الحاسة السادسة بقلم محمد بوعنونو
تاريخ النشر : 2020-07-29
الحاسة السادسة بقلم محمد بوعنونو


 الحاسة السادسة
بقلم محمد بوعنونو

      كانت الذئاب محيطة بها، تنتظر بشغف بالغ أن تسقط إزاءهم واجبة هامدة، فيمزقون جسدها الطاهر، ويشربون دمها المقدس، ويرقصون حول جثتها فرحين بالغنيمة، شامتين في فتى الأحزان الذي قضى عليه الواقع بتركها.

قال ذئب لباقي القطيع وهو يعوي على جندل : { إذا أعطتكم وجهها فلا تتركوها حتى تضعوا أيديكم خلف ظهرها }.

بيد أن الغزال ظلت عصية صابرة متجلدة، لا تسلس قيادا ولا تخفض جناحا، ونورها يتراقص بين يديها فيحرق عيون الضباع والذئاب المتربصة بها، ترتعش شفتاها وتختلج قسمات وجهها، وحاستها السادسة تخبرها أنه سيأتي لإنقاذها ويخلصها من الكواسر الفواسق المحدقين بها، فتستمدّ من ذلك قوتها وتتمسك بشجرة الأمل الباسقة ناشدة النجاة ناوية الخلاص.

تستجمع قوتها وتأخذ نفسا عميقا كالليل، طويلا كالدهر، ثم تهمز لسانها قائلة : لصمت الزمان أقوى من عجعجتكم هذه، لم تنل مني الضياغم وملوك الغاب، فكيف تنالون مني أنتم معشر الجبناء، ها الضعف مرسوم على وجوهكم الشهباء، وها الرعب باد على محياكم النتن، ألا قاتل الله إقدامكم المستعار.

ثم سكتت هنيهة كأنها تستدعي الحروف والمعاني، وقد لاح لها من رماد الخوف جمرة أمل فنفخت فيها قائلة : والذي نفسي بيده إني لأسمع حمحمة فرسه وصهيلها، وأكاد أرى حسامه يعكس آخر خيوط الشمس المتدفقة عبرسحب ملونة بحمرة المغيب.

فما أنهت تنهيدتها حتى ظهر فتى السراب يسابق الريح المرسلة، والفرس تقدح النار بسنابكها، ترعد وتزبد وتضبح بصهيلها، ثم امتشق السيف وهوى به على تلك الضباع والذئاب يفري أوداجها وبيقر بطونها ويمزق أحشاءها ويريق دمها ...

ثم ضم الغزال إلى صدره، رافعا سيف العزيمة والأمل، وقطرات الدم تسيل على ساعده وتقطر من سيفه، وهو يرتل { لا يصان الشرف إلا بالدم }، ولمّا أرادا الاحتفال بالنصر، بزغ الواقع المرّ في صورة وحش طوله سبعون ألف عام، فقهر أحلامهما وقضى على أمل كل واحد منهما، ولحس عزيمتهما، بيد أن أرواحهما تلتقي كل ليلة فتكون المشاهدات، وفي الصبح يرجع كل واحد منهما إلى قبره منتظرا قدوم الليل من جديد ...