجمال،وسحر تكوين القدس ،كمعلم حضاري وسياسي،ومركزية لاطلالات الروح في الأديان السماوية،وشعلة نضالية لا تنطفيء، وقد أكد الشاعر أبو سلمى كل ذلك قائلا:

"يا أهلنا في البلدة القديمة

مدينة التاريخ والمسجد الأقصى ".(5).

وفي قصيدة"يا ربى القدس"،يتغنى أبو سلمى بالقدس،وانطلاقاتها الثائرة،فهي التي تقود المعركة المصيرية،وتحمل البشرى لباقي المدن الفلسطينية:

"أنشدي يا ربى القدس والخليل

أقبل الثائرون

غردي بشري اللد والجليل

اننا قادمون ".(5).

ويطوف قلم الشاعر في رحلة المكان،ليرسم خارطة القدس،بذكر أماكنها المتعددة،والتي تشكل حضورها التاريخي والوطني،وينجح في توجيه الضوء الى ملامحها، وأماكنها المميزة،والعلاقة التاريخية التي تربطها:

"يا جبل المكبر

هل تسمع التكبير والتهليلا؟

هل تسمع الآذان؟

ثم يجيب بنفسه على السؤال:

كيف لا؟

ولم يزل صوت عمر

يدوي مع الزمان ".(7).

وهو هنا، يطل على التاريخ المقدسي،في حضور الخليفة عمر بن الخطاب الى القدس،بنسج واقع معاصر،حين أشادت الحكومة البريطانية قصرا للمندوب السامي ،فوق جبل المكبر المشرف على القدس.(8)ليضيف قائلا:

"فكما الفاروق دوى صوته

فجلا لنا الدنيا وهز الجيلا.

لينطلق صوت التحدي من الشاعر قائلا:

"جبل المكبر لن تلين قناتنا

ما لم نحطم فوقك الباستيلا."(9)

ونرى النص مباشرا، يوصل الفكرة دون استخدام الرموز،لتبدو  القدس هي الرمز وهي الواقع.

والمكان لا يكون مجردا،بل يطل على الانسان الحر الذي يعيش فيه،ويضفي بعدا تراثيا وثقافيا،يحمل دلالات عمق التجذر بالأرض،واضاءة معالمها الحضارية في تاريخية الفكر والابداع،كما رأينا في رثائه لعلماء القدس ،وتغنيه بدورهم المميز،وهو بذلك يسجل التاريخ الحضاري، ملازما للبعد النضالي والسياسي.

"بكت القدس يوم غاب"خليل"

والرفاق الذين حثوا الركابا

ثم ناجت"أبا سري"و"اسعافا

ومن يسكنون تلك القبابا".(10).

وهذه الأبيات مرثية لقامات فكرية وأدبية،اسعاف النشاشيبي،خليل السكاكيني وابراهيم طوقان.

وقيمة المكان تسمو في البعد الكفاحي،وجاهزية أبناؤه للتضحية من أجله،وحين يكون الفدائي امرأة،يضفي بعدا تثويريا راقيا،ورؤى انسانية تكاملية،فهو يلقي الضوء على المناضلة الشهيدة، رجاء أبو عماشة،ويربط البعد النضالي بين فلسطين والجزائر،بالارتقاء بصورة مناضلتين، رسمتا صفحات مشرقة في التاريخ النضالي، في الجزائر وفلسطين.،ليصير دربا كفاحيا موحدا،من خلال جميلة بوحيرد ورجاء أبو عماشة،كما ورد في هذه الأبيات:

"وتنادي جميلة يا رجاء القدس

أنت التي رفعت الشعارا

نحن أختان في الجهاد نشرنا في

الدروب الأشواك والأزهارا ".(11).

وحينما تمتد يد الغاصب الى القدس،ويسيل الدم أنهارا،وتتشكل لغة الاغتراب على أبوابها المقدسة،تحمل دلالاتها المعذبة،فتشتعل أمواج الغضب،وتنهمر دموع اللوم على كل من قصر في الدفاع عنها،وفي هذا المعنى يقول في قصيدة "دم أهلي":

"أيها الحاكمون في بلادي

ما الذي تغزلون خلف الستار

أصبحت هذه العواصم بعد  القدس

ركنا في متحف الآثار".(12).

وتتضح جدلية المكان،والعلاقة ما بين النص الانساني في روح المكان،وانبثاق التوجه العملي للحياة والنضال،عبر أزمان متلاحقة،تتكرر الأحداث فيها،وتنطلق النصوص الابداعية في أزمانها المسترسلة،في محاولة توجيه البوصلة نحو الأرض المقدسة،والنداء لرحلة الخلاص.

وما بين عشق القدس المعتق بالحياة والتجربة المكانية والزمانية،واستشراف الذاكرة،ينقش الشعراء حلمهم البعيد القريب في عبور القدس،والسير في أركانها،في مراكب الروح،وفي التجليات الصوفية في رحلتها وطوافها،والاحساس المعذب بفقد رحلة العبور التواصلي في واقعية التجربة،كما نرى في أكثر من قصيدة للشاعر المصري الثائر أمل دنقل.

أبدع أمل دنقل في استحضار روح الألم،بأسلوب خاص به،محملا بروح الناقد اللاذع ،الذي وقف ضد التنازل والتخاذل،بصوت جهوري،دون مداراة،أو رهبة من السلطان.فهو يقول:

"نحن جيل الألم

لم نر القدس الا تصاوير

لم نتكلم سوى لغة العرب الفاتحين.

لم نتسلم سوى راية العرب النازحين

ولم نتعلم سوى أن هذا الرصاص

مفتاح باب فلسطين." (13).

وهذه الأبيات واضحة الدلالة،سجية الألم،تحمل النداء باتخاذ الموقف الجاد دون مواربة.

"فاشهد لنا يا قلم

أننا لم ننم

أننا لم نقف بين"لا"و"نعم".(14)

ويظل يتساءل بجرأة المبدع عن الصمت والتخاذل المتفشي،والحقيقة الغائبة،وان كان بعمق رؤياه،مدركا لحقائق كثيرة باهتة اللون.

ويتساءل مستنكرا ما يجري،كيف لا؟ وهو الشاعر الذي غذت قصائده الناقدة اللاذعة روح المقاومة،وكشفت الأقنعة.

"وردة في عروة السرة

ماذا تلدين؟

طفلا..أم جريمة؟

أم تنوحين على بوابة القدس القديمة؟؟ "(15).

ويضيف في قصيدة "بكائيات..

"وعجوز في القدس(يشتعل الرأس شيبا)".(16).

وهنا تبرز جمالية التنصيص المقتبس من روح القرآن الكريم.

وفي قصيدة"نقش"

"لا غالب الا الله.

(مولاي،لا غالب الا الله)

اللوحة  الأخرى ..بلا اطار,,

المسجد الأقصى(لو كان قبل أن يحترق الرواق)

وقبة الصخرة،والبراق

وآية تآكلت حروفها الصغار."(17).

ويشير دنقل بألم شديد الى حادثة حرق المسجد الأقصى،باشارات غاضبة، تستنهض التحرك للدفاع عنه،وتستهجن الركون السياسي، وغياب الفعل وردة الفعل.

وقد أبدع الشاعر الكبير محمود درويش في رسم صورة فلسطين والقدس،بجمالياتها،ومشتملاتها،ومجمل صفاتها.

