ساسون حسقيل .. اليهودي الذي وضع أول موازنة في تاريخ العراق الحديث بقلم: حامد شهاب
تاريخ النشر : 2020-07-29
ساسون حسقيل .. اليهودي الذي وضع أول موازنة في تاريخ العراق الحديث
حامد شهاب

كان يهود العراق ، وبخاصة في حقبة الاحتلال البريطاني للعراق وفي فترة الحقبة الملكية ، هم الأكثر طبقة مسيطرة على المال والاقتصاد في هذا البلد ، ولديهم كفاءات وطنية مشهودة ، أسهمت في وضع العراق في تلك الفترة في أعلى سلم التطور المالي والاقتصادي وتنظيم الادارة ، وهم من يشار لهم بالبنان في إرساء تطور العراق ونهضته، وكانت لهم أدوار مشهودة لن ينساها العراقيون على مر الزمان!!

كان وزير المالية اليهودي العراقي ساسون حسقيل أحد تلك الخبرات المتقدمة التي وضعت أول موازنة في تاريخ العراق، وربما في تاريخ دول المنطقة ، وهو المولود في بغداد في 17 مارس آذار 1860 والمتوفي فيها في 31 أغسطس آب  1932!!

إستلم ساسون حسقيل مهام وزارة المالية العراقية بين عامي 1921 و1925، وارسى دعائم نظام مالي واقتصادي متقدم ، أشاد به البريطانيون أنفسهم في أنه وضع للعراق خارطة طريق للنهوض الى حيث يحلم العراقيون بان يكون لهم بلد يرتقي الى مصاف دول متقدمة، في فترة عصيبة من تاريخ العراق الحديث، وهو يرزح تحت احتلال بريطاني سيطر على مقدراته، لكن هذا اليهودي العراقي لم يرضخ لمطالب البريطانيين يوم إستوزر وزارة المالية ، فقرروا ابعاده من منصبه في وقت لاحق وأثبت عراقية وطنية أصيلة ، حفظت لهذا البلد أصالته ومعدن الرجال الاوفياء، لأقليات دينية كانت لها ادوار مشهودة بالوطنية والمسؤولية الاخلاقية في ان تضع مهمة الانتقال بالعراق الى الحالة المتقدمة في أولوية اهتماماتها.

وتشير المصادر التاريخية وبالتحديد في 13 آب أغسطس 1923 كانت الحكومة العراقية آنذاك قد كلفت وزير ماليتها ساسون حسقيل بمفاوضة البريطانيين حول أمتياز شركة النفط العراقية التركية (شركة بريطانية) ، وأدار المفاوضات مع البريطانيين بحنكة ، جدد فيها التأكيد على أن عراقيين العراقيين هي سمة أساسية لكل مواطن عراقي أصيل ، بغض النظر عن دينه ومذهبه، حيث ثَبّت بأن يكون الدفع بالشلن الذهب سعرا للنفط المباع ، ورفض ربط الدينار العراقي بالجنيه البريطاني الورقي، وقد أفاد بتلك الخطوة الميزانية العراقية فيما بعد، وبفضل حنكته وخبراته المالية المتقدمة استرجعت حكومة العراق واردات النفط بالباون الذهبي بدلاً من العملة الورقية بعد إصراره على هذه المعاملة في المفاوضات عام 1925 مع الجانب البريطاني برغم أعتراض أعضاء الوفد العراقي على ذلك كما تشير الموسوعة الدولية الحرة.

وتقديرا من شعب العراق لتلك الخطوة الرائعة فقد قرر العراقيون في ما بعد أهمية هذا الموقف تجديد تولي منصبه لوزارة المالية ، إلا أن تدخل البريطانيين منع ساسون من توليه حقيبة وزارة المالية ثانية.

أجل كان اليهودي العراقي ساسون حسقيل ، هو أول من أرسى دائم ميزانية مالية في تاريخ العراق ، وهو من وضع أول هيكلية لشؤون الضرائب على الأسس الحديثة وكيفية جبايتها، وشارك الرجل في مؤتمر القاهرة عام 1921 برئاسة رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشرل والذي خصص لمباحثات قيام المملكة العراقية.