بروح الشاعر،وسيف المناضل،وأمواج الروح المتفجرة حبا وشوقا،وحلما وأملا في اشراقة فجر الحرية.

وقد أكد قدسية الوطن في فلسطين،وقيمتها الجمالية والتاريخية،وما تضفيه من حياة كانت هي الأرقى والأجمل.وقد أضفى بعدا تثويريا وانسانيا بلغة الارتقاء النوعي،أضاف الى الابداعات السابقة، تحولات فنية خاصة،منطلقة من الحب المقدس،والحياة في المنفى ،وعلى أرض فلسطين.هذا اضافة الى الثقافة العالية واللغة المتمرسة،والمخزون المعرفي،والذي نقلنا من خلاله،في رحلة حب أبدي مرسوم على أوراق الزيتون،وفي عيون القدس، وهي ترنو الى أبنائها الثائرين وتناديهم.

يقول درويش:

"على هذه الأرض ما يستحق الحياة

على هذه الأرض سيدة الأرض

أم البدايات،أم النهايات،

كانت تسمى فلسطين

صارت تسمى فلسطين".(18).

ويقول درويش أيضا،في فكرة الأرض وخلودها،والتحام الشاعر بها،بحيث تصبح الأنا منسوجة بالأنا الأعلى،وهي الأرض التي عاش الشاعر بها واستحقت الحياة.

"أنا الأرض،ايها العابرون على الأرض في صحوها

لن تمروا

لن تمروا

لن تمروا ".(19).

ثم يتابع قائلا:

"أيها الذاهبون الى صخرة القدس

مروا على جسدي".(20).

ويستحضر التحدي  ذاته على ايقاع الروح،ليعلو نبض الرفض لما يجري،وارتفاع نبرات القلق من فقدان الأرض،ورحيل المكان،ليتساءل:

"يا أرض لم أسالك:

هل رحل المكان من المكان؟"(21).

وتتشابك الرؤيا في المكان والزمان والألم،بهذا النص:

"آه ما أصغر الأرض،

آه ما أكبر الجرح!."(22).

والأرض،هي مساحة الامتداد المربوطة بالكينونة الوجودية والتاريخية للشعب الفلسطيني،وهي محور مطامع الاحتلال.

 وحينما يحلق محمود درويش في مدينة القدس،ويطل عليها بترميز خاص،مجدول بروح الأنثى أحيانا -وكما نعرف،ان محمود درويش ارتقى بصورة المرأة-فهو يقول:

"يا امرأة من حليب البلابل

كيف أعانق ظلي وأبقى؟ "(23).

ولا بد من رسم الطريق الروحي في نص العودة،بالحلم الموجه الى القدس،وبشموخ الفكرة الأجمل،وصعود الفتى العربي الى الحلم،ولا بد من ذاكرة المكان،واستحضار الفكرة الأزلية للقاء بها،وانبعاث الذات اليها في دنف الأشواق.

وقد تداخلت فكرة الحب البشري عند الشعراء عامة،وعند الشعراء الفلسطينيين خاصة،ممتزجة بفكرة حب الأرض،واستحضار الروح الوجدانية في رسم الصور الأخاذة،والتي بدورها ترتقي في صورة المرأة،وتعبر بها الى فكرة الجمال المطلق،ويتم اسقاط الرؤيا على القدس، معشوقة دائمة الحضور في نفس الشاعر،وكذلك تمتد الكثافة الترميزية في الاتكاء على عناصر تراثية وتاريخية وأسطورية،تربط الماضي بالحاضر،بقوة خلق جديدة،وبحيوية متجددة،حتى تتحول الى معادل موضوعي بين المعنى الظاهروالباطن،،محملا بوميض ترميزي، يربط آفاق القيم العليا، لتشكل نبض الحياة،استنادا على الرموز التصويبية للفكرة النضالية،متوجة بدلالات خاصة ،تحمل معايير وجدانية في العلاقة ما بين الانسان والوطن،في اطلالات الحب المعتق، الرامز للائتلاف النوعي،والتوحد النفسي،كما رأينا في قصائد محمود درويش،فالوطن والمعشوقة،صورة صوفية مبدعة حين يقول:

"يا امرأة وضعت ساحل البحر

المتوسط في حضنها

وبساتين آسيا على كتفيها

وكل السلاسل في قلبها ".(24).

والقدس عظيمة شامخة،كما يراها درويش،لا تهتز أسوارها،ولا تسقط،سيدة الحضور،خالدة الوجود..وما سقط هو التحاذل والتنازل، والفشل في الدفاع عنها،والذي جعل من قلم درويش، سيفا حادا،ناقدا فكرة التخاذل،موجها قلمه مباشرة، لكل من تواطأ وفارق قوة المقاومة والتضحية،وجعلها مرتعا للغاصبين ،فهو يقول:

"المدينة لا تسقط،

ورويدا رويدا تفتت وجه المدينة

لم نحول حصاها الى لغة

لم نسيج شوارعها

لم ندافع عن الباب

لم ينضج الموت فينا ".(25).

ويظل حضور القدس شوقا معرفيا في قلب الشاعر،ليتحد فيها في وله ورمزية روحية باطنية،تحقق الفكرة في اتحاد ذات الشاعر، في دلالات التواصل الأخاذ، في الفكرة والهوية،والهاماتها النورانية،لترتفع النفس الشاعرة، الى صفاء الجمال المطلق، بصورة اشراقية،في انكشاف الفكرة   الفلسطينية، في التأمل الداخلي.                     

ويقول درويش:

"ونلتقي في القدس،

ليت القدس أبعد من توابيتي لأتهم الشهود".(26.).

وحقيقة الوطن والقدس في مكنوناتها،تغنى بها شعراء فلسطين،كل بمنهجه الخاص،وأسلوبه وكلماته ورموزه،وبالعلاقة الوجدانية التي تربطهم بها،مما جعل الكثير من التوصيفات تتشابه،وتصب في الفكرة الخالدة.

وحينما حوصرت القدس،وحوصرت فلسطين،تشكلت حالة سيكولوجية معذبة،عاشها الشعب الفلسطيني،ما بين جدار يرفع،وحاجز يتفرس العابرين،وقضبان تنفث نيرانها على المناضلين،واغتيال متعمد للزمن الفلسطيني.

فقد استشرس الارهاب الاحتلالي في قضم الأرض والتاريخ،موجها بوصلته الى مدركات السرقة المبرمجة للأراضي الفلسطينية،والتراث،مما شكل حصارا نفسيا معمقا في داخل كل فلسطيني،وأصبحت القدس حلما يحاول الفلسطينيون أن يصلوا اليه،بالقفز عن الأسوار،واختراق الأسلاك،ومواجهة المحتل اليومية..

واستمرت الحواجز والمنع والتحكم بالزمن،وظلت الروح العائدة،في محاولات العبور،التي كانت تواجهها دائما رصاصات القناصة.

وما وصفه الشاعر محمود درويش يرسم تلك الصورة،فهو يقول:

"مدينتنا حوصرت في الظهيرة

مدينتنا اكتشفت نفسها في الحصار".(27).