ويشير مؤرخون إلى أنّه عندما طلب الملك فيصل الاول منه صرف مبلغ 20 دينار عراقي من أجل بناء مدرسة ابتدائية في مدينة الديوانية الجنوبية تلبية لمطالب أهلها فقد رفض قائلا للملك "لقد أقرت الميزانية في البرلمان وليس هناك مجال للتلاعب في أي رقم مما أقره البرلمان".

وينتمي ساسون حسقيل إلى عائلة يهودية بغدادية اشتهرت بالتجارة حيث كان والده من رجال الدين المتفقهين في الشريعة الموسوية.

ولد ساسون حسقيل في بغداد عام 1860 ولم يزل بيته على ضفاف نهر دجلة قائما في منطقة شارع النهر قرب جسر الأحرار حاليا ودرس في مدرسة الاليانس ثم ذهب إلى اسطنبول للدراسة عام 1877. ثم انتخب عام 1885 نائباً في مجلس النواب التركي الأول عام 1908. وساسون هو أحد الأعضاء الثمانية في أول حكومة عراقية قام بتأسيسها السير برسي كوكس "المندوب السامي البريطاني".. ثم عين أول وزير مالية في حكومة رئيس الوزراء عبد الرحمن النقيب المؤقتة بين عامي 1918و1921 ثم اختير لوزارة المالية في وزارة النقيب الثانية والثالثة عام 1921 وفي وزارة عبد المحسن السعدون الاولى ثم وزارة ياسين الهاشمي.

يعد ساسون من الشخصيات العراقية المهمة في تاريخ العراق المعاصر وقد حرص على التقاليد البرلمانية الصحيحة وتطبيق النظام الداخلي لمجلس النواب العراقي فوصفته المس بيل بأنه "أقدر رجل في مجلس الوزراء هو صلب قليلاً وينظر إلى الأمور من وجهة الحقوقي الدستوري دون أن يعطي اعتباراً كافياً لأحوال العراق المتأخرة ولكنه حر ونزيه إلى أبعد الحدود".

شغل ساسون حسقيل منصب وزير المالية لخمس مرات في فترة الحكم الملكي، وأسهم بشكل كبير في وضع الأسس الصحيحة لقيام الاقتصاد العراقي وبناء نظامه المالي على وفق نظام دقيق. وحين عرض على مجلس الوزراء نظام وزارة المالية واراد البعض أن يعارض اقتراحات ساسون غضب وقال لزملائه الوزراء هذا موضوع اختصاصيّ وكما أني لا أعارض الهاشمي في الشؤون العسكرية ولا فلانا في موضوع الإدارة الداخلية فلا أوافق على معارضتي في موضوع هو من اختصاصي والنظام من رأيي فان وافقتم عليه فبها وخيراً والا فلا أعمل معكم وغادر المجلس. ثم ذهب رئيس الوزراء الهاشمي اليه وأرجعه إلى مجلس الوزراء في جلسة أخرى حيث صودق على نظام وزارة المالية حسب اقتراح ساسون كما اعده.

وسعى ساسون قبل وفاته لان يختم حياته بمنجز آخر من خلال وضع خطة دقيقة من أجل إصدار عملة عراقية وطنية وسعى جاهدا من أجل تحقيق ذلك يساعده يهودي آخر هو إبراهيم الكبير مدير عام المحاسبة المالية آنذاك وبالفعل فقد تم ذلك عام 1932 وأصبحت النقود العراقية هي المتداولة بدلا من الروبية الهندية والليرة التركية.

وقد قضى ساسون حسقيل حياته عازبا وقد جمع مكتبه فخمة تعدَّ من أكبر المكتبات الشخصية في بغداد وكانت غنية بمختلف الكتب باللغات العربية والتركية والإنكليزية والفرنسية والألمانية وقد استولت الحكومة العراقية عام 1970 عليها وأودعت في مكتبة المتحف الوطني العراقي.