وتتكرر صورة القدس محمولة في نصوص المبدعين،وتستمر رحلة التعذيب والتغريب،لترتقي النصوص في تفجير الموقف،وتستحضره ضمن قصائد نوعية،تحمل ألم الرؤيا،وضمن أعمال مكتملة خطت لأجلها،كما نرى في "كتاب القدس" للشاعر سميح القاسم،وقصائد عديدة حملت اسم القدس،وأطلقت عنانها في مجمل اعمال المقاومة

فنرى في قصيدة"اذا نسيت القدس"،وفسيفساء على قبة الصخرة"،أن القاسم أولى اهتماما كبيرا في اختياره نصوص توصيف المدينة،بمواقف متعددة،وفي رؤيتها حول القدس في أدب سميح القاسم،ترى الباحثة أسمى عبد الله أنه،اذا كانت تلك القصائد تتضمن ذكر القدس،وتعبر عن صورتها،الا أنه يصدق القول، أن قصائد القدس ثلاث فقط هي،اسمك القدس،موعظة لجمعة الخلاص،وقدس الأرض، والواضح فيها هيمنة القدس،ورمزيتها،وحضورها البارز بألفاظها ودلالاتها،ماضيها وحاضرها،تاريخها وهويتها،وجزئها بكلها،وغير ذلك. (28).وتضيف الباحثة:أن القاسم أضفى بعدا جماليا على المكان،بدعم المعاني، والدلالات التي يبثها البعد الواقعي،وبتوظيف الرموز وتكثيفها.(29).

والحقيقة أن الترميز ساهم الى حد كبير في اغناء الصورة،وترسيمها بألوان الروح ،وصرخات التحدي،وربطها في الأبعاد الدينية،التراثية والتاريخية،هذا اضافة الى الموقف السياسي الذي أضاء الفكرة الكامنة في النص،وأشعل الذاكرة للمتلقي، كما نرى في قصيدة"اسمك القدس":

"من رأى طفلتي الباكية؟

من بلاد الدم الواسعة؟

يا يبوس،يا قدس،يا ايلياء،ويا أورشليم

ضيعتك الخطايا

فهل أسعفتك الذنوب؟"(30).

وقد نقش القاسم في قصائده، اشارات ورموز حضارية،تتلفع بها القدس،في أبعادها الدينية للديانات الثلاث،وتظهر بعض الرموز منها في حلتها الربيعية الدائمة،كما رأينا في ذكر الاسراء والمعراج عنده،وباقي الرموز الدينية،والتي ذكرها شعراء آخرون أيضا:

"مثلما هي قدس باسرائها وبمعراجها

بمزاميرها وأناجيلها والسور

ومسيح على بابها منتظر

هي قدس السماء

والرسالت والأنبياء."(31).

تتداخل المواقف والرموز عند الشاعر،ويسترسل في التغني بالقدس، ودلالاتها التاريخية،وهويتها الوطنية والقومية،ويطلق نص التحدي:

"اذا شئت حيا سترحل

وان شئت ميتا سترحل

تفضل لترحل

سترحل

الى حيث ألقت..

سترحل..وترحل..وترحل" (32).

وهنا يقترب القاسم من موقف درويش في قصيدة "أيها المارون بين الكلمات العابرة...

"آن أن تنصرفوا

آن أن تنصرفوا." (33).

ومن الأمثلة،تدرك مدى أهمية الكلمة في اطلاق الموقف،والبعد الالهامي والايحائي في القصيدة,,

والشعر فيض الالهام،والشاعر كائن أتيري تلهمه ربات الشعر.(29)وهويستخدم ايحاءات يختلط فيها الحلم بالواقع،والرمز بالحقيقة.

وفي ذات السياق،يشتعل الألم في وجدان الشاعر أحمد دحبور،في قصيدة:"سؤال شخصي الى القدس"..ونستشرف من سؤاله حالة موجعة،ترسم في بعد ملحمي..

"ما الذي يجعل منك القدس غيري؟

أنت مهدي،صخرتي

ميلاد اسرائي،

واسفلت سماوي لطيري

ولهذا أنت حكم بالعذاب

وأنا المحكوم بالعودة."(34).

وفي سؤال دحبور الحارق، والموجه الى القدس،تشعر بمدى عمق الألم الباطني،فهويرسم الألم في تخزين روح التحدي،والحزن الدفين،واطلاق هذا السؤال،يأتي في محاولة تجاوز الألم،في موقف استباقي في اطلاق الرؤيا الواعدة،ولكنها المعذبة في نفس الوقت،وهو يطل بسؤاله على ما جرى للقدس ،وما واجهت،وما واجه عاشقوها،ليطرح  السؤال ثانية:

"ما الذي يجعل منك القدس ؟

لا أسأل،

بل أدخل في سحر الجواب

ما الذي يجعل منك القدس؟

اسبوعك أيام،

وزيتونك زيتون،

وفي أرضك،مما يطأ الناس،

تراب كالتراب."(35).

وفي قصيدة" لبيك يا قدس"،يروي الشاعر رحلة التضحية والفداء من أجل القدس،في استشهاد الشابة آيات الأخرس.

وفي قصيدة"القدس قدس"أيضا،يصور دحبور بمداد الألم،الهجوم المبرمج الاقتلاعي لحي الشيخ جراح،ثم يطلق النداء:

""القدس"و"الأقصى"

يجلجل النداء،

عاليا

يا أمة الاسلام

انه"الأقصى"

يباح،

يستباح المحرم

يا أمة الاسلام

في القدس..أمامكم،

يغتال من صلوا بها وسلموا..

وتعلو نبرة النداء أكثر،ولا من مجيب:

القدس أمكم،تاريخكم

اسراؤكم،معراجكم

والمعلم

يا مسلمون أين أنتمو؟

فلماذاوحدك القدس،

ودونك أسماء..قرى أو مدن؟

لماذا طارت الصخرة،

وانكب عليك الدهر."(36).

والملاحظ هنا عملية تكثيف المشاعر، واشتعال الغضب،وتصوير الحلم بمداد النداء،ليأتي الحلم منسوجا بكثافة استثنائية،قادرة على نقل الصورة،في هذا المزج  التكثيفي، كما يرى فرويد،ان عمل :الحلم" وعمل "الشعر" يتشابهان في عملية التكثيف .(37) .

 وكان للشاعر نزار قباني اطلالة خاصة على القدس،تحدث عن فلسطين في ظل الانتفاضة، ،ثم غنى للقدس بايقاعات الألم،ورسم الحزن في ملامحها،وفي كل رموزها التراثية،في رحلة حب موصول بالاقحوان،وفي افتنان روحي آخاذ،طاف بها،بأركانها،بكنائسها ،بمساجدها،بكل جمال فيها،وحدد هويتها الانسانية التي لا تقبل القسمة، ولا التجزئة،ففي قصيدة القدس،طاف بنا،ومعنا في تعريفها النوعي، بتقنيات اللغة والمضامين،وبلاغة النصوص،حين قال معرفا لها:

"يا قدس يا منارة الشرائع

يا طفلة جميلة محروقة الأصابع

حزينة عيناك يا مدينة البتول

يا واحة ظليلة مر بها الرسول

حزينة مآذن الجوامع

يا قدس يا مدينة تلتف بالسواد."(38).

وحينما يلقى النظرة من بعيد على كنائسها،يولد الألم من بين جدران التاريخ،ويطفو في سؤال جريح :

"من يقرع الأجراس في كنيسة القيامة

صبيحة الآحاد

من يحمل الألعاب للأولاد

في ليلة الميلاد؟؟"(39).

وترتفع نبضات الألم،والوجع الدفين،والحسرات على الواقع الحزين،ليشتد السؤال، بنغم موال يخرج من أعماق الروح، مكسر الايقاع،ليعيد السؤال:

"من يغسل الدماء من حجارة الجدران؟

من ينقذ الانجيل؟

من ينقذ القرآن

من ينقذ المسيح؟

من ينقذ الانسان؟"(40).

ومن كلماته،ترتقي القدس ،وتحدد هويتها بروح أديانها،وعظمة احتضانها لكل نصوص التاريخ التي تتباهى بها المدينة،وتحملها على سواعد الكبرياء.

وتطل من روحه معشوقة أزلية،في نبض الهوى العذري فيها،وصعودها دروب الصعب، واللهب الحارق،في احتضان المستقبل الموعود،كما يراه قباني:

"يا قدس يا مدينتي،يا حبيبتي

غدا يزهر الليمون."(41).

وقد اعتبر نزار القدس لؤلؤة الأديان،مستخدما تعابير سهلة ممتنعة، لتفي بالغرض.وهنا أيضا، نستذكر قصيدة مظفر النواب،الذي صاغ فيها كل تعابير الألم،واللوم،في صورة تعبيرية موحية،بترميز معرفي سوسيولوجي،يحمل التأثير  والدلالات المصوبة فوهة البندقية الى التخاذل والصمت، في ارادة تنصيصية، هادفة الى اطلاق نيران الغضب في النص،لتؤتي باكلها على المتلقي،وعند استحضار الصورة،ترى أمامك المرأة الضحية المغتصبة من الزناة،وصرخاتها أمام الجميع،وهم يسترقون النظر اليها،وكأنه لا يربطهم بها رابط،اشارة الى المستوى الأعلى من الظلم والاستهتار،كما نستذكر القصائد الرائعة التي غنتها فيروز باضاءات نوعية خاصة،شقت الظلام الموحش،أكدت الهوية الوطنية،وارتباطنا بها،ورسمت مستقبلها منتصرة تختال بأوشحة الأمان والسلام.

ولا بد من وقفة خاصة أمام ما كتبه الشاعر هارون هاشم رشيد في قصائده المتعددة،وخاصة في ديوانه"أحبك يا قدس".

"أحبك يا قدس لا تسأليني

لماذا،وكيف،وماذا أحب؟

فاني حملتك جرحا سخينا

بأعماق قلبي،ونارا تشب

أنا عاشق،مدنف ،مستهام."(42).

ويأخذ ضمير الشاعر الفنان في رحلة العشق المتسامي،ثم يبدأ بتوصيف القدس في رحلة العشق الأسمى،بصور خاصة، تفيض عشقا دلاليا،يتوقف عند عظمة العشق الذي يسير في دمه،ويغذي روحه بكل القيم العليا،ثم يضيء شعلة الأمل، والايمان بالنصر القادم.

وفي نص آخر يقول:

"حبيبتي،

مدينة "القدس"،

أجمل المدائن..

ويكثف الوصف بروح العشق النفاذ:

"القدس"

منذ البدء حتى الانتهاء

حبيبة للأرض والسماء

"القدس"،

دار الأنبياء

ومنزل الوحي

ومشرق الضياء

"القدس "موطن الفداء"(43).

وهنا استشرف كل جمالياتها وصفاتها الملازمة لها،ولم يقف عند هذا الحد فقط،فقد غاص في تفاصيل ملامحها ونضالاتها،وجراحها،وما قام به الاحتلال من تغيير معالمها، باسترسال خاص،

"هذي طريق" القدس "من "عمر"الى

أبنائنا تسمو بهم ،وتمجد"

ثم يعيد تأكيد الهوية:

"القدس عاصمة لنا ولشعبنا

جيل الى جيل تدوم وتخلد".(44).

وكان صوت هارون هاشم رشيد رصاص هادر مصوبا الى قلب الاحتلال، وكل المتخاذلين،في نداء عروبي ،ووطني للدفاع عن القدس.

وهارون هاشم رشيد،يطل على فلسطين اطلالة الفارس العاشق،ممتشقا سلاح الروح بحنين أخاذ،ينفذ الينا بنشيد شامل لكل فلسطين.وهذا ما قاله عنه الشاعر مراد السوداني الأمين العام لاتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين في تقديم ديوانه،وهو يضيف:ِشهد النكبة وعذابات شعبه ،وأهوال العصف في البلاد،أوقف شعره وفعله الثقافي على هذه الفلسطين،باعتبارها رأس القضايا،و يؤكد السوداني البعد التلاحمي ما بين الانسان والأرض في توصيف تلاحمية العلاقة ما بين الشاعر والأرض،ما بين الشاعر وفلسطين.

يعود هارون هاشم رشيد عودة شعرية وارفة الى ترابه وبلاده ،محمولا على حنين مكين،حنين ذابح وجارح في آن،مواصلا النشيد بحتمية العودة،وهي ثابتة الراسخ رسوخ قصيدة العنيد الذي يصر على منازلة الاحتلال من قبل من بعد..

يغني فلسطين..كل فلسطين..ويرفع الجراحات بيارق هاتفة بالنصر والتحرير..والعودة الواجبة(45).

يؤكد الشاعر هويته المقدسية قائلا:

"أجل اني من "القدس"

وفيها قد نما غرسي

ومن "كنعان"بي نبض

ومن "عدنان" من "قيس".(46).

وهو هنا يشيد بالانتماء والتاريخ ،والعلاقة التجاذرية في صلة الميلاد التاريخي، الذي لايمكن تغييبه،ثم ينطلق الى حاضرة الزمان،ليصف ما جرى في مدينة القدس من ارهاب ضد شعبنا،من استشهاد الأطفال، ونسف البيوت،وشلالات الدم الفلسطيني، ويصف مؤذن الأقصى وهو يحاول اعلاء صوته ليخترق الظلم:

"أمؤذن الأقصى حزنت لأن صوتك لم يصل

ولأن أمتك التي تدعو لنجدتك تقتتل"(47).

وظلت قصائد الشاعر تهيم بالقدس،ولم تتوقف عند زمن،بل انه لا يزال يفجر روحه نصا خالدا.

الانتفاضة المباركة                                                     

 لم تعش القدس في أزمانها الفائتة زمنا أرقى من زمن الانتفاضة الشعبية المباركة،التي اندلعت فيها نيران الغضب على المحتل،وكان شعارها المعتمد:

لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة.".لا صوت يعلو فوق صوت فلسطين".والانتفاضة حركة جماهيرية نضالية،هب فيها الشعب الفلسطيني ثائرا على المحتل،رافضا الهزيمة،باعثا الأمل للأجيال..انه ثورة الغضب،ثورة الحرية ومركزيتها القدس،حيث تشكلت اللجنة العليا للانتفاضة من ممثلي الفصائل،وأصدرت البيانات التنظيمية،لتنظيم المظاهرات والاضرابات،وسارت الانتفاضة بنهج سياسي اجتماعي تكافلي وتكاملي،قضقضت أركان المحتل،وأثمرت بعودة القيادة الفلسطينية الى أرض الوطن ،بعد مؤتمر مدريد الذي تلاه توقيع اتفاق" أوسلو".

وقد عاش الكاتب الفلسطيني ذروة الانتفاضة بقلمه ومشاعرة،ومشاركاته العملية،ولا أبالغ حينما أقول،بأنه لم يبق كاتب ملتزم الا وواجه الاعتقال ،والاقامة الجبرية، وغيرها من العقوبات الجماعية، التي انتهجتها حكومة الاحتلال.وجاء القلم،ليكون المعادل الموضوعي للبندقية،كما كان دائما ضمن مسيرة الثورة الفلسطينية،ونشرت القصائد المنتفضة والذي شكل "الحجر"فيها صورة نضالية هامة،وكان البطل الأسطوري الملازم لأطفال الحجارة.

لم يكتب الشعراء الفلسطينيون عن الانتفاضة فقط،بل طافت معها،وبها، الأقلام العربية ،وكتاب العالم،الذين بهرتهم قوة الارادة الفلسطينية،وجاهزية الشباب للتضحية.

والقدس كانت الموقع المركزي للانتفاضة الشعبية العارمة،وفي ساحاتها، أطلقت المقاومة والثورة بتفاصيلها اليومية،فكان لها بعد شعاري وتثويري لا يوصف،انطلقت الأقلام،وطافت في ميادين الانتفاضة،وسارت القصائد بايقاع خاص،تشعر من خلاله وقع الخطى الكفاحي في كل موقع من مواقعها.

كتب الشعراء الفلسطينيون والعرب،وأبدعوا في التصوير.

وشكلت القصائد وجدانا جمعيا، ورؤيا ملحمية للوطن،لتطل القدس شامخة،عصية على الانكسار.

وقد سجلت تجربة خاصة في الانتفاضة،كتبت لها ولاجلها،حتى يتحقق يومها،ولدت في مدينة القدس ،عشت طوال حياتي فيها،وشكلت في وجداني حضورا معرفيا،سياسيا وانسانيا،يفيض بالعشق الألهي،ويرتبط بذاكرة الطفولة في شوارعها وزقاقها ومدارسها،واستحوذت على نصوصي الخاصة بها،بوله الحب،والتغني بها،بملامحها وانسانها المقاتل ،وقدسية التضحيات.وأصدرت كتابي الأول"من دمي أكتب"،سجلت رحلة التضحيات في مدينة القدس،بتفاصيلها ،وأقانيمها، في احتراق داخلي معذب..وفي التقديم أقول:"مع الارادة الشامخة التي تنفث من روح الشعب المناضل من أجل فلسطين،أقف على مشارف القدس،تمتد يدي الى الثرى الخضيب بالعظمة والكبرياء،بهذه الباقة من زفرات الذات، التي انطلقت من جوهر الواقع والحدث،ممتدا عبر حواجز الزمن، ليعانق الأرض التي ولدت العظماء.(*).وفي نص آخر أقول:أكتب عن القدس ،ولأجلها،حتى يتحقق يومها، ويتحقق انتصارها،وبعدها سأكتب لكل شيء،وعن كل شيء."(48).وظلت كلماتي ملازمة للانتفاضة،مبشرة بالنصر.

والقدس هي المكان الأعلى في النص الأدبي ،عاشها القلم بمداد دائم مفعم بالأشواق ،وهي محور القصائد والنصوص المتميزة المربوطة بالمد الكفاحي،ليظل الفداء والتضحية،الشعار الدائم بنص التنفيذ.كما جاء في قصيدة"ولدت فدائي".

"الأرض تهتف للرفاق ندائي           فقفوا معي لتحية الشهداء

سيروا على درب النضال ورددوا    اني لأرضي قد ولدت"فدائي".

ثم ينطلق النداء لفلسطين ثم للقدس في هذه الأبيات:

"ايه فلسطين الحبيبة انني           أفدي ثراك بمهجتي ودمائي

يا قدس أرض النار هذا موطني     بثراه تعلو رايتي ولوائي"(49).

وتأتي القدس في تداخل ملحمي مع الوطن الأساس فلسطين،فهما لا تنفصلان،كما رأينا في قصائد أبو سلمى.

وفي قصيدة "كلمات الشهداء الأخيرة على أرض فلسطين"،يتفجر النداء الخاص لمدينة القدس،انطلاقا من وعي الأهمية السياسية والوجدانية،في معايشة الألم،وكثافة نبض الأشواق لها:

"يا قدس أرضي والفؤاد موجع         والقلب يهفو دائم الخفقان

رمز الخلود لامة معطاءة                 رمز العطاء على مدى الأزمان.

يا قدس جرحك جرحنا ونشيدنا            فتسلحي بالصبر والسلوان.

انا جعلنا بحرنا ورمالنا                   نارا على الأعداء والطغيان."(50).

ونشعر هنا،بمدى عمق العلاقة التلاحمية ما بين الانسان والأرض.

وتستمر الانتفاضة،وتظل قصائد الشعراء تنبض بها،وتظل القدس علامة فارقة في روح التحدي.

لقد عشنا التجربة العملية المرئية في الانتفاضة الأولى،بكل تفاصيلها اليومية ومفاجئاتها.تحضرني الآن صورة الشباب الملثمين، وهم يغلقون الشوارع على المحتل،ويوجهون تعاليم الأداء النضالي للشعب،فتسمع في شارع صلاح الدين، الأغاني الثورية والتثويرية،وينتفض الانسان،وينطلق الشباب،يشعلون الاطارات،ويغلقون الشوارع،ويسيرون في مسيرات ثائرة،ونحن معهم،والقلم ينبض بهم.

ونستذكر قصيدة نزار قباني بهروا الدنيا:

"بهروا الدنيا وما في يدهم الا الحجارة

وأضاءوا كالقناديل..وجاءوا كالبشارة

قاوموا..وانفجروا..واستشهدوا

قاتلواعنا الى أن قتلوا".(51).

وقد لخص الشاعر محمود درويش في قصيدة الانتفاضة الصارخة النداء،مطلب وحلم الشعب الفلسطيني:

"أيها المارون بين الكلمات العابرة

"آن أن تنصرفوا

آن أن تنصرفوا"(52).

وفي الانتفاضة،ولدت نصوص كثيرة هامة تسجيلية لوقائعها،يصعب في هذه المداخلة أن ندخل بتفاصيلها،ولكنها ستظل مدرسة نضالية نوعية،ومرجعية للقلم والفداء.

وفي الانتفاضة الثانية،كتبت قصائد كثيرة،بدماء تجربة الألم الذي بلغ مداه،وكانت الكلمات مكتوبة بايقاع متجدد،وبملامح أخرى، ميزت القصائد،وبدا المكان والزمان جليا في رحلة صعبة المراس،عاشها شعبنا،وكتبها شعراؤنا بحبر أسود،يرسم الشهداء الذين ترجلوا فداء،فكان المشهد اليومي ،دم يخضب الثرى،ودمار يمزق الروح،وعدو مفترس يترصد وحصار.

اشتد ارهاب حكومة الاحتلال ضد شعبنا،فقامت باجتياح المدن الفلسطينية ثانية،قسمت المناطق،وأطلقت الحواجز،وتبنت سياسة التدمير لمقدرات الشعب الفلسطيني،حاصرت الرئيس عرفات والشعب الفلسطيني،وبحصارها هذا حاصرت الانسانية.

وأصبحت القدس ممنوعة على أهلها،ولم يسمح لسكان المدن الفلسطينية بعبور القدس حتى للصلاة،,أغلقت بوابات الأقصى أمام المصلين،وكان المصلون يتحدون ويتجمعون في باب العامود،ويقيمون شعائر الصلاة والبنادق مشرعة أمامهم،ويتساقط الشهداء على أبواب القدس.

وقد سجلت هذا الحدث النضالي،في احدى أيام الجمعة،حيث منع المصلون من الصلاة،وتحولت القدس الى ثكنة عسكرية،رفع المصلون الشيخ على أكتافهم ليقيم خطبة الجمعة،وكان الرصاص سباقا،فاستشهد الشيخ وعدد من الشبان،فكان هذا النص:

"دثريني يا ساحات الاقصى بنداءات الله أكبر الله أكبر

دثريني أيتها الجموع المتجمعة في لقاء الله

دثريني،وامسحي الحزن عن جبيني

وواري أرقي

واستحضري روحي في فضاء الياسمين

اني أتوحد بك(53).

ثم أتابع:

"دثريني يا أمي

ياسليلة الصديقين والخالدين

بطيب ثرى وطني

الذي أرادوه بعيدا عني

ولكن أريجه اقترب مني

وضمدني من بين أحداق البنادق المشرعة."(54).

وأتوقف الآن أمام ما كتبه الشاعر الكبير أدونيس حول القدس في كتابه كونشيرتو بيت المقدس ،برسالة انسانية غير مسبوقة،ورؤيا جديدة هادفة ،تتلخص بضرورة تحرير الأرض من معتقل السماء،وتحرير التاريخ من تدخل الآلهة السكرى بتعذيب البشر.(55).يعرض مشهدا تراجيديا للقدس،حين يقول:القدس عالم يفلت من لوثة الغيرية،ويتمركز حول الذات،انها زمن نرجسي بامتياز.

يستحضر أدونيس القدس نصا معجما،باستخدام رحلة التاريخ، بأقوال هامة للعلماء والمفكرين،والتي بدورها تنقل المعنى الذي أراد الشاعر أن يصل اليه ،في نهج فني وابداعي في ربط المكان برؤى لأزمنة فائتة،

فهو يقول باشارات اطلالية على الواقع بنص تعبيري راق:

"في بدء العالم،كانت الكلمة

وفي بدء الكلمة كانت الدماء."(56)

وهذا نص تعبيري ترميزي، راسما تقديما راسخ الدلالة، بماهية القدس،وتوصيفاتها النوعية غير المسبوقة:

"موجز سماوي اسمه القدس،الناس

فيها

اثنان

ميت يقيم في السفر،وهو مكان متحرك.

وحي يقيم في القبر،وهو مكان ثابت

وكلاهما يقيم خارج نفسه(57).

وتسترسل ريشة الفنان لرسم القدس والمأساة،

مأساة القدس انها لا تلد الا نفسها ،ما دامت مملوكة لزبانية السماء.

ان الآخر غير موجود بعيدا عن السماء الفارغة.(58).

وهذا تصوير نوعي خاص،ينطلق من المأساة التي تبدأ بشمولية القدس، وهي تلتحف الكنيسة،وترتبط بالأنبياء،لتمسح الصدأ الذي يعلو نعل السماء،وهي هنا،وبرؤياه،تمثل مشهدا استثنائيا، ونموذجا لصدام الوحدانيات،فارشة ألما ممتدا،بنص يخرج عن الاطار السياسي الضيق الذي سجن القول الابداعي عن القدس في كرة الدم، وتنازع المرجعيات اللاهوتية حول الأحقية التاريخية،للأمة الموعودة بالسماء في المدينة العتيقة، كما يرى الكاتب الجزائري أحمد بلباني:

"انها قصيدة بانوراما تستحضر مدينة القدس بعيدا عن الهواجس النضالية "(59).

وفي توصيف مميز،يطل أدونيس على أهل المدينة بترميز استشعاري،بالغ الأثر حين يقول:

"اعرف نفسك أيها الفقير،أيها الشيخ الطفل الراكض في شوارع القدس،أمرت أن أقدم لك عصير اليورانيوم،وسوف أقول للقمر أن يوقع على دفترك "(59).

تداخلات وصفية ايقاعية دلالية،تلقي الضوء الكثيف على القدس،في رحلة العذاب،وترسم ايقاعا خاصا،في لوحة تراجيدية،تستشعر النبض فيها من قريب ومن  بعيد:

"أنت الآن في سماء أخرى،حولك جدران تنزف دما،رؤوس شبه مقطوعة لا تتوقف عن الكلام،والحياة شيخة لها وصف قنديل يكاد أن ينطفيء،تحاول الريح أن تشعله".(60).

والقدس في هذا العمل ليست فردوسا مفقودا،وانما جحيم أرضي وانشقاق ذاكرة...وهي تحاول الاستئثار بوعود السماء والأبدية..

ويرى بلباني أن هذه المدينة تمثل بسماء على الأرض.(61).

وما طريق الخلاص الا،وكما يراه الشاعر،في رحلة التشبيك في الأرض والتاريخ والجسد،وقيمة الحب العليا .

سأظل مأخوذا بالشهب التي تتلألأ في جوف الحب،مأخوذا بالحب،(62). وأي حب تتلألأ الشهب في جوفه،يحمل  السحر السماوي؟وسر كون المدينة سماء على الأرض،وكيف يتم تحرير الأرض والقدس من معتقل السماء،لتطل في ألقها الخاص النوعي، بعيدا عن التشبب بعوامل البقاء التجزيئي؟واستعادة الشكل الحقيقي للمدينة،كما في هذا النداء:

"متى ينتهي تاريخك يا جارية السماء والنبوءات"؟؟. 

في وصف القدس عند أدونيس،تشعر انك تدخل عالما آخر،ورؤيا جديدة في رسم القدس،وعلاقاتها التاريخية والتوحيدية،بأمنية عاشت في روح الشاعر ،ليرى القدس حرة من خيوط الصراع،والتوجه الى السماء، بعلاقاتها في المدينة،وتوارثها المشاهد والنصوص في فكرة الموروث الثقافي والديني، الذي يضعها أحيانا،في قفص منصوص بتبعيات الأديان وتداخلها، ورؤآها الواحدة والمتعددة،والتي تجعل القدس ضميرا تشابكيا موصولا بها،ونصا افتراضيا مرهونا بروح الرؤى صعودا وهبوطا،لتواجه المأساة، بأنها لا تلد الا نفسها ما دامت مملكة لزبانية السماء.وهو بهذا يختلف عن باقي الشعراء الذي شخصوا القدس،بدءا من التاريخ،ومركزية الأديان التي جعلت منها كوكبا لا ينطفيء،ناهيك عن ملامحها التاريخية وجذورها والتي أبدع الشعراء في استحضارها.

وقد رسمت القدس بنص مميز للشاعر الشاب تميم البرغوتي،الذي رسمها بتفاصيل العابرين اليها،بايقاع خاص،وبسؤال حول ما يمكن أن يرى في القدس،تجيب القصيدة:

"قلت لنفسي هي نغمة

فماذا ترى في القدس حين تزورها؟؟

في القدس توراة وكهل جاء من منهاتن العليا

في القدس شرطي من الأحباش

يغلق شارعا في السوق.."(63).

ويصور تميم أيضا،منع قوات الاحتلال المصلين من أداء الصلاة،فيصلون على الاسفلت،ويبعثون الهوية:

"في القدس صلينا على الاسفلت

في القدس من في القدس الا أنت(64)

ويصف تميم القدس بالغزالة،وحكم الزمان بالابتعاد عنها:

ما زلت تركض خلفها

قد ودعتك بعينها(65)."

ثم يسهب في وصف القدس بحجارتها ورخامها،ورغم السواد،يرسم تميم الأمل حين يقول:

"في القدس أعمدة الرخام الداكنات

في القدس،رغم تتابع النكبات

ريح براءة في الجو،ريح طفولة

فترى الحمام يطير يعلن دولة

في الريح بين رصاصتين"(66).

ثم يعاود العبور الى القدس مثقلا بالهموم،وبخوف الآتي خلف النجوم:

"الكل مروا من هنا
القدس تقبل من أتاها كافرا أو مؤمنا
القدس صارت خلفنا."(67).

                                    
الخاتمة..

القدس والنص الغائب

هي رحلة في ايقاع النص،وابتهاج الحروف،وأنتصار النقاط في رسم المعنى الذي أراده شعراؤنا أن يكون.

تتوقف في محطات معبدة بالجروح،أمام نصوص شعرية مبدعة،صاغها شعراء المقاومة،بنبض القلب،ومرارة الحزن،وروح الأمل،لتكتمل القصة المكتوبة بكفاح شعب، لم يتوقف حلمه.

كانت الرحلة في قراءة النصوص الرائعة،والتعمق بها،وقراءة ما بين السطور،تحمل أدوات حضورها،آفاقا تتشابه في النص، وفي الرمز ،وفي المعنى،وتختلف، أو تتقارب، في مبنى القصيد.

هنالك نصوص كانت مباشرة،واضحة الدلالة،مركبة الايقاع،متباينة بالأسلوب،وهنالك نصوص أخرى مرسومة بعمق البلاغة.

والنصوص المباشرة رغم أهميتها،قد خلت من الرمزية ،وسارت باتجاه الهدف،فكان النص محكوما بالقافية أحيانا،والتي بدورها تفترض اختيار بعض الألفاظ التي تناسبها،وقد لا تؤدي الى حرفية معناها.

أما الصور الترميزية،فجاءت في روح الشوق والتشوق،ومواجهة الوقائع المؤلمة،والتفاصيل في رحلة الفقد،التي كانت موضوعا أساس في تجربة الابداع.الحزن يظلل القصائد،واللوم على أصحاب القرار في التخاذل،وتستشعر أيضا،ثورة الغضب في قلب كل شاعر ملتزم،وفي نهاية القصائد،يرد بيتا أو أكثر يحمل الأمل في المستقبل.

توصيف الأمكنة،تردد في أكثر من قصيدة،والقدس اسما،ظلت في معيار الشروع المبرمج والعفوي في النصوص،فترى المسجد الأقصى ،وصورته التاريخية، وتحرك البعد الانساني به،يرد في العديد من القصائد،وكذلك الكنائس والأماكن الدينية و التاريخية والتراثية أيضا،كررها الشعراء في صورة القدس،وارتقوا بها،وسافروا من خلالها الى المعنى،وصاغوا مبنى القصيد، كل باسلوبه الخاص،وصوره البلاغية والرمزية،التي حملت التأثير الوجداني على المتلقي،وبعض النصوص وردت بالشكل الخطابي المباشر،فكانت أقرب الى نص سياسي منها الى نص ابداعي،وبعضها حلق في مدارات متعددة،وطاف بالقدس في قالب رمزي موجه،تجاوز فيها لغة المباشرة،وارتقى في تصوير الحدث والمكان بجمالية خاصة.

ولا بد من الاشارة، الى أن صورة القدس في عيون الشعراء،قد تشكلت بنصوص خالدة،وقد اتسمت بعض النصوص، بالبعد التوصيفي والنقدي. وقد تفاوت الشعراء في كيفية رسم الفكرة، وتنسيب الصورة لها..في بدء الارتقاء،والحضور الفكري والفني ،وجاءت نصوص محمود درويش لتكون علامة فارقة،فقد تميزت بلغة خاصة،ولوحات ابداعية هي الأرقى.

وكذلك صور أمل دنقل وأدونيس،شكلت رؤيا استباقية،مقرونةبنصوص خاصة،مربوطة بمدارات كونية،وفعل تشابكي،يدور النص فيه بعلامات ترميزية لصور منسوجة برباطها الدلالي،بألوان العذاب المر.

أما قصائد أبو سلمى،وهارون هاشم رشيد،تميزت باطلالة صافية التوجه،تلقي ارادتها،أحلامها وغضبها، بنص واضح دون تعقيدات،بتفصيل مواطن الألم وارادة الوجود ومركبات العشق الخالد.

وباقي النصوص،ل سميح القاسم،وأحمد دحبور،حصدت البعد الجمالي والدلالي، تتراوح بين الترميز والنص المباشر الذي ينقل الفكرة السياسية، بلغة السهل الممتنع،بالبعد التثويري المميز.

وتجذبك النصوص،فترى الأمل بروح الشباب،ورسم الحجر والمقلاع،كما رأينا في شعر الانتفاضة الاولى،وكذلك الانتماء الموجه،والاصرار على الدفاع عن الحق الأبدي،فتبتسم الروح،وترسم الأمل حينا، وترسم اليأس حينا آخر،وتظل في مضاء المرواحة بين الاشراق والانكفاء.

ونرى أيضا،تداخل المحاور الثلاثة في النصوص،فحين يصور المكان،يتحرك منه، وفيه، البعد الزماني، ووقائع الاحوال،وكذلك، في النصوص الموقوته في زمن معين، فانها غير مفصولة عن المكان،ولا رسم الوقائع.

ونحن نقرأ النصوص،مربوطة في الزمان والمكان،وما عبر من أحداث،ترتقي الهوية الوطنية شامخة،منقوشة بقلب كل فلسطيني.

ولكن،ونحن الآن نعيش في روح القصائد الكبيرة التي ذكرتها،وآفاق الواقع،نستشعر الفجوة ما بين القصائد والواقع،وكأنما صارت القصائد نصوصا بعيدة، لما تحمله من نقاء الفكرة،والصورة الابداعية للمدينة بصورتها الذهنية المجردة،ومصطلحات مقاومة،ومفاهيم بعيدة عن سياسات الاستسلام،والتي قادت الوعي العربي الى حين.

لنرى مصطلحات سياسية تدخل الينا،وتلقي أثرها على المبدع،وأصبحت القدس تقاسيم.فحينما كنا نتحدث عن القدس،نستشرف حضورها فينا، نصا متكاملا،القدس هي القدس، لا شرقية ولا غربية،وحينما رسمنا أسوارها،مآذنها،كنائسها،كانت أيقونة الوجود.والآن تغير شكل الأسوار،واقتحمت الكنائس والمساجد،وتغير شكل المدينة.فكيف سيكون النص؟وكيف يصير النص ؟وبأي ايقاع يصاغ.؟

أسئلة لا بد لها من جواب!

حتى لا نظل نغرق بالخيال..وبالشعار.

وحتما اننا، كشعراء ،مقصرون في هذه المرحلة..لأن الشعر رسالة الحرية،ولا بد للشعراء من رسم حالة،وخلق تغيير.والابداع أيضا،رسالة اعلامية تثويرية مؤثرة،تساهم في تغيير الرأي العام،والوقوف أمام سياسات التهاون،والا كانت كلماتنا فنية من أجل الفن،والدولة التي لا يؤثر فيها نص شاعرها،عليها أن تراجع نفسها.

فماذا فعلنا في هذه المرحلة؟وماذا قدمنا؟وكيف وجهنا السياسات التي تفرض علينا؟؟.

حتما،هنالك نص غائب في وصف المدينة،نص شمولي يرتقي بالحالة الفلسطينية في القدس،لما تحمل من آفاق على جانب كبير من الأهمية،لكي ينقش تاريخية القصة النضالية التكاملية والفنية،بروح المبدع والفنان،لان الشاعر، ليس منظرا سياسيا،ولا مؤرخا،بل هو مبدع،ناقل لواقع موضوعي،مرتق به الى مستوى الى مستوى التفاعل والارتقاء الفني،ليليق بالفكرة.

ومن هنا تتصدر الفكرة المشهد الابداعي،بكونها اضاءة وعي الواقع،وهي النبوءة،والامتدادات في فضاءات ومساحات المستقبل،واستشراف التطبيق السياسي والاجتماعي لها،بفعل استعادة تشكيلية خلاقة،بمدى تنفيذي للعدالة.

واضاءة على واقع النضال الفلسطيني،من خلال النصوص الابداعية والجمالية،نرى ان القضية بشكل عام، والقدس بشكل خاص،هي ذات الأديب في البعد الجمعي المتوج بالأنساق المعرفية، المجدولة بفضاءات الوطن،والتي تحمل رسالتها في تصوير الألم الانساني في ظواهره السياسية،الاجتماعية والانسانية،يضاف اليها تجربة الأديب الروحية والذاتية، في ايقاظ الروح التي تعيد للواقع وللانسان، انبعاثهما بعد الموت،والتي تحمل اساس قاعدة التميز في تأويل التعبير الفني،واستشراف حقائق الوجود الفلسطيني، والمعاناة بتفاصيلها.

والقدس نص بذاتها في محاور السياسة،وعبق التاريخ،والعشق الموصول في السماء،في رحلة الروح السالك اليها،في كشف اشراقي،محملا بالنبوءة،بفيض سحر الروح،والطواف المقدس حولها..

هي القدس،مهما غزلنا من خيوط حريرية لها،وأوصاف خالدة،وقصائد عشق،فان القلم يشعر، بأن ما لم يكتب بعد،يبقى الأجمل.

ان روحها،انسانها،ونضال أهلنا، معلقات بنص معاصر،  ونص ملحمي تكاملي، يعكس تفاصيل ما يجري،وهذا النص مطلب وجداني ومشروع فني تواصلي مع محكم الفكرة، يشترك به أكثر من شاعر ومبدع،باطلالة الروح وارادة النصر.

وماذا نكتب الآن؟حينما يكون الوطن معلقا على مشانق الجزار؟ووقائع المعركة تسير في تقلبات سوداوية،وتتلظى الأرض بنيران المحتل، ليصير الدم الوضيء أنهارا،فهل غادر الشعراء من متردم،وهل توقف الكلام في زمن القراءة؟؟.

وكيف نصيغ الحلم للقدس، والعودة لفلسطين،أمام كل المؤامرات المحاكة ضدنا،والتي اشتدت كثافتها، حينما أعلن الرئيس ترامب،تقديم القدس هبة للمحتل،وصاغ بشكل ابداعي تشكيلي ملامح المحتل، وكأنها آلهة الجمال،اصطنع الأحداث،جمع الأموال،وفرق القوم،ونشر سياسة البيع المجاني المعلن،أعطى الاشارة،وحقق امارة الفعل،وسار بنهج الاعلان، دون اعتبار للحق التاريخي،ولا رؤية للانسان.

وكان الرد تلموديا،صمت الجميع،وغاب الربيع،واستأسد المحتل،وسار في درب عشق الدم الفلسطيني المهدور،مستندا على قامات كبرى،ودول مساندة.وقد أصبح المحتل بصورة الصديق،يدعى الى قلب العروبة،ويرفع علمه في بلاد ربطتنا بها علاقة الدم،ويكرم،ويمنح هدايا وأوسمة،ويعتلي المنصات،ويبادل الزيارات،وكأن الفردوس ليس محتلا ولا مفقودا،وكأن دم شهداء فلسطين،ومن استشهد من أجل فلسطين من اخوتنا العروبيين "ذاكرة للنسيان".ليأتي السؤال الجارح:"أي نص نكتب؟وقد أصبحنا نصا غائبا؟؟ .

وأي عشق يلتف حول أعماقنا،ونحن نسمع صرخة القدس من بعيد،ولا نحرك ساكنا؟؟

أي حق يسير الينا،ونحن نغفو على عتبات القرار السياسي المنقول؟؟ونتوارى خلف الشعار،ونسدل الستار؟؟ .

وما هو النص المعجز الذي يليق بمدينة المدائن،وقد صمتت المآذن؟؟ومررت حجارة الشطرنج؟؟ .

وكيف سنقاوم المخطط،والخط البياني يرتفع الى قمة تسويق المخطط ببريق الوعيد؟؟

تساؤلات كبرى في ملحمة الوجود الفلسطيني،وفي النص الغائب للقدس،وفي الولوج الاحتلالي لشرايين المدينة.

فأي نص سيكتب القدس،وما هو النص التي ستكتبه القدس الينا في مرحلة الصعب؟؟.

وكيف ستغسل دموعها على شواطيء الندم،أمام غياب الجهاد والنداء والفداء، وتغييب حق الثائرين والصادقين،واقفال الذاكرة.

وماذا يمكن أن يكتب في زمن القراءة الشائكة؟وتداخل الأفكار واشتباك القيم؟؟.

لا بد من كتابة اعجازية، ونص معجز،ولغة ثائرة وايقاع،وروح ابداع متسام،يعلن الرفض بصوت جهوري،دون خوف ولا وجل، والا سنذوق مرارة الوداع،واحناء الهامة للريح،وتباريح للنص المفقود.

هنالك قصائد كثيرة كتبها الشعراء في هذا الزمن المتطرف،المرسوم على قاعدة الصمت والتنازل،حاولوا التحليق في روح الأمل،ولكن الأمل أعلن الرحيل.

ولا بد من وقفة خاصة على منصة القصائد التي كتبت حديثا عن القدس،لندرك حجم المأساة،وتواري الحان الروح بعيدا في قمقم الرهبة،لا بد من قراءة النصوص التي نشرت في هذه المرحلة ،ثانية وثالثة،لنبحث عن القدس فيها،عن فكرة الخلاص،ونبحث عن النص الغائب المقتول ،بسيف مضاء يعبر التاريخ، ويمحو الأثر.

وتظل الكتابة عشق الروح،وثورة الألم.

وكلمات تخترق الجدار، لتنقل عبير التجربة،و مسك دم الغزال المتوج،في توجيه البوصلة من القدس ،الى القدس...الى فلسطين.

وأختتم بأبيات من "أبو سلمى":

"غدا سنعود والآلاف تصغي     
الى وقع الخطى عند الاياب "

ونص "محمود درويش"(68).

"آه فلسطين
يا اسم التراب
ويا اسم السماء
ستنتصرين.
ستنتصرين ".(69